على أصوات الرصاص الحي ومع دخان الغاز المسيل للدموع وسط مدينة طرابلس اللبنانية، ساد جو من الخوف والحذر في مختلف المناطق التي تترقب حصيلة ما سينتج عن التحركات الشعبية بالمدينة، التي تصنف وفق آخر الدراسات الأوروبية، على أنها الأفقر بحوض البحر المتوسط.
وعليه فإن حدَّة المواجهات وسقوط الدم في الشارع ينذران، بحسب المراقبين، بكارثة أمنية واقتصادية وشيكة، في ظل تبادل الاتهامات بين القوى السياسية باختراق التحركات وفرض أجندات وضغوطات عبر الميدان، في حين أن السبب الفعلي لنزول الناس هو سياسات الحكومة اللبنانية التي فرضت الإغلاق العام بسبب تفشي وباء كورونا، دون دفع تعويضات مالية وغذائية للأسر الفقيرة المتضررة من الإغلاق.
وفق ما صدر عن مصادر رسمية، فإن المواجهات أسفرت عن سقوط نحو 226 جريحاً من المدنيين والعسكريين، وأكّد الصليب الأحمر أن نحو 35 مصاباً تم نقلهم إلى مستشفيات المدينة، بعضهم بحالة حرجة.
قتيل وجرحى بالمئات.. العنف يواجه المتظاهرين
وكانت الحشود بدأت تصل إلى ساحة النور وسط المدينة منذ الرابعة من بعد الظهر، من أبناء طرابلس والمناطق المجاورة وحتى من محافظة عكار، وأُشعلت الإطارات وسط ترديد مكبرات الصوت أغاني الثورة التي أعادت الأجواء الحماسية الى الحراك، فيما توجَّه عدد من الشبان إلى السراي وأشعلوا النيران في غرفة الحرس، وقاموا بخلع الباب الخلفي للسراي، رغم التدابير التي اتخذتها وحدات الجيش والقوى الأمنية.
القوى السياسية تتبادل الاتهامات.. رسائل في الميدان
يؤكد مصدر سياسي في مدينة طرابلس لـ"عربي بوست"، أن خروج الناس في التظاهرات والميادين رفضاً للواقع الاقتصادي ولما رأوه من جريمة الإفقار الممنهج بحق المدن اللبنانية- طبيعي، وأن الجميع حذَّر المسؤولين من عواقب سياساتهم الاقتصادية والاجتماعية. وبحسب المصدر فإن رئيس الجمهورية وبدلاً من أن يقوم بواجباته تجاه شعبه والتخلي عن الشروط الطائفية التي تعرقل ولادة حكومة إنقاذ، يقوم بممارسة التعطيل في سبيل شروط صهره الوزير جبران باسيل.
يحمّل المصدر التيار الوطني الحر وتيار المستقبل ومن خلفهما حزب الله، مسؤولية ما آلت إليه الأمور في المدينة، ولا ينفي أن تكون بعض الجهات السياسية أو الأمنية استفادت من التحركات الشعبية، لغايات يراد منها الضغط باتجاه فرض شروط على عملية تشكيل الحكومة، لكنه يرفض شيطنة حراك الناس المُحق والمشروع والذي على الجميع دعمه وتبنيه.
فيما تؤكد مصادر في مجموعات المعارضة والحراك أنها تحضّر لسلسلة تحركات بالتوازي مع ما تشهده مدينة طرابلس للتخفيف عنها، وأنها ستفتح معركة مع السلطة التي ما زالت تعيش مرحلة ما قبل الثورة، بسبب تعاطيها المكشوف في مقاربة ملف تشكيل الحكومة و"سياسة التحاصص".
قمع وعسكرة..
من جانب آخر يقول نائب رئيس تيار المستقبل، الدكتور مصطفى علوش، لـ"عربي بوست"، إن ما جرى بساحات مدينة طرابلس طبيعي في ظل انسداد الأفق السياسي وممارسات العهد الحاكم، برئاسة ميشال عون، ومستشاريه وصهره، ويؤكد أن الحكومة والرئاسة تؤكدان مرة جديدة، أن المناطق ذات الغالبية السنية ليست في سُلم أولويات المجموعة الحاكمة التي تريد إظهار المدينة كنموذج غير مدني.
يرفض علوش الاتهامات الموجهة إلى تياره السياسي من قِبل فريق رئيس الجمهورية، الذي يتهم الرئيس الحريري بتحريض الشارع للضغط على الرئاسة للقبول بشروطه، ويؤكد أن الفريق المتمثل بحزب الله والتيار الوطني الحر، هو الأكثر خبرة بزرع الفوضى.
وحول التعاطي القمعي من قِبل الأجهزة الأمنية تجاه المواطنين، يرى علوش أن لبنان يصنَّف ضمن دول العالم الثالث، حيث يتصرف أمنه وعسكره بطريقة مخالفة لحقوق الإنسان عكس الدول المتحضرة، التي في حالة نشوب تظاهرات يبلغ عدد جرحى قوات الأمن بقدر عدد جرحى التظاهرات، ويرى علوش أن مصاريف قمع الاحتجاجات من قنابل غاز ورصاص مطاطي كافية لدفع مساعدات للناس.
ويختم بقوله إن المناطق السُّنيّة هي الأكثر فقراً والأقل قدرة على التحمل، وهذا يعود إلى غياب القيادة والزعامة، إضافة إلى غياب دعم المؤسسات الخيرية التي أوقف عملها أو حُجب عنها التمويل .
الجماعة الإسلامية تدعم الحراك، ولم تشارك فيه..
ينفي المسؤول السياسي للجماعة الإسلامية في الشمال إيهاب نافع، لـ"عربي بوست"، أن تكون الجماعة حاضرة في الإحتجاجات الحاصلة بالمدينة، لكن وبحسب نافع، فإن الجماعة تقف مع الناس وتقدّر تحركهم المطلبي الذي يعبّر عن الغضب من ممارسات الإفقار والفساد المتبعة من قِبل المنظومة الحاكمة في السياسة والأمن والإدارة، ويحمّل نافع، التيار الوطني الحر ورئاسة الجمهورية مسؤولية ما حدث، من حيث جر الناس إلى الخروج في هذا الوضع الصحي الصعب، فيما كان الحل ممكناً عبر دفع مساعدات حقيقية للأسر الأكثر فقراً في البلد، نافياً أي استغلال سياسي للتظاهرات، وهذا ما يبدو من خلال وجود بعض المندسين المحسوبين على قوى معروفة الانتماء والأجندة، لإيصال رسائل على حساب الناس، لكنه يؤكد أن التظاهرات قد تتوسع لتصبح أكثر قوة وربما أكثر عنفاً.
التيار الوطني الحر: "المستقبل" هو المسؤول
يؤكد مصدر قيادي في التيار الوطني الحر، لـ"عربي بوست"، أن الاحتجاجات في طرابلس مُحقة، وأن التيار يتفهمها، لأن الناس يذوقون الفقر والمرارة، لكن بحسب المصدر فإن ما يجري من ممارسات مشبوهة يتحملها تيار المستقبل، الذي يريد القول إنه يستطيع فرض شروطه على القوى السياسية في عملية تشكيل الحكومة، وبحسب المصدر فإن أحداث طرابلس يراد منها توجيه رسائل إلى رئيس الجمهورية؛ لإخضاعه للقبول بشروط الرئيس المكلف، وهذا لا يمكن أن يمر، لأن لعبة الشارع قد تنقلب على صاحبها.
يؤكد الناشط السياسي في مجموعات الانتفاضة الدكتور سامر الحجار، أن الحديث عن مشاركة قوى كتيار المستقبل وحزب الله ومجموعات محسوبة على الوزير السابق أشرف ريفي أو رجل الأعمال بهاء الحريري، إضافة إلى الحديث عن دور الأجهزة الأمنية- غير ثابت، لكن الثابت الوحيد، بحسب الحجار، أن ما يجري هو أن الواقع المعيشي والإنساني بات عدمياً، وأن الفقر والعوز هما المسؤولان عن خروج الناس لمواجهة السلطة المسؤولة عن كل الأزمات والمصائب؛ بدءاً من مقاربة الإفلاس الاقتصادي وصولاً للتخبط في مواجهة أزمة كورونا.
وبحسب الحجار، فإن "ما تشهده مدينة طرابلس من أعمال عنف كان متوقعاً وغير مستغرب، لأن كل المؤشرات السياسية والاقتصادية في لبنان عموماً وطرابلس تحديداً، كانت تؤشر على أننا ذاهبون نحو انفجار اجتماعي وسياسي".
ويلفت إلى أن المتظاهرين اليوم في طرابلس فئات معينة من الأكثر فقراً وتهميشاً، ومعظمهم لم يسبق أن شاركوا في تحركات 17 أكتوبر/تشرين الأول، ولم يعبّروا عن رأيهم، والآن جاء دور رفع صوتهم، لأنهم فقدوا القدرة على الصمود في ظل تفاقم معاناتهم المعيشية.