تشهد المنطقة المحيطة بفنزويلا خلال الأسابيع الأخيرة واحدة من أكثر لحظات التوتر العسكري في نصف الكرة الغربي منذ عقود، بعدما دفعت الولايات المتحدة بقطع بحرية ضخمة وقوات عسكرية إلى تخوم البلاد خلال الأيام الماضية في إطار ما بات يعرف باسم "عملية الرمح الجنوبي".
وبينما لمّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى أنّ قراره "قد اتُّخذ" بشأن كيفية التعامل مع حكومة الرئيس نيكولاس مادورو٬ الذي أعلن ترامب عن مضاعفة المكافأة للقبض عليه إلى 50 مليون دولار، تزداد التكهنات حول ما إذا كانت واشنطن تستعد لتغيير المعادلة بالقوة بعد سنوات من الفشل في دعم المعارضة الفنزويلية وإحداث تحول سياسي داخلي.
لكن يبدو أن خلف هذا الحشد العسكري غير المسبوق منذ غزو بنما عام 1989، تدور حسابات أعقد بكثير من مجرد مواجهة مع نظام يتهمه ترامب بـ"تهريب المخدرات". فالتوتر ينعكس على علاقات الولايات المتحدة مع دول أمريكا اللاتينية، ويعيد فتح جراح تاريخية تتعلق بالتدخلات الأميركية، فيما تتابع القوى العالمية مثل الصين وروسيا المشهد عن قرب.
وفي ظل مزيج من المصالح الاقتصادية والصراعات الأمنية والتحالفات السياسية، تبدو "عملية الرمح الجنوبي" أكثر من مجرد حملة ضد شبكات التهريب، بل نقطة تحوّل قد تغيّر خريطة النفوذ في القارة اللاتينية.
أمريكا تدفع بأكبر حشد عسكري أميركي في الكاريبي منذ غزو بنما
بدأت التساؤلات حول نية الولايات المتحدة تجاه فنزويلا تتصاعد مع وصول حاملة الطائرات العملاقة يو إس إس جيرالد فورد إلى منطقة البحر الكاريبي، ترافقها 12 من المدمرات والطرادات والسفن الهجومية البرمائية وغواصة نووية. كما نشر البنتاغون أكثر من 15 ألف جندي أمريكي، إلى جانب عشرات الطائرات، بينها 10 مقاتلات F-35 متمركزة في بورتوريكو٬ التي أصبحت مركزًا للجيش الأمريكي في إطار التركيز المتزايد على منطقة البحر الكاريبي.
وفق ما صرح به الباحث إريك فارنسورث، لشبكة سي إن إن٬ فإن حجم وسرعة هذا الحشد "غير مسبوق"، ويعيد الذاكرة إلى العام 1989 حين غزت الولايات المتحدة بنما لإسقاط الجنرال مانويل نورييغا. في المقابل، أعلنت كاراكاس تعبئة عسكرية واسعة، وحذّر مادورو من أن أي تدخل أميركي قد يحوّل المنطقة إلى "غزة أخرى" أو "أفغانستان جديدة".
ما الذي قرره ترامب بشأن الأزمة مع فنزويلا؟
دخلت الأزمة الفنزويلية مرحلة جديدة حين أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 14 نوفمبر 2025 أنه "حسم أمره نوعاً ما" بشأن كيفية التعامل مع فنزويلا، بعد سلسلة اجتماعات رفيعة المستوى في البيت الأبيض حضرها وزير الدفاع بيت هيغسيث، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال دان كين، ووزير الخارجية ماركو روبيو. لم يكشف ترامب ماهية القرار، لكنه أكد أنه بات جاهزاً لاتخاذ خطوة كبيرة قد تشمل إجراءات عسكرية مباشرة.
وأشار ترامب إلى أنه يقترب من الطريق إلى الأمام في محاولاته للحد من التدفقات غير الشرعية للمهاجرين والمخدرات وإمكانية تغيير النظام. وأضاف للصحفيين على متن الطائرة الرئاسية عندما سُئل مباشرةً عن تلك الاجتماعات وما إذا كان قد اتخذ قرارًا: "لقد حسمتُ أمري نوعًا ما – أجل. أعني، لا أستطيع أن أخبركم بما سيكون عليه الأمر، لكنني اتخذتُ قرارًا نوعًا ما".
هذا التصريح، إلى جانب النشاط العسكري الأميركي المفاجئ، أطلق موجة من الأسئلة حول ما إذا كانت واشنطن تستعد فعلاً لإسقاط الرئيس نيكولاس مادورو بالقوة، بعد سنوات من العقوبات الأميركية ومحاولات دعم المعارضة بقيادة خوان غوايدو، التي فشلت في إحداث اختراق سياسي داخل البلاد.
ما السيناريوهات التي عُرضت على ترامب للتعامل مع فنزويلا؟
كشفت مصادر مطلعة لشبكة CNN أن ترامب تلقى إحاطات مفصلة حول خيارات عسكرية متعددة، تضمنت غارات جوية على منشآت عسكرية وحكومية فنزويلية، وضرب طرق تهريب المخدرات، إضافة إلى خطة كاملة للإطاحة بنظام مادورو عبر عملية عسكرية مباشرة.
ورغم أن ترامب صرّح سابقاً لبرنامج "60 دقيقة" أنه لا يفكر في ضربات داخل فنزويلا، إلا أنه أبقى الباب مفتوحاً، مشيراً في الاجتماعات الأخيرة إلى أنه يتجنب اتخاذ قرار قد يعرض القوات الأميركية للفشل أو المخاطر. كما أكد مسؤولون في الإدارة الأميركية للكونغرس أن واشنطن لا تمتلك مبرراً قانونياً واضحاً لضرب أهداف برية في فنزويلا، رغم تلويح ترامب بأنه منح CIA هامش عمل أوسع داخل البلاد.
ما هي عملية "الرمح الجنوبي"؟
أطلقت وزارة الحرب الأميركية اسم "عملية الرمح الجنوبي" على هذا الانتشار العسكري، وروّجت لها باعتبارها حملة تستهدف ما وصفتهم وزارة الحرب للأمريكية بـ"إرهابيي المخدرات" الذين يصدّرون الفنتانيل إلى الولايات المتحدة.
إعلان عملية "الرمح الجنوبي" تزامن مع اقتراب حاملة الطائرات فورد من المياه الفنزويلية، وإبلاغ ترامب للصحفيين بأنه اتخذ قراره، ما غذى الشكوك بأن العملية قد تتجاوز مكافحة التهريب نحو سيناريو سياسي أكبر.
ولم يُقدم وزير الحرب هيغسيث أي تفاصيل إضافية عن عملية "الرمح الجنوبي". وبحسب صحيفة "ذي تايمز"٬ قد يُمثل قرار تسمية العملية "عملية الرمح الجنوبي" بدايةً لمهمة موسعة، أو قد يكون ببساطة بمثابة إعادة تسمية للحملة طويلة الأمد التي أسفرت حتى الآن عن مقتل ما لا يقل عن 80 من مُهربي المخدرات المزعومين.
لكن بحسب الصحيفة٬ فإن ضربات برية أمريكية على فنزويلا واردة٬ ومن الغريب أن إعلان هيجسيث يحمل نفس اسم إعلان آخر أُعلن عنه قبل عشرة أشهر، عندما قالت القيادة الجنوبية إنها ستنشر "مزيجًا غير متجانس من الأنظمة الروبوتية والأنظمة المستقلة" لتحديد ومراقبة العمليات المتعلقة بالمخدرات.
لكن تبريرات هذه العملية العسكرية تواجه انتقادات واسعة، باعتبار أن غالبية الفنتانيل المهرّب يأتي أساساً من المكسيك، ويُصنع بمواد صينية، لا فنزويلية. كما أن واشنطن سبق أن اتهمت مادورو بإدارة "منظمة شحن" لتهريب المخدرات، ورصدت 50 مليون دولار لمن يقود إلى اعتقاله.
ما حسابات المكاسب والمخاطر داخل البيت الأبيض؟
بحسب "التايمز"٬ ترى الإدارة الأميركية أن إسقاط مادورو قد يمنح ترامب إنجازاً كبيراً طال انتظاره، ويفتح الباب لاتفاقات جديدة في ملف النفط، والاستثمار في إعادة إعمار فنزويلا، فضلاً عن تعزيز التعاون في ملفيّ الهجرة والمخدرات.
لكن المخاوف داخل واشنطن كبيرة. فالمعارضة الفنزويلية نفسها منقسمة، والجيش الفنزويلي مستعد للمواجهة ويحشد لها، كما أن ترامب وصل إلى السلطة بخطاب يعد فيه الأميركيين بالابتعاد عن الحروب الخارجية، ما يجعل أي تورط عسكري طويل أمراً محفوفاً بالتكلفة السياسية.
يشير أعضاء في الكونغرس إلى أنه بدون التزام طويل الأمد من واشنطن بدعم المعارضة، لن ينجح أي تحرك، بينما يبقى الرأي العام الأميركي منقسماً، حيث أظهر استطلاع رويترز/إبسوس أن 51 بالمئة من البالغين يعارضون عمليات القتل خارج القضاء.
وتقول صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية إنه خلال الأسابيع الماضية، سمحت الإدارة الأميركية لوكالة المخابرات المركزية بالعمل داخل الأراضي الفنزويلية، كما أجرت تدريبات لقاذفات قريبة من السواحل، وبدأ الطيارون الأميركيون دراسة الدفاعات الجوية الفنزويلية تحسباً لأي ضربة.
ووفق تقارير تلفزيونية، فإن قوات "دلتا" الخاصة قد تُستخدم في أي عملية محتملة، ما يعكس أن النقاش داخل البنتاغون لم يعد محصوراً بالضربات الجوية، بل يتضمن خططاً لهجمات محدودة أو عمليات اقتحام دقيقة.
ما التداعيات الدبلوماسية للتحركات الأمريكية على العلاقات مع دول القارة؟
ردت فنزويلا على الحشد الأميركي بإعلان تعبئة ضخمة للقوات والأسلحة. وخلال تجمع حاشد في كاراكاس، أرسل مادورو رسالة واضحة لواشنطن: "أوقفوا الحرب. لا للحرب". كما حذّر من أن فنزويلا ستتحول إلى مستنقع مكلف لأي قوة غزاة، وأن الصراع قد يتحول إلى حرب مقاومة طويلة، شبيهة بما حدث في أفغانستان أو فيتنام، وهو سيناريو تسعى واشنطن لتجنبه تماماً.
تقول "واشنطن بوست" إن التوترات تسببت في إرباك المشهد الدبلوماسي الإقليمي. فقد أعلنت جمهورية الدومينيكان تأجيل قمة الأمريكتين بعدما أبلغ البيت الأبيض أن ترامب لن يحضرها، ثم تبيّن لاحقاً أن أقل من نصف الدول وافقت على المشاركة بسبب الانقسامات الحادة.
وسلط مسؤولون في أمريكا اللاتينية الضوء على جو "سام" ناتج عن سياسة ترامب القائمة على "المعاملات": منح المنافع للحلفاء وفرض العقوبات على من يعارض سياسته تجاه فنزويلا. فسياسات واشنطن تستعيد في الذاكرة تاريخ التدخل الأميركي في شؤون القارة، من الإطاحات السرية بالحكومات وصولاً للغزوات العسكرية، وهي ذكريات لم تُمح بعد في الوعي الجمعي لشعوب المنطقة.
وهذا التوسع العسكري يتزامن مع تصاعد نفوذ الصين وروسيا في أمريكا اللاتينية، حيث استثمرت بكين بكثافة في البنى التحتية والتجارة، بينما وفرت موسكو أسلحة متقدمة لحكومة مادورو. من وجهة نظر واشنطن، فإن الصراع مع فنزويلا جزء من معركة أكبر تتعلق بمنع الخصوم الاستراتيجيين من ترسيخ نفوذهم قرب الحدود الأميركية.
واتبعت إدارة ترامب سياسة "العصا والجزرة" مع دول القارة:
• كافأت الأرجنتين بدعم مالي كبير بعد صعود خافيير ميلي المؤيد لترامب.
• منحت السلفادور تمويلات مقابل تعاون في ملف الهجرة.
• وقعت اتفاقيات مع باراغواي وغواتيمالا حول استقبال طالبي اللجوء.
• وصفت ترينيداد وتوباغو بأنها "شريك قوي" بعد مباركتها للحشد العسكري في الكاريبي.
لكن في المقابل، عاقبت واشنطن حكومات أخرى:
• ألغت تأشيرة الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو وفرضت عقوبات عليه بعد انتقاد الضربات الأميركية.
• تبادلت الإهانات معه وأشارت إلى إمكانية فرض رسوم جمركية جديدة.
• واجهت انتقادات من المكسيك التي وصفت الهجمات على قوارب التهريب بأنها غير قانونية.
هذا الانقسام الإقليمي يعكس أن عملية "الرمح الجنوبي" ليست مجرد حملة عسكرية، بل مشروع لإعادة تشكيل شبكة التحالفات داخل القارة.
وقبل الإعلان عن عملية "الرمح الجنوبي"، تعمل الولايات المتحدة على تعزيز وجودها الدائم في المنطقة عبر:
• إنشاء قاعدة جوية جديدة في الإكوادور
• تفعيل المطار العسكري في السلفادور
• تشغيل قاعدة بحرية في بورتوريكو
• نشر قوات مؤقتة بنظام التدوير في بنما
وبدأت الولايات المتحدة العمل على تشكيل تجمع جديد يضم حكومات مؤيدة لخططها الأمنية. حيث شهدت بوليفيا لقاءً جمع زعماء الأرجنتين وباراغواي والإكوادور ووزير خارجية بنما مع نائب وزير الخارجية الأميركي كريستوفر لاندو، في إشارة إلى أن واشنطن تريد إطاراً إقليمياً يعمل بالتوازي مع العمليات العسكرية والاستخباراتية في محيط فنزويلا. ورغم أن هذا التكتل لا يزال في بدايته، إلا أنه يعكس استراتيجية أميركية هدفها تطويق نفوذ الصين وروسيا، وتهيئة بيئة سياسية داعمة لأي خطوة قد تُقدم عليها واشنطن ضد كاراكاس.
في النهاية.. هل تتجه الولايات المتحدة إلى إسقاط النظام الفنزويلي؟
السؤال المركزي يبقى: هل العملية العسكرية التي تتوسع في الكاريبي تستهدف حقاً إسقاط النظام الفنزويلي؟ بحسب CNN وواشنطن بوست هناك عوامل تدعم هذا السيناريو:
• حجم القوات الأميركية غير مسبوق منذ عقود.
• النقاش داخل الإدارة يشمل سيناريوهات قصف وإطاحة.
• CIA نشرت فرقاً داخل فنزويلا.
• تدريبات جوية مكثفة قرب السواحل الفنزويلية.
• تصريحات هيغسيث وروبيو التي تصف حكومة مادورو بأنها "تنظيم تهريب".
لكن هناك عوامل تعرقل خيار الحرب:
• المخاطر الداخلية على ترامب في حال تورط طويل الأمد.
• المعارضة الفنزويلية المنقسمة.
• احتمال مقاومة مسلحة واسعة داخل فنزويلا.
• معارضة جزء من الرأي العام الأميركي.
• تخوف دول أمريكا اللاتينية من تكرار تاريخ التدخل العسكري الأميركي.