انقلاب السردية.. كيف عرّت حرب غزة “المظلومية” الإسرائيلية في الغرب لصالح فلسطين؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/10/07 الساعة 11:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/10/07 الساعة 13:03 بتوقيت غرينتش
تعبيرية - عربي بوست

لم تهبط صورة إسرائيل عالمياً في أي وقتٍ إلى الحضيض كما حدث بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. فالمذبحة المتواصلة في غزة، التي يتابعها العالم بأسره ببث مباشر – جرّدت المشروع الصهيوني من أقنعته، وأسقطت سردية "المظلومية" التي طالما استخدمتها إسرائيل غطاءً لجرائمها.

منذ قيامها عام 1948، اصطدمت إسرائيل مراراً بأزمات شرعية ومصداقية على الساحة الدولية، لكنها لم تتوقف عن السعي المحموم لنيل الاعتراف، والتطبيع مع العالم لإخفاء طبيعتها كامتداد للاستعمار الغربي في منطقتنا. إذ كانت تدرك أن بقاءها مشروطٌ بإقناع العالم – كذباً – بأنها الطرف المظلوم والمحاط بالأعداء. فكما قال المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه: "قلّما نجد دولاً في العالم، غير إسرائيل، تحاول بإلحاح إقناع العالم ومواطنيها بشرعية وجودها." إذ تعرف في قرارة نفسها أن شرعيتها هشّة، ملفّقة، قائمة على نفي الآخر وإزالته من الوجود.

لكن هذه المرة، فشلت أدوات الدعاية، وعجز الحلفاء في الغرب والمنطقة عن ستر الجريمة. فصور الأطفال المحترقين تحت الركام، وأجساد النساء الممزقة في الشوارع، والآباء الذين يجمعون أشلاء أبنائهم بأيديهم من بقايا بيوتهم، اخترقت كل شاشات العالم وأسقطت الصمت. لم توقف الإبادة، لكنها فجّرت سؤالاً وجودياً في ضمير العديد من الناس حول العالم: ماذا نفعل حين تُبثّ الإبادة مباشرة؟ كيف نصمت أمام كل هذه الدماء وهي تسيل على الهواء؟ فخرج الناس إلى الشوارع يصرخون، تظاهروا، قاطعوا، وعبّر بعضهم عن صرخته كما لو أنها محاولة أخيرة لإنقاذ روحه. وحين ضاقت السبل ببعضهم، أبحروا بسفن صغيرة، هشّة، يحاولون الوصول إلى غزة، لكسر الحصار، ولكسر العجز الذي خنق العالم.

فاليوم، لم يعد ممكناً طمس الحقيقة التي حاول العالم تجاهلها: فالشعب الفلسطيني هو الضحية. أما إسرائيل، فهي قوة استعمارية استيطانية تمارس التطهير العرقي والإبادة. هذه الحقيقة التي أنكرها العالم لعقود، انفجرت في وجهه دون استئذان. ونتيجة لذلك، تصاعدت موجة تضامن أممية غير مسبوقة، وتغيّرت مواقف رسمية وشعبية في مختلف أنحاء العالم، لتُدخل إسرائيل وسردياتها أحلك صورة في تاريخها.

الرواية الصهيونية وهيمنتها التاريخية في الغرب

على مدار عقود، تمتعت الرواية الصهيونية بهيمنة شبه مطلقة في الخطاب الغربي، بحيث تبنّت قطاعات واسعة من الرأي العام ودوائر الإعلام والسياسة في أوروبا وأمريكا رواية إسرائيلية أحادية لاحتلال أرض فلسطين. هذه السردية الصهيونية قدّمت إسرائيل كدولة ديمقراطية صغيرة في الشرق الأوسط تحيط بها عداءات وجودية، وجرى تصوير الفلسطينيين إما كمعتدين أو ككيان مبهم غير موجود، مما همّش الحقيقة في الوعي الغربي.

واعتمدت الرواية الإسرائيلية على عدة مرتكزات تاريخية وعاطفية في الغرب؛ أبرزها شعور الذنب الأوروبي تجاه إرثه الفاشي، الذي استثمرته إسرائيل للحصول على تعاطف غير مشروط، كما في ألمانيا، إذ كانت المستشارة السابقة أنجيلا ميركل قد رفعت تصنيف الأمن القومي الإسرائيلي إلى مرتبة "مصلحة دولتها". وكذلك التحالف الاستراتيجي الوثيق بين إسرائيل والولايات المتحدة، الذي جعل دعم إسرائيل جزءاً من السياسات الغربية منذ الحرب الباردة.

كما شرح المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه – أحد "المؤرخين الجدد" الذين فككوا السردية الصهيونية وتضليلها – إذ أوضح أن هيمنة الرواية الإسرائيلية في الغرب لم تكن نتيجة صدفة أو تعاطف بريء، بل ثمرة منظومة دعائية محكمة، شُيّدت على المال، والنفوذ، والابتزاز السياسي، كـ"صرح متماسك" يقوم على الاستثمار المالي، والرشاوى، والتهديدات، والتضليل الإعلامي. وقد أوضح كيف أن جماعات الضغط الموالية لإسرائيل أنفقت مبالغ هائلة لضمان ولاء سياسيين وإعلاميين حتى في دول بعيدة مثل أستراليا.

كما لعبت المصالح المتبادلة في مجالات التجارة والتكنولوجيا والتسليح دوراً في توطيد هذه العلاقة الخاصة، كما كشف الفيلسوف وعالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي. ومن هذا الإطار، راح الخطاب الرسمي الغربي يروّج لإبادة الفلسطينيين في غزة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول بذريعة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، بينما استمر نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، وظلّت حقيقة العدوان الإبادي الإسرائيلي واحتلاله للأراضي الفلسطينية خارج نطاق الإدانة الجادة، حيث اتبعت الحكومات الغربية ما تبرع فيه منذ عقود: بتزويد إسرائيل بأعتى أنواع الأسلحة، ودعمها سياسياً، وتوفير الحماية من عواقب ما تفعله، فأحجمت عن اتخاذ مواقف حاسمة إزاء الاستيطان، وحصار غزة، والجرائم ضد الفلسطينيين. ومثّل هذا التحيّز الثابت جزءاً من "الوفاق التقليدي" في أوروبا وأمريكا بشأن إسرائيل، حيث نادراً ما خرج صوت رسمي عن هذا النسق.

تفكيك الأسطورة

فكّك العديد من الباحثين والمؤرخين، وكان من أبرزهم إيلان بابيه، زيف كثير من مضامين هذه الرواية السائدة في الغرب. فقد كتب بابيه بإسهاب عن "الصهيونية" وكيفية تسويقها عالمياً، مسلّطاً الضوء على التناقض بين الرواية الإسرائيلية والحقيقة التاريخية. وبيّن للكثيرين أن إنكار وجود الشعب الفلسطيني وحقه كان في صلب الدعاية الإسرائيلية: فمنذ النكبة عام 1948، سعت إسرائيل لإيهام العالم بأنه لم يكن هناك شعب حقيقي في فلسطين، أو أن الفلسطينيين غادروا طوعاً ديارهم، لتخفي التطهير العرقي الممنهج والتهجير القسري لحوالي 700 ألف فلسطيني.

كما فنّد بابيه والمؤرخ الإسرائيلي أفي شلايم الأسطورة التي تصوّر الحروب العربية–الإسرائيلية كصراع بين "قلة يهودية مسالمة" و"جحافل عربية متعطشة للدماء". فحرب 1948، مثلاً، صُوّرت في الرواية الصهيونية كمعجزة نجاة إسرائيلية، بينما كشفت الأبحاث أن موازين القوى وقتها كانت في صالح العصابات الصهيونية الأكثر تنظيماً وتسليحاً.

ويرى بابيه أن زمن تماسك هذه السردية قد ولّى؛ ويبدو أن هذه ليست رطانة أكاديمية. فمنذ الأسبوع الأول بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، بدأت تشققات الرواية تظهر في الإعلام الغربي. صحيح أن التغطية الأميركية انطلقت متعاطفة بقوة مع إسرائيل، إلا أن تزايد الفظائع في غزة سرعان ما كشف الانقسامات، فبرزت فجوة متّسعة بين رأي عام شعبي بات أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين، ومواقف رسمية نخبوية ظلّت جامدة تحت وطأة نفوذ اللوبيات والعلاقات الاستراتيجية.

فمع تراكم الفظائع في غزة، تعمّقت الانقسامات. فالأحياء كانت تُسوّى بالأرض، والمستشفيات تُقصف فوق رؤوس المرضى، وملاجئ الأمم المتحدة لم تسلم من الاستهداف. هذه المشاهد من حقول القتل في غزة نسفت سردية "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم" التي طالما تبجّحت بها إسرائيل في الشارع الغربي. بل إن قادة الاحتلال أنفسهم، وفي حالة ذعر أو "بارانويا المستعمِر" كما يسميها الفيلسوف والطبيب فرانز فانون، عرّوا الوجه الحقيقي للمشروع الصهيوني. فمع بدء شن حرب الإبادة، ظهر وزير الدفاع السابق يوآف غالانت لتحميس جنوده للإبادة، بوصف الفلسطينيين في غزة بأنهم "حيوانات بشرية"، فيما أعلن الرئيس الإسرائيلي أنه "لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة". أما رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فواصل استحضار الأساطير التوراتية لتغذية حرب الإبادة.

وما سرّع في انكشاف هذه الجرائم كان دور وسائل التواصل الاجتماعي، التي خرقت لأول مرة بهذا الحجم احتكار الرواية. فرغم الحجب المتكرّر وتواطؤ بعض المنصات في الحد من انتشار المحتوى الفلسطيني، شاهد العالم الحرب على حقيقتها بعدسات مستقلة، مباشرة وبكثافة على تويتر وإنستغرام وتيك توك. وهو ما أشار إليه المفكر الهندي بانكاج ميشرا، في كتابه "العالم بعد غزة"، بوصفه مفارقة قاسية غير مسبوقة: الضحايا هذه المرة هم من يكتبون وصاياهم الأخيرة على المنصات، يبثّون صور موتهم على تيك توك، يستغيثون عبر الشاشات، ثم يُمحَون من الوجود أمام أعين العالم.

حرب الإبادة في قطاع غزة – رويترز

ورغم كل محاولات الاحتلال لعزل غزة وقطع اتصالاتها، تدفّقت الصور والفيديوهات إلى العالم بلا انقطاع، فعجزت معها الدعاية الإسرائيلية (الهاسبارا)، التي طالما نجحت في التلاعب بالسرد وتزييف الوعي، عن تزييف المذبحة.

تضامن أممي لأجل غزة

هذه المشاهد أطلقت موجة غير مسبوقة من التضامن العالمي. ففي غضون أيام قليلة، اجتاحت المظاهرات الضخمة عواصم ومدناً كبرى، من نيويورك وواشنطن إلى لندن وباريس، ومن إسطنبول وجاكرتا إلى كوالالمبور. فوفق بيانات مشروع ACLED لرصد الصراعات، شهدت الأسابيع الثلاثة الأولى وحدها نحو 4200 احتجاج في قرابة 100 دولة، كان 90% منها مؤيداً للفلسطينيين. لم يشهد العالم من قبل هذا الحجم من المظاهرات تضامناً مع شعب بعيد جغرافياً، كما حدث مع فلسطين بعد أكتوبر/تشرين الأول 2023. ومع استمرار المجازر الإسرائيلية في غزة دون رادع، علت أصوات الملايين حول العالم تطالب بوقف الإبادة وتحقيق العدالة، بينما كادت تختفي تماماً أي مظاهرات داعمة لإسرائيل خارج الفضاء الغربي الأطلسي.

في الولايات المتحدة وأوروبا، قاد الشباب وطلبة الجامعات موجة غير مسبوقة من المظاهرات والاعتصامات المؤيدة لفلسطين. امتلأت حرم كبريات الجامعات – من هارفارد وكولومبيا إلى جورجتاون – باللافتات الفلسطينية، ووقّع آلاف الأكاديميين والطلاب بيانات تصف المجازر في غزة بتسميتها كإبادة جماعية وتطهير عرقي للفلسطينيين، مطالبين بوقف تعاون جامعاتهم مع مؤسسات إسرائيلية، وسحب استثماراتها من الشركات المتورطة في الاحتلال، وضمان حرية التعبير.

ومع تدخل الشرطة واعتقال عشرات الطلاب، لم تخمد الحركة بل اتسعت، لتشمل أكثر من سبعين جامعة أميركية، من هارفارد وييل إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ثم امتدت إلى جامعات في فرنسا وبريطانيا وألمانيا. قاد الحراك نوادٍ طلابية متعددة، من بينها مجموعات يهودية مناهضة للحرب، وشارك فيه طلاب من خلفيات وجنسيات وأديان مختلفة.

ولمساندة طلابهم، أعلن أساتذة جامعة نيويورك في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023 تأسيس مجموعة "أساتذة من أجل العدالة في فلسطين"، ووقّع على بيانها أكثر من 210 أساتذة. تبنّت المجموعة مبادئ دعم حركة التحرر الفلسطينية، والتأييد العلني لحركة المقاطعة (BDS). وسرعان ما ظهرت تجمعات مماثلة في جامعات أخرى، رغم محاولات إدارات الجامعات كبحها تحت ذرائع مختلفة، لكنها فشلت أمام زخم الحراك.

هذا المشهد أثار ذعر المؤسسة السياسية الأميركية، فاندفع دونالد ترامب، ومعه وزير الخارجية ماركو روبيو، بدعم من اللوبي الصهيوني، إلى شنّ حملة على الجامعات، مهددين بحرمانها من مليارات الدولارات من التمويل الفدرالي. بل وصل الأمر إلى التوصية بتدقيق حسابات التواصل الاجتماعي للطلاب المتقدّمين للحصول على تأشيرات، لمنع من يُشتبه في انتقادهم للدعم الأميركي لإسرائيل من دخول البلاد.

قوات مكافحة الشغب الأمريكية تعتقل طالبة في جامعة "تكساس" خلال مظاهرة تضامنا مع غزة/ رويترز

لكن القمع لم يوقف موجة التضامن. فمع استمرار الإبادة في غزة، ولجوء إسرائيل إلى سلاح التجويع لكسر إرادة الفلسطينيين، اتسعت دائرة الدعم الشعبي. أطلقت منظمة "قدامى المحاربين من أجل السلام" في الولايات المتحدة، بالتعاون مع منظمات متحالفة، حملة صيام رمزية لمدة 40 يوماً تحت شعار "صيام من أجل غزة". وانضم نحو 800 شخص من داخل الولايات المتحدة وخارجها إلى الحملة، مطالبين بإيصال المساعدات الإنسانية بشكل كامل وتحت إشراف الأمم المتحدة، ووقف شحنات السلاح الأميركية إلى إسرائيل.

تراجع الدعم الشعبي لإسرائيل في أمريكا

ويبدو أن صورة إسرائيل في عقر الإمبراطورية الأمريكية الراعية لها أصبحت في تراجع لم تشهده من قبل، إذ باتت مراكز الأبحاث والصحف ترصد تراجع دعم إسرائيل وتزايد الانتقاد الصريح لها ولجرائمها.

وباتت استطلاعات الرأي ترصد المعطيات الجديدة التي تُظهر أن الأمر لم يعد مقتصراً على الشباب، بل إن قطاعات واسعة من الديمقراطيين الأكبر سناً باتوا أكثر انتقاداً لإسرائيل أيضاً. فبحسب مؤسسة Brookings الأميركية، ارتفعت النظرة السلبية لإسرائيل بشكل ملحوظ في مختلف الفئات، وإن بمعدلات متفاوتة بحسب العمر والانتماء الحزبي. فقد وجدت مؤسسة "بيو" أن نسبة الأميركيين البالغين الذين يحملون آراء سلبية ارتفعت من 42% إلى 53%. وبين الجمهوريين صعدت من 27% إلى 37%، وبين الديمقراطيين من 53% إلى 69%.

من حيث الفئة العمرية، يظهر التحول أكثر وضوحاً:

  • بين الجمهوريين الشباب (18–49 عاماً): قفزت النظرة السلبية من 35% إلى 50%.
  • بين الجمهوريين الأكبر سناً (50+): ارتفعت بشكل طفيف فقط، من 19% إلى 23%.
  • بين الديمقراطيين الشباب: ارتفعت من 62% إلى 71%.
  • أما الديمقراطيون الأكبر سناً: فقد شهدوا التحول الأشد، من 43% إلى 66%.

واللافت أن مواقف الكبار عادةً ما تتغير ببطء، لكن دراسة Brookings الأميركية بيّنت أنّ هذا ينطبق فقط على الجمهوريين الأكبر سناً، فيما الديمقراطيون الأكبر هم من غيّروا مواقفهم بأكبر سرعة، وهو ما يكسر السردية السائدة بأن النقد الحاد لإسرائيل محصور في الأجيال الشابة.

وأشارت المؤسسة في دراستها إلى أنه، بالرغم من أن التعاطف مع الإسرائيليين قد انخفض عبر جميع الفئات، إلا أنهم ما زالوا مفضلين على الفلسطينيين بين الجمهوريين — لكن ليس بين الديمقراطيين. ومنذ بداية الحرب، قام مجلس شيكاغو للشؤون العالمية – إبسوس أيضاً، بتتبّع انخفاض حاد في المشاعر الإيجابية تجاه إسرائيل عبر الطيف السياسي. ورصد أنه بالنسبة للجمهوريين، انخفضت من 69% في البداية إلى 63%، وبالنسبة للمستقلين من 56% إلى 50%، وبين الديمقراطيين نرى الانخفاض الأشد، من 51% إلى 41%.

مظاهرات منتقدة لإسرائيل في نيويورك / Shutterstock

بينما تتبعت مؤسسة "غالوب" الرأي العام تجاه أفعال إسرائيل في غزة منذ بدء الحرب، مشيرة إلى تنامٍ في الرفض. عند بداية الحرب، قال 50% من الأميركيين إنهم يوافقون على أفعال إسرائيل، مقابل 45% لا يوافقون. اليوم، تغيّرت المشاعر بشكل كبير: 60% يقولون إنهم لا يوافقون، مقابل 32% فقط يقولون إنهم يوافقون.

وأشارت إلى أنه، برغم أن التعاطف العام الأميركي مع الفلسطينيين مقابل الإسرائيليين كان يتحوّل منذ منتصف العقد الأول من الألفية، حين كان التعاطف مع الإسرائيليين يزيد قليلاً عن 60%، ومع الفلسطينيين أقل من 20%، إلا أنه منذ الحرب، تسارع هذا التحول. الآن، فقط 46% من الأميركيين تعاطفهم الأكبر مع إسرائيل، مقارنة بـ33% مع الفلسطينيين.

بينما، وفقاً لأحدث استطلاع جديد للرأي أجرته صحيفة نيويورك تايمز وجامعة سيينا، يعارض أغلبية الناخبين الأميركيين الآن إرسال مساعدات اقتصادية وعسكرية إضافية لإسرائيل، وهو تحوّلٌ مذهل في الرأي العام منذ شنّ حرب الإبادة، بحسب الصحيفة الأميركية. إذ قال حوالي 6 من كل 10 ناخبين إنه ينبغي على إسرائيل إنهاء الحرب على غزة، حتى لو لم يُفرج عن الأسرى الإسرائيليين المتبقين أو لم يُقضَ على المقاومة الفلسطينية، حماس.

تراجع الدعم الشعبي لإسرائيل في أوروبا

أما في القارة العجوز، فقد شهدت العواصم الأوروبية اهتزازات غير مسبوقة؛ فمنذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب على غزة، لم تهدأ شوارعها من موجات الغضب الشعبي المطالب بوقف الإبادة والضغط على الحكومات لاتخاذ إجراءات فعلية لمعاقبة إسرائيل. فمن لندن إلى برلين، ومن باريس إلى مدريد، خرجت عشرات الآلاف في مظاهرات متواصلة، لتسجّل أوروبا واحدة من أوسع موجات التضامن الشعبي مع فلسطين في تاريخها الحديث.

فعلى سبيل المثال، في إيطاليا – ثالث أكبر مورّد للأسلحة إلى إسرائيل بعد الولايات المتحدة وألمانيا – بلغ الغضب الشعبي ذروته يوم 22 سبتمبر/أيلول، حين هزّ البلاد إضراب عام استمر 24 ساعة. شارك فيه نحو نصف مليون شخص في أكثر من 80 مدينة، بحسب مجلة The Nation، تاركين أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم، تحت شعار واحد: "Blocchiamo tutto" ("لنوقف كل شيء")، رفضاً لتواطؤ إيطاليا في الحرب.

وأغلق المحتجون الطرق السريعة في تورينو وفلورنسا وبولونيا وروما، واجتاحوا سكك القطارات في تورينو ونابولي وميلانو، فيما توقّفت خطوط المترو في بريشيا وميلانو. كما شُلّت حركة الموانئ الكبرى في جنوة وترييستي والبندقية وليفورنو وساليرنو. وكان لعمال الموانئ دور محوري، ليس فقط بدعمهم لأسطول "الصمود العالمي" المتجه إلى غزة، بل لأنهم الأقدر على تعطيل سلاسل الإنتاج وإعاقة تدفّق الأسلحة والتقنيات العسكرية من الموانئ الأوروبية إلى إسرائيل، بحسب المجلة.

أما في اليونان، فقد شهدت تغيّراً واضحاً في المزاج العام، رغم العلاقة الرسمية المتقاربة مع إسرائيل، حيث شهدت الأسابيع والأشهر الماضية موجات احتجاج شعبية قوية تُعارض وجود الإسرائيليين وتقوم بطردهم وملاحقتهم، وتوسم السياح الإسرائيليين بـ"القتلة".

وكان الغضب واضحاً، فعبر العديد من اليونانيين بشكل صريح: "أرضنا وبحرنا ومجتمعاتنا لا مكان فيها للصهاينة ومؤيدي الإبادة الجماعية.. لن نُتيح وقتاً أو مكاناً ترفيهياً لقتلة الجيش الإسرائيلي، إذا كنت تدعم حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين فأنت غير مرحّب بك هنا!". كانت هذه العبارات المناهضة لإسرائيل جزءاً من شعارات ولافتات عديدة رفعها مواطنون وأصحاب محلات وفنادق وقوارب يونانية في عدد من الجزر السياحية التي عادةً ما يلجأ إليها الإسرائيليون، وخصوصاً الذين يبحثون عن الاستجمام، بينما يستمر جيشهم في ذبح الفلسطينيين منذ عامين في غزة.

كما حملت بعض الملصقات عبارات مثل: "بعد استيطان يهودا والسامرة (الضفة الغربية المحتلة) سينتقل (الإسرائيليون) للاستيطان في جزيرة ليسبوس"، كما نُشرت ملصقات لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وهو يصافح الزعيم النازي أدولف هتلر، ووجهه غارق بالدماء.

وشهدت جزر يونانية مثل سيروس، ورودوس، وكريت، ومناطق واسعة من البلاد، مظاهرات يوم الأحد 10 أغسطس/آب تندد بحرب الإبادة الجماعية على غزة، وشرع ناشطون يونانيون في تنظيم مظاهرة كبيرة تعبيراً عن تأييدهم لفلسطين؛ إذ قالت حركة "March to Gaza" إنه "لا يمكن تحويل الشواطئ لأماكن ترفيه وراحة لجنود الجيش الإسرائيلي القتلة". ووزّعت أحزاب ونقابات عمالية ومبادرات شعبية منشورات تدعو إلى مقاطعة إسرائيل بالكامل، ونبذ مواطنيها، وتحمّل الجنود والسياح الإسرائيليين مسؤولية جرائم القتل التي تُرتكب في قطاع غزة.

وسلّط تقرير نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت الأسبوع الماضي، الضوء على الإسرائيليين الذين يزورون اليونان أو الذين انتقلوا للعيش فيها وشراء عقارات لهم هناك بعد الحرب، وخصوصاً في جزيرة ليسبوس اليونانية، حيث يعيش عدد كبير من الإسرائيليين الذين انتقلوا إليها في السنوات الأخيرة بحثاً عن حياة هادئة بعيداً عن الحرب والغلاء في إسرائيل، حيث يدير بعضهم بيوت ضيافة، ويعمل آخرون عن بُعد أو يعيشون تقاعداً مريحاً.

بحسب الصحيفة، يشكو هؤلاء الإسرائيليون من مطاردتهم في الشوارع والمطاعم والفنادق والشواطئ، فيما تلاحقهم ملصقات ولافتات ضد إسرائيل وجيشها وقادتها.

أما في إسبانيا، فالوضع بدا مختلفاً. تاريخياً، كان المزاج الشعبي أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين مقارنة بمعظم أوروبا، ويُعزى ذلك جزئياً – كما توضح لوس غوميز، أستاذة الدراسات العربية والإسلامية في جامعة مدريد المستقلة – إلى أن إسبانيا لم تشارك في الحرب العالمية الثانية، وبالتالي "لم يشعر الإسبان قط بمسؤولية خاصة عمّا عنته إقامةُ دولة إسرائيل بوصفها حلاً محتملاً للهولوكوست ولوضع اليهود الأوروبيين الذين عانوا تحت النازية والفاشية". ورغم هذا البعد التاريخي، تعمّقت العلاقات الإسبانية–الإسرائيلية منذ الاعتراف الرسمي عام 1986، خاصة على الصعيدين الاقتصادي والعسكري.

لكن مع حرب غزة الأخيرة، تحوّلت إسبانيا إلى حالة استثنائية في أوروبا، من بلد كان يُعرف بتعاطف شعبه مع فلسطين، إلى دولة تشارك علناً في جبهة سياسية وقانونية ودبلوماسية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

حيث تحوّل التعاطف الشعبي إلى فعل سياسي غير مسبوق، ما جعل بيدرو سانشيز، رئيس الوزراء الإسباني، أول مسؤول أوروبي يصف ما يحدث صراحة بأنه "إبادة جماعية". تبع ذلك خطوات عملية بارزة: اعتراف مدريد رسمياً بدولة فلسطين في مايو/أيار 2024 بجانب أيرلندا والنرويج وسلوفينيا، والدعوة لتعليق اتفاقية الشراكة الأوروبية مع إسرائيل، والانضمام إلى دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وفتح القضاء الإسباني تحقيقاً في انتهاكات حقوق الإنسان لتقديم أدلة إلى المحكمة الجنائية الدولية.

لم تكتفِ إسبانيا بالمواقف الدبلوماسية، بل ترجمت دعمها لفلسطين إلى خطوات عملية. ألغت المرحلة الختامية من "طواف إسبانيا" احتجاجاً على مشاركة فريق إسرائيلي، في خطوة أشاد بها سانشيز نفسه، قائلاً إن "الشعب الإسباني يتحرك من أجل القضايا العادلة، كقضية فلسطين"، بل ودعا إلى منع إسرائيل من الفعاليات الرياضية الدولية. وعلى الصعيد العسكري والاقتصادي، فرضت مدريد حظراً رسمياً على تصدير السلاح، فألغت صفقات بملايين اليوروهات، وأغلقت موانئها وأجواءها أمام شحنات الأسلحة. كما منعت دخول شخصيات إسرائيلية متورطة في جرائم الحرب مثل بن غفير وسموتريتش، وحظرت استيراد منتجات المستوطنات. وإلى جانب ذلك، عزّزت التعاون المباشر مع فلسطين، وزادت مساعداتها لغزة إلى 150 مليون يورو، ورفعت مساهمتها للأونروا بمقدار 10 ملايين يورو.

إسبانيا تؤكد وجود
رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز/ رويترز

وبالطبع، قوبلت مواقف إسبانيا بقيادة سانشيز بغضب عارم في إسرائيل، وبعد تحريف كلامه، اتهمته بتهديد بإبادة الدولة اليهودية. وقال بنيامين نتنياهو معلّقاً: "يبدو أن محاكم التفتيش الإسبانية، وطرد يهود إسبانيا، والمحرقة النازية لم تكن كافية بالنسبة لسانشيز"، وفق زعمه.

أما النرويج، تلك الدولة الغنية الواقعة في أقصى شمال أوروبا، صاحبة أكبر صندوق سيادي في العالم، يقترب حجمه من تريليوني دولار، فقد قرّرت مؤخراً سحب استثماراتها من الشركات الإسرائيلية المتورطة في تكريس احتلال الضفة الغربية أو في حرب غزة، وباتت توصف بـ"عدوها الأول في أوروبا"، بعد أن كانت حليفاً تاريخياً لإسرائيل، بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية.

وقد تفجّر غضب تل أبيب بعد أن تقدّمت أوسلو، في أغسطس/آب الماضي، إلى المحكمة الجنائية الدولية بواحدة من أقوى المذكرات الداعمة لطلب اعتقال نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت. فقررت إسرائيل، خلال 72 ساعة فقط، طرد الدبلوماسيين النرويجيين من رام الله، وألغت الاتفاق المعروف بـ"حساب العهدة" الذي كان يتم عبره تحويل أموال السلطة الفلسطينية إلى النرويج كوسيط.

أما فيما يتعلّق بوكالة "الأونروا"، التي تستهدفها إسرائيل بكل الأشكال، فقد رفضت أوسلو الحملة الإسرائيلية–الأميركية لوقف تمويلها، وقررت بدلاً من ذلك زيادته. وقالت وزيرة التنمية آن بيث كريستيانسن: "بعد تسعة أشهر من الحرب، أصبح الوضع كارثياً في غزة… الأونروا هي العمود الفقري للجهود الإنسانية، ولهذا قدّمنا دعماً إضافياً لتصل مساهمتنا هذا العام إلى 47 مليون دولار". و في استثناء لافت عن المواقف الأوروبية، رفضت النرويج تصنيف حركة حماس منظمة إرهابية، مؤكدة أنها مستعدة للتواصل معها من أجل إنهاء الحرب.

أما الدول الكبرى التي عُرفت تاريخياً بدعمها المطلق لإسرائيل، كألمانيا وبريطانيا وفرنسا، فقد ظلّت على المستوى الرسمي على نهجها القديم، متشبّثةً بدعم إسرائيل، رغم تحوّل شوارع مدنها برمّتها إلى ساحة غليان من أجل وقف الإبادة في غزة. ولذلك، اضطرت باريس ولندن — تحت وطأة الضغط الشعبي غير المسبوق — إلى تعديل نبرة خطابهما الدبلوماسي، ولو على استحياء، والاعتراف بدولة فلسطين إلى جانب كندا وأستراليا والبرتغال. وبالطبع، لم يكن ذلك تحوّلاً جذرياً في السياسات، بل محاولة مكشوفة لامتصاص الغضب المتصاعد من الأسفل، من الشوارع التي لم تهدأ منذ أكثر من عامين، بحسب المحللين.

فمنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، صارت ميادين برلين وباريس ولندن مسارح مظاهرات داعمة لفلسطين مستمرة، رغم قرارات الحظر والملاحقات البوليسية واتهامات "معاداة السامية" التي أُطلقت في وجه كل من حمل علم فلسطين. ومع ذلك، لم تُفلح القبضة الأمنية في إسكات الأصوات. فاستطلاعات الرأي الأخيرة تكشف عن تحوّل جذري في المزاج الأوروبي والغربي تجاه إسرائيل.

انتخابات البرلمان الأوروبي 2024
مظاهرات لعدد من الشباب الفرنسيين رفضاً للحرب الإسرائيلية على غزة/ shutterstock

في ألمانيا، التي كانت ولا تزال تحيا عقدة الذنب التاريخية تجاه إرثها النازي، أظهر استطلاع مؤسسة بيرتلسمان في مايو/أيار 2025 أن 38% من الألمان باتوا ينظرون سلباً إلى إسرائيل، مقابل 36% فقط أبدوا نظرة إيجابية — مقارنةً بـ46% عام 2021. والأكثر دلالة أن 51% من الألمان — وفق معهد يوغوف في مايو/أيار 2024 — أيدوا فرض عقوبات اقتصادية أوروبية على إسرائيل بسبب هجومها على رفح، بينما عارضها 26% فقط. أما استطلاع مؤسسة إيكو في يونيو/حزيران من العام ذاته، فأكد أن أكثر من 60% من الأوروبيين يطالبون بتعليق اتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل.

وفي بريطانيا، صاحبة وعد بلفور، فإنّ دعم إسرائيل في أراضيها بدا يتراجع بصورة تاريخية. فبحسب مركز بيو للأبحاث، بلغت نسبة النظرة السلبية تجاه إسرائيل 61% عام 2025، بعد أن كانت 44% فقط في 2013. بينما أظهر استطلاع آخر لـيوغوف أن 32% من البريطانيين يعلنون دعمهم للفلسطينيين، مقابل 14% فقط لإسرائيل. وفي فرنسا، تراجعت النسبة إلى 18%، وهي الأدنى منذ بدء رصد المواقف تجاه الاحتلال.

ورغم هذا الانكشاف، ظلّ الخطاب الرسمي لتلك الدول غارقاً في ازدواجية مفضوحة. فلا ألمانيا، التي تحكمها عقدة الذنب، تجرأت على تسمية ما يحدث في غزة بـ"الإبادة الجماعية"، ولا بريطانيا — التي "أعطت أرضاً لا تملكها لمن لا يستحق" — كفّت عن دعمها العسكري والاستخباراتي لآلة الحرب الإسرائيلية.

محاولات من الجنوب العالمي

ورغم استمرار الدعم الأميركي وبعض التواطؤ الأوروبي، فإن صورة إسرائيل في العالم لم تهبط يوماً إلى هذا الدرك كما هو الحال اليوم.

وبالتوازي مع الغضب الشعبي، بادرت جنوب أفريقيا في 29 ديسمبر/كانون الأول 2023 إلى رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد إسرائيل، بتهمة انتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وفي الجلسات العلنية التي انعقدت في يناير/كانون الثاني 2024، استمعت المحكمة إلى أدلة دامغة حول القتل والتدمير الممنهج في غزة، لتصدر في 26 يناير/كانون الثاني حكماً مؤقتاً اعتبرت فيه أن من المعقول افتراض ارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية، وأمرت بتدابير احترازية لوقفها.

ثم جاءت 24 مايو/أيار 2024 لتشكّل لحظة فاصلة، حين ألزمت المحكمة إسرائيل بوقف فوري لهجومها على رفح، مؤكدةً أن استمرار العمليات العسكرية هناك يشكّل انتهاكاً واضحاً لأوامرها السابقة. وبعد أيام، وتحديداً في 20 مايو/أيار، أعلنت النيابة العامة للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات توقيف بحق بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، إلى جانب ثلاثة من قادة حركة حماس. وهي سابقة تاريخية، إذ كانت المرة الأولى التي تُصدر فيها المحكمة أوامر اعتقال ضد قادة دولةٍ حليفةٍ للولايات المتحدة، بعدما اقتصرت معظم ملاحقاتها لعقود على قادة أفارقة. وبذلك، صار نتنياهو وغانت عرضةً للاعتقال فور دخول أي دولة عضو في المحكمة من أصل 124 دولة.

تشيلي تطلب الانضمام إلى قضية الإبادة الجماعية ضد الاحتلال
ممثلي الاحتلال الإسرائيلي وجنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية/ رويترز

بالتوازي مع المسار القضائي، تزايد التدهور الدولي لمكانة إسرائيل سياسياً وأخلاقياً. فقد نشرت المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيزي تقاريرها حول الإبادة في غزة، مؤكدةً أن فلسطين اليوم "مسرح جريمة مكتملة الأركان"، وأن على المجتمع الدولي واجب التحرك الفوري لوقفها. ولم يقتصر هذا التراجع على أوروبا، بل شمل موجة من القطيعة الدبلوماسية وتجميد العلاقات من قبل دولٍ في أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا.

بل وبرزت مبادراتٌ دبلوماسية بديلة من الجنوب العالمي، كان أبرزها "مجموعة لاهاي" التي تأسست مطلع عام 2025 برعاية المنظمة التقدمية الدولية (Progressive International). جاءت هذه المبادرة كتعبيرٍ عن تنامي محور دولي مناهض للاستعمار يجمع أكثر من 30 دولة من أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وحتى أوروبا، هدفه المعلن: إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ودعم حق الفلسطينيين في تقرير المصير.

وقد شكّلت هذه المجموعة أول محاولة منظّمة من دول الجنوب لفرض نظام عقوبات جماعي على إسرائيل خارج المنظومة الغربية، من خلال التزام دول المجموعة بـ : حظر السلاح والإمدادات العسكرية، إغلاق الموانئ والأجواء أمام الإمدادات العسكرية، مراجعة العقود مع الشركات المتورطة في الاحتلال، وتفعيل الملاحقات القانونية الدولية.

كيف تحاول إسرائيل كسر عزلتها؟

وباتت إسرائيل نفسها اليوم تدرك عزلتها، إذ لم تعد صورتها في العالم، ولا سيما في الولايات المتحدة، كما كانت قبل حرب الإبادة على غزة. فقد كشف استطلاع مركز بيو نفسه أن 58% من الإسرائيليين أنفسهم يعتقدون أن دولتهم لم تعد تحظى بأي احترام دولي يُذكر. هذا الشعور بالعزلة يجد صداه في تقارير معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، حيث أشارت الباحثة بنينا شارفيت باروخ — المستشارة القانونية السابقة لقيادة الجيش الإسرائيلي — إلى أن ما بعد طوفان الأقصى مثّل لحظة انكشاف كاملة:

"إسرائيل وصلت إلى حالة من فقدان الشرعية تقريباً بالكامل، وأصبحت دولة منبوذة، خصوصاً في الأوساط الأكاديمية وبين الشباب حول العالم."

تتسع هذه الدائرة من التراجع لتشمل الولايات المتحدة، التي كانت لعقود حجر الزاوية في شرعية إسرائيل السياسية والعسكرية. فقد أشار بحثٌ مشترك للخبيرين إلداد شافيت وتيد ساسون إلى أن إسرائيل تواجه "التحول الأخطر في تاريخ علاقتها بالولايات المتحدة"، بعد انهيار الدعم التقليدي لها داخل الحزب الديمقراطي وتآكل التأييد الجمهوري تدريجياً، خصوصاً بين تيار MAGA، ما جعل تل أبيب اليوم — كما يقول الباحثان — تعتمد على رئيسٍ متقلّب وحزبٍ منقسم، في بيئة سياسية لم تعد تمنحها شيكاً مفتوحاً كما في الماضي.

حتى داخل الدوائر الإعلامية المحافظة، التي طالما دافعت عن إسرائيل، بدأت نغمة ناقدة لإسرائيل لم تكن مألوفة في الظهور. فالإعلامي الأمريكي تاكر كارلسون، أحد أبرز الأصوات اليمينية الداعمة سابقاً للصهيونية، شنّ هجوماً حاداً على إسرائيل، وقال في بودكاسته:

"لا بد من تصحيح الفكرة التي تزعم أن هناك من يسمّون أنفسهم شعب الله المختار… هذه هرطقة غير مقبولة؛ فالإله لا يختار شعباً يقتل الأطفال والأبرياء. كل ما تقوم به إسرائيل هو ضد الإنجيل وضد تعاليم يسوع، فكيف يمكننا الموافقة على شيء كهذا؟"

هذا التحول غير المسبوق في بعض المزاج الأمريكي دفع إسرائيل إلى محاولة تعويض خسائرها الدعائية عبر ما يصفه المسؤولون الإسرائيليون بـ"الجبهة الثامنة" في الحرب الحالية التي يشنّها الاحتلال في عدة جبهات.

فقد كشفت صحيفة تايمز أوف إسرائيل عن وثائقٍ تُظهر إطلاق حملة علاقات عامة أمريكية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، استعانت فيها تل أبيب بشركة Bridges Partners LLC لتجنيد مؤثرين أمريكيين على "تيك توك" و"إنستغرام"، بميزانية تقارب 900 ألف دولار شهرياً، تحت مشروع يُعرف باسم "مشروع إستر".

وفي إطارٍ موازٍ، أبرمت إسرائيل عقداً آخر بقيمة 1.5 مليون دولار شهرياً مع براد بارسكيل، المدير السابق لحملة دونالد ترامب، للقيام بـ"اتصالات استراتيجية" لمواجهة ما تصفه بـ"معاداة السامية" في الولايات المتحدة.

لكن هذه الحملات — رغم كلفتها الضخمة — تكشف عمق الأزمة بدلاً من احتوائها: فإسرائيل تخسر اليوم معركة الرأي العام الأمريكي، ليس فقط في الجامعات ووسائل الإعلام، بل حتى في قلب القاعدة التي كانت تعتبرها حليفها العقائدي. وكما حذّر الناشط المحافظ الراحل تشارلي كيرك في رسالة إلى نتنياهو قبل اغتياله: "إسرائيل تخسر حرب المعلومات، وإذا استمر هذا الاتجاه، فإنها ستفقد الجيل القادم — والغطاء السياسي في واشنطن معها."

إذ يبدو أن الاحتلال يخسر امتياز التحكم في الرواية، أو كما تُجادل فرانسواز فيرجيس، المؤرخة الفرنسية المناهضة للاستعمار: "علينا الاعتراف بأن فلسطين أصبحت مركز العالم اليوم"، إذ أصبحت فلسطين "مرادفاً عالمياً للنضال ضد الاستعمار، من أجل إنهاء الاستعمار، ومن أجل إلغاء الاستعمار الاستيطاني في كل مكان." فحرب الإبادة في غزة تُفجّر السردية الإسرائيلية من جذورها، وتُسقِط آخر أقنعتها، إذ لم يعد ممكناً الاحتماء بخطاب "المظلومية" وسط مشاهد المجازر اليومية، ولم تعد أدوات الدعاية قادرة على تزييف ما يشاهده الناس بأعينهم.

تحميل المزيد