استعاضت الحكومة الإسرائيلية بـ"السيطرة على غزة" بدلًا من مصطلح "احتلال" القطاع، للتخفيف من حدة التوتر وتبعات العملية التي ينوي الاحتلال الإسرائيلي تنفيذها في القطاع، لكن خطابات نتنياهو وتاريخ إسرائيل يقولان غير ذلك؛ فعلى مدار سنوات طويلة منذ عام 1967، تحولت مناطق السيطرة "المؤقتة" إلى دائمة.
ويحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بث رسائل طمأنة بشأن طبيعة العملية في مدينة غزة، والتي صادق عليها المجلس الأمني المصغّر في 8 أغسطس/آب 2025.
ومن أبرز رسائل الطمأنة:
- أن العملية لا تهدف إلى الاستيلاء على كامل قطاع غزة، بل على مدينة غزة فقط.
- أن ما سيتم هو "سيطرة مؤقتة" وليس احتلالًا.
- زعم نتنياهو في تصريحات لقناة "فوكس نيوز" أنه يريد تسليم الإدارة المدنية في غزة إلى "قوات عربية".
هل يحوّل نتنياهو السيطرة على غزة من مؤقتة إلى دائمة؟
تقول الكاتبة الإسرائيلية داليا شيندلين، في مقال على صحيفة "هآرتس"، إن نتنياهو يكذب. فعندما يعلن أن الخطة الجديدة عملية مؤقتة ومحدودة، وأن إسرائيل ستنهي الحرب بشروطها وتعيد جميع الأسرى، وأنها لا تريد احتلال غزة بل مجرد الحفاظ على السيطرة الأمنية الشاملة والوجود العسكري في منطقة "عازلة" مع تسليم السيطرة المدنية لطرف آخر، فإن معظم هذا الكلام خاطئ على الأرجح.
وأوضحت أن نتنياهو، حين يقول إنه يريد تسليم قطاع غزة إلى سلطة مدنية حاكمة من "قوات عربية"، يمارس الخداع، وذلك لعدم جدوى هذه الفكرة للأسباب التالية:
- الجميع يعلم أن أي دولة عربية لن تتحمل مسؤولية أي دور حاكم في غزة دون التزام بإقامة دولة فلسطينية في نهاية المطاف، أو دون دعوة من السلطة الفلسطينية نفسها.
- نتنياهو عدو لدود لهذه الفكرة، ولا توجد أي مؤشرات على رغبته أو رغبة الدول العربية في تغيير مواقفهما.

وفي إطار عملية الخداع، تحدث نتنياهو فقط لوسائل الإعلام الأجنبية عن "مبادئه الخمسة"، والتي كان خامسها أن قوة مدنية بديلة عن حركة حماس أو السلطة الفلسطينية ستحكم غزة، لكنه لم يصرّح لوسائل إعلام عبرية بأنه لا يريد احتلال غزة.
وقبل يومين فقط من قرار الحكومة الإسرائيلية بشأن غزة، كتب مراسل إذاعة الجيش الإسرائيلي، شاهار عليك، أنه يعتقد بأن نتنياهو جاد في خطة احتلال غزة، وأنها ليست دعاية إعلامية أو بالون اختبار أو وسيلة ضغط للتوصل إلى اتفاق.
وأوضحت الكاتبة أن هناك سببًا أعمق للاعتقاد بأن إسرائيل لن تتوقف عن احتلال غزة، وهو أن لإسرائيل تاريخًا يمتد لستة عقود في تحويل "السيطرة المؤقتة" إلى احتلال دائم.
ما أبرز شواهد إسرائيل في تحويل الاستيلاء المؤقت إلى دائم؟
تقول الكاتبة إن إسرائيل اتبعت نهج إرساء البنية التحتية للحكم العسكري المؤقت، والتظاهر بمعارضة المستوطنات المدنية، لكنها تركتها مع السنوات تنمو حتى أصبح من المستحيل اقتلاعها.
ومن أبرز شواهد التحوّل من الاستيلاء المؤقت إلى الدائم:
أولًا: المستوطنات "المؤقتة" بعد عام 1967
السيطرة العسكرية
- في العقد الأول للاحتلال، عملت حكومات حزب العمل (المعراخ) بموجب "خطة ألون"، التي أوصت ببناء بؤر عسكرية في مناطق ذات "أهمية أمنية" وتضم كثافة سكانية فلسطينية منخفضة، مثل غور الأردن، وأجزاء من جبال الخليل، والقدس وضواحيها.
- واستنادًا إلى أوامر عسكرية، استطاع الحاكم العسكري الإسرائيلي السيطرة على الأراضي بحجج مختلفة، منها إعلان أجزاء منها كـ"أراضي دولة"، أو مصادرتها لأسباب أمنية، وتجريد المواطنين الفلسطينيين من حيازتهم القانونية.
- كما استعمل الاحتلال سياسات التهجير القسري وتفريغ الأراضي من مالكيها. وأصدر قوانين وأوامر عسكرية مكّنته من استغلال الهجرة القسرية للفلسطينيين عن أراضيهم وبيوتهم لمصلحة الاحتلال، وكان أبرزها إعلان الأراضي الزراعية غير المستصلحة "أراضي دولة"، بالإضافة إلى أوامر بخصوص "الأملاك المتروكة".
كيف بُنيت مستوطنة كريات أربع؟
- يعود أصل الاستيطان في الخليل إلى عام 1968، حين أقامت مجموعة من المستوطنين عدة أسابيع في فندق بارك (المعروف بفندق النهر الخالد). وبعد احتجاج الفلسطينيين، غادر المستوطنون وأقاموا في بناية بجوار مقر الحاكم العسكري وسط الخليل.
- وفي عام 1969، سيطر المستوطنون على منطقة جبلية شرقي الخليل، قرب وادي الغروز والبويرة والبقعة، وأقاموا مستوطنة كريات أربع. وفي عام 1970 بدأت البنايات تُشيَّد ليسكنها المستوطنون المتطرفون من حزبي (هتاحيا وموليدت).
- ومن كريات أربع انطلقت حركة "غوش أمونيم" الاستيطانية المتطرفة، التي جلبت آلاف المستوطنين حتى بلغ عددهم نحو سبعة آلاف.
ثانيًا: الوجود المؤقت للاحتلال في الضفة الغربية يتحول إلى دائم
في اتفاقية أوسلو وقع الفلسطينيون في فخ "السيطرة المؤقتة" على مساحات واسعة من الضفة الغربية.
ووفقًا للاتفاقية، توزعت أراضي الضفة إلى:
- مناطق تابعة للسيادة الفلسطينية.
- مناطق ذات سيادة "فلسطينية–إسرائيلية مشتركة".
- مناطق تحت "السيادة الأمنية الإسرائيلية المباشرة".
وشملت المنطقة (ج) نحو 60% من مساحة الضفة، وكان يفترض تسليمها للسلطة الفلسطينية عام 1999، لكن إسرائيل أبقت سيطرتها الكاملة عليها، وشهدت أكبر عمليات هدم وتهجير، وتحولت إلى "شبه دولة" للمستوطنين.
وفي مايو 2025، صادقت الحكومة الإسرائيلية على تحمل المسؤولية الكاملة عن تسجيل الأراضي في المنطقة (ج)، وهو ما يُعد ضمًّا فعليًا لها.

أما المنطقة (ب)، التي تمثل 18.5% من مساحة الضفة، والمفترض أن تخضع إداريًا للسلطة الفلسطينية وأمنيًا للاحتلال، فقد تحولت بمرور الزمن إلى منطقة خاضعة لسلطة الاحتلال بشكل شبه كامل.
أما المنطقة (أ)، التي تمثل 17.5% من مساحة الضفة، فرغم أن السلطة الفلسطينية تملك فيها سيطرة مدنية وعسكرية، فإن العمليات العسكرية اليومية جعلتها عمليًا تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية.
وتشير الكاتبة في "هآرتس" إلى أن السيطرة الأمنية الإسرائيلية باتت تنعكس على حياة الفلسطينيين في مناطق (أ) و(ب)، في كل المجالات: من البنية التحتية للمياه والكهرباء، إلى نظام تصاريح الدخول، مرورًا بالحواجز العسكرية التي تُقسم الضفة الغربية وفق أهواء الجيش.
ثالثًا: الحواجز والجدار الأمني بالضفة تحولت إلى دائمة
- خلال الانتفاضة الثانية (2000)، أنشأ الاحتلال مئات الحواجز "المؤقتة"، لكنها تحولت إلى حواجز دائمة إسمنتية مزوّدة بأبراج مراقبة وتقنيات إلكترونية.
- ورغم ترويج الاحتلال أنها "إجراءات أمنية مؤقتة"، فإنها كرّست تقسيمًا جغرافيًا وسيطرة دائمة.

- وفي عام 2002، زعمت إسرائيل أن بناء الجدار العازل "إجراء أمني مؤقت لحماية الإسرائيليين"، لكنه شُيّد بطريقة ضمّت مساحات واسعة من أراضي الضفة وعزلت قرى بأكملها.
- وتحوّل الجدار إلى أداة أساسية للضم السياسي، إذ سيطرت إسرائيل من خلاله على نحو عُشر مساحة الضفة، وضيّقت على الفلسطينيين بين مساره والخط الأخضر، كما ألحقت أضرارًا شاملة بالتجمعات التي فُصلت عن أراضيها شرقي الجدار.