أصبح القطب الشمالي، الذي كان من المناطق المنسية في العالم، ويرتبط غالباً بالمناظر الطبيعية الهادئة والحياة البرية، محط صراع جديد للقوى العالمية، خاصة الولايات المتحدة وروسيا والصين، لما يحمله من أهمية استراتيجية بيئية وسياسية واقتصادية وعسكرية مع ذوبان الجليد فيه.
ورغم أن القطب الشمالي كان ساحة معركة بين الولايات المتحدة ودول منظمة حلف الشمال الأطلسي والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، إلا أن دول القطب الشمالي سعت إلى الحفاظ عليه كمنطقة للتعاون بعدها.
لكن المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا والصين أدت إلى زيادة أهمية القطب الشمالي جيوسياسياً بشكل كبير في العقد الماضي.
ومؤخراً، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رغبته في ضم جزيرة جرينلاند، التي يقع ثلثاها داخل الدائرة القطبية الشمالية، إلى الولايات المتحدة لأغراض تتعلق بالأمن القومي، الأمر الذي أثار حفيظة الروس والصينيين.
حيث تعتبر الجزيرة موقعاً رئيسياً في "طريق الحرير القطبي" الصيني، ويطالب الصينيون بحق الملكية برواسب المعادن الضخمة في الجزيرة التي تحتوي على مخزونات هائلة من اليورانيوم، فيما أكد الروس أن المنطقة القطبية الشمالية هي منطقة مصالحها الوطنية والاستراتيجية، نظراً لامتلاك روسيا أطول ساحل في المنطقة.
لماذا القطب الشمالي مهم جداً الآن؟
بسبب المناخ، شهدت المنطقة القطبية الشمالية تغيرات غير مسبوقة، حيث إنه مع ذوبان الجليد، فإن أفقاً جديداً هائلًا، بما فيها إمكانية إنشاء طرق تجارية جديدة، ينتظر المنطقة التي يتنافس عليها القوى العالمية والإقليمية للاستفادة منها.
- بحسب موقع "ديلي ميل" البريطاني، فإن القطب الشمالي، الذي كان في الماضي عبارة عن منطقة برية متجمدة، أصبح بسرعة نقطة ساخنة للمناورات الجيوسياسية، بسبب الاحتياطات المذهلة من الموارد المخفية تحت الجليد.
- تقدر هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن المنطقة القطبية الشمالية على ما يقدر بنحو 90 مليار برميل (حوالي 15%) من موارد النفط غير المكتشفة في العالم، ونحو 40 مليار برميل (حوالي 30%) من موارد الغاز الطبيعي غير المكتشفة.
- تتمتع المنطقة أيضاً بوفرة من المعادن الأرضية النادرة التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من إنتاج البطاريات الحديثة وتكنولوجيا الشرائح الدقيقة.
- تشكل الظروف في القطب مثالية لتعظيم الاستفادة من وسائل الطاقة المتجددة، فالمساحة الشاسعة مهيأة لبناء الألواح الشمسية وطواحين الهواء، كما توفر المساحة المائية الشاسعة فرصة لتوربينات بحرية لإنتاج الطاقة الكهرومائية.
- كما تمثل فرص الصيد الجديدة مورداً اقتصادياً غنياً لجميع البلدان القطبية الشمالية وغير القطبية. ومع ذوبان الجليد، وعلى مدى الـ30 عاماً المقبلة، ستكون المنطقة حاسمة لإحياء الاقتصاد الروسي في مصايد الأسماك.
- زيادة إمكانية الوصول إلى طرق التجارة القائمة مثل طريق البحر الشمالي، أو إمكانية وجود طرق جديدة مثل طريق البحر عبر الشمال العالي، سيؤدي إلى خفض أوقات الشحن وتوفير الوقود المستخدم فيها بشكل كبير.
فعلى سبيل المثال، فإن المسافة من ميناء في شمال غرب أوروبا إلى دول الشرق الأقصى على طول طريق البحر الشمالي أقصر بنحو 40% من الطريق التقليدي عبر قناة السويس.
ويعني ذوبان الجليد في المنطقة القطبية الشمالية أن المزيد من السفن ستكون قادرة على عبور المناطق التي كان من الصعب الوصول إليها تاريخياً، مما يجعل الشحن عبر القطب الشمالي اقتراحاً جذاباً للغاية للتجارة العالمية مع فوائد اقتصادية ضخمة.
وأسهمت هجمات جماعة الحوثي في البحر الأحمر في دفع شركات شحن كبرى إلى تغيير مساراتها، ما أدى إلى انخفاض عدد السفن التي تستخدم قناة السويس.
وفي الوقت ذاته، تسبب الجفاف الشديد في بنما في انخفاض التجارة بنسبة 30% منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
وقد أدت هذه الاضطرابات إلى زيادة بنسبة 283% في تكلفة نقل حاوية بطول 40 قدماً من جمهورية الصين الشعبية إلى شمال أوروبا، بحسب تقرير على مجلة "إيكونوميست".
وقد سلطت هذه التحديات الضوء على الحاجة إلى طرق شحن بديلة، مما يجعل طرق القطب الشمالي ذات أهمية متزايدة.
ما أهمية القطب الشمالي في الاستراتيجية الأمريكية؟
تعترف استراتيجية البنتاغون للمنطقة القطبية الشمالية لعام 2024 بأهمية القطب الشمالي المتزايدة بسبب تغير المناخ والتحولات الجيوسياسية والمنافسة المتزايدة بين القوى العظمى.
وبحسب استراتيجية الولايات المتحدة 2024، فإن وزارة الدفاع الأمريكية تعتقد أن القطب الشمالي أصبح منطقة منافسة استراتيجية متزايدة لعوامل عدة، وهي:
- الغزو الروسي لأوكرانيا الذي يهدد استثنائية القطب الشمالي.
- انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي.
- التعاون المتزايد بين الصين وروسيا.
- تغير المناخ المتسارع الذي يجعل القطب الشمالي أكثر سهولة في الوصول إليه، وزيادة النشاط البشري ومخاطر الحوادث والتدهور البيئي.
ومن معالم الاستراتيجية الأمريكية في القطب الشمالي:
- تمتلك الولايات المتحدة بنية تحتية دفاعية كبيرة في القطب الشمالي، بما في ذلك أراضٍ مثل ألاسكا، التي يوجد فيها أنظمة التحذير الجوي والبحري الأمريكية.
- ويدعم القطب الشمالي العمليات الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ويشكل جناحاً شمالياً مهماً للتدخل العسكري السريع في أوروبا.
- وللولايات المتحدة قاعدة مهمة واحدة، وهي قاعدة بيتوفيك الفضائية في جزيرة جرينلاند، بالإضافة إلى قاعدتين إضافيتين جنوب الدائرة القطبية الشمالية في ألاسكا.
- كما لا تمتلك الولايات المتحدة سوى كاسحتين للجليد في المحيط، وهناك تباين صارخ في الوجود العسكري بين موسكو وواشنطن في القطب الشمالي.
- وتستثمر الولايات المتحدة في النفط والغاز الطبيعي في القطب الشمالي، حيث يعد حقل نفط خليج برودو في ألاسكا الأبرز في أمريكا الشمالية. وبالعقد الأول من القرن الـ21، كان الحقل ينتج حوالي 8% من النفط المحلي في أمريكا.
وبحلول عام 2022، دفعت النزعة العسكرية الروسية وطموحات الصين في "طريق الحرير القطبي" الولايات المتحدة إلى تحديث استراتيجيتها في القطب الشمالي، مع التركيز على الجاهزية العسكرية والبنية الأساسية والتعاون مع حلف شمال الأطلسي.
كما أعطت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الأولوية للاستثمار في كاسحات الجليد، والعمل المناخي، ومشاركة السكان الأصليين، مما أدى إلى تحقيق توازن دقيق بين الأمن القومي والتنمية المستدامة في هذه المنطقة المتنازع عليها بشكل متزايد.
روسيا سبقت أمريكا في القطب الشمالي
في الوقت الذي تواجه الولايات المتحدة ودول الغرب تحديات عدة في تأكيد مصالحها في المنطقة، نجحت روسيا، التي تمتلك أكبر خط ساحلي في القطب الشمالي، في وضع نفسها استراتيجياً في طليعة السباق نحو الهيمنة هناك.
وأعطى مفهوم السياسة الخارجية الروسية لعام 2023 رؤية جديدة لطموحات موسكو في القطب الشمالي، من حيث التنمية الاقتصادية المحتملة، بما في ذلك استكشاف النفط والغاز وتطوير طريق البحر الشمالي.
بحسب الفريق الدولي لدراسة الأمن في فيرونا، فإن فهم استراتيجية روسيا في الشمال العالي يشير إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بمساعدة الصين، قد يستخدم القطب الشمالي كساحة لممارسة القوة في قطاع الطاقة، وطرق الشحن، والنفوذ العسكري.
ومع استمرار الحرب في أوكرانيا، والتي كشفت أن الكثير من المعدات العسكرية الروسية قديمة، وأن احتياطيات الأسلحة الحديثة قليلة مقارنة بها، فإن موسكو تحاول إعادة تأكيد براعتها العسكرية من خلال تطوير أسلحة للبيئة القاسية التي تفتقرها دول القطب الشمالي الأعضاء في حلف شمال الأطلسي "الناتو".
وحول الترسانة العسكرية الروسية في القطب الشمالي:
- أنشأت روسيا 14 مطاراً، وست قواعد عسكرية، وأعادت ترميم 16 ميناء للمياه العميقة، و10 مراكز حدودية في جميع أنحاء القطب الشمالي.
ويضم الأسطول الروسي في القطب الشمالي ما يقدر بنحو 1020 سفينة، منها 40 كاسحة جليد. - تتمركز الترسانة النووية الروسية داخل أسطولها الشمالي الذي يقع مقره الرئيسي في سيفيرومورسك، وهي مدينة تقع داخل الدائرة القطبية الشمالية.
- وخلال السنوات الخمس الماضية، شهد القطب الشمالي زيادة روسية في عدد المفاعلات النووية المدنية والعسكرية بنسبة 30%، حيث وصل عددها من 62 إلى 81 مفاعلاً، وبحلول عام 2035، من المتوقع أن يكون هناك 118 مفاعلاً.
وفيما يتعلق بالتجارة واستخراج الموارد، تدعي روسيا ملكية وسيطرة الجزء الأكبر من طريق البحر الشمالي، والذي يمكن أن يصبح طريقاً جديداً للتجارة الدولية.
وتعتقد روسيا، بحسب الفريق الدولي لدراسة الأمن في فيرونا، أن نظام العقوبات التي فرضه الغرب على النفط الروسي كان له عواقب وخيمة، ومع انفتاح القطب الشمالي على إمكانات موارد الطاقة الجديدة، فمن الممكن أن تسعى إلى ترسيخ موقف قوي في هذا التطور للحفاظ على موطئ قدم لها في مجال الطاقة الدولية.
ويشير مركز دراسات الأمن القطبي إلى أن أحد الأهداف الرئيسية لروسيا في القطب الشمالي ينصب في تطوير طريق البحر الشمالي، باعتباره شريان نقل تنافسي مع إمكانية استخدامه دولياً للنقل بين أوروبا وآسيا.
ومع تعليق مجلس القطب الشمالي، الذي يضم كندا والدنمارك وفنلندا وأيسلندا والنرويج والسويد والولايات المتحدة، عام 2022 بسبب الحرب الأوكرانية، يخشى بعض الخبراء أن تقوم روسيا أو الدول السبع الأخرى في القطب الشمالي بإنشاء مؤسساتها الخاصة دون مشاركة الأطراف الأخرى.
الصين تحاول فرض نفوذها في القطب الشمالي
تصف الصين نفسها بأنها "دولة قريبة من القطب الشمالي"، وعلى الرغم من عدم تمتعها بأي حق في السيادة على أي مياه أو جرف قاري في القطب الشمالي، إلا أنها تصنف باعتبارها "مراقباً" في مجلس القطب الشمالي الذي يضم الدول الثمانية في القطب الشمالي.
وفي العام 2018، أصدرت الصين ورقة بعنوان "السياسة الصينية تجاه القطب الشمالي" لتحديد أولوياتها في المنطقة، فهي تعتبر نفسها دولة "شبه قطبية"، وتسعى إلى جعل القطب الشمالي إحدى المناطق التي تحاول من خلالها بناء نفوذها.
وللصين الوسائل والدافع لتصبح لاعبة رئيسية في تنمية المنطقة القطبية الشمالية، والسباق للحصول على الوصول إلى موارده الطبيعية وطرق التجارة عليه، حيث تمتاز بأنها تأتي في طليعة أبحاث التربة الصقيعية والتكنولوجيا القطبية، وهي بصدد بناء المزيد من كاسحات الجليد لإضافتها إلى أسطولها المتنامي.
وحاولت الصين شراء مناجم في إقليم نونافوت القطبي الشمالي، وتزايدت جهودها للبحث والاستحواذ على الأراضي في أرخبيل سفالبارد.
ومن الممكن أن يسعى بوتين، نظراً لاعتماد الكرملين على الصين كشريك اقتصادي وتجاري وحليف سياسي رئيسي، إلى تقديم صفقات مواتية للرئيس الصيني للوصول إلى المنطقة التي تعد الممرات المائية النامية فيها أمراً بالغ الأهمية بالنسبة لبكين، بحسب موقع "ديلي ميل".
وتعاني الصين من أنها تجري الجزء الأكبر من تجارتها عبر سلسلة من نقاط الاختناق الرئيسية لا تخضع لسيطرتها، من بينها مضيق ملقا جنوب شرق آسيا، وهو عنق زجاجة استراتيجي يحده إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، وهي جميعها دول شريكة للولايات المتحدة.
ويذكر الدبلوماسي البريطاني السابق آرثر سنيل، أن الصين تعتمد بشكل كبير على تدفق الموارد عبر الممرات المائية الحيوية، وفي الوقت الحالي تهيمن الولايات المتحدة على جميع الممرات الرئيسية التي تتدفق إلى بحر الصين الجنوبي.
وأضاف أن "هذا يشكل نقطة ضعف كبيرة بالنسبة للصين"، مشيراً إلى أن تطوير القوة البحرية والتواجد في طليعة تنمية المنطقة القطبية الشمالية الشمالي لتأمين ممرات تجارية مواتية من بين الأولويات الرئيسية للحزب الشيوعي الصيني.
وكما هو الحال مع روسيا، اشترت الصين عقارات في دول القطب الشمالي، كما تحتفظ بسلسلة من قواعد الأقمار الصناعية ومجموعات الهوائيات، ورغم أن جميعها مخصصة لأغراض بحثية، إلا أنه من المرجح أن يكون لها استخدام عسكري مزدوج.
وهكذا، مع التنافس على الموارد، وممرات الشحن الحيوية، والتفوق العسكري الذي يدفع الحرب، تتحول المنطقة القطبية الشمالية بسرعة إلى منطقة جيوسياسية متنازع عليها، تتنافس عليها القوى العالمية مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين بعد ذوبان الجليد.