"نقتل كل فلسطيني يقترب حتى لو كان طفلاً أو غير مسلح، ومن ثم نترك الكلاب تنهش جثثهم"، هذا ما كشفته صحيفة "هآرتس" العبرية، في تحقيق لها نشر مؤخراً، حيث أدلى جنود وضباط إسرائيليين خدموا في "محور نتساريم" اعترافات بشأن قتلهم مدنيين فلسطينيين في قطاع غزة ومن ثم تصنيفهم كـ"إرهابيين".
ويتناول تحقيق "هآرتس" إفادات عديدة لضباط خدموا في المنطقة، عن القتل التعسفي والسهولة ضد المدنيين الفلسطينيين. وفقاً لتقرير الصحيفة، شهدت الوحدات العسكرية في غزة سباقاً غير أخلاقي لقتل الضحايا الفلسطينيين بين الجنود، حيث قام جنود الاحتلال بتحويل منطقة نتساريم إلى ممر للموت وتنفيذ عمليات قتل ممنهجة، حيث يُطلق الرصاص على أي شخص يقترب من "الخط الوهمي"، وتُترك الجثث مكشوفة، لتتعرض للنهش من قبل الكلاب.
تفاصيل هذا الممر المروعة جاءت على لسان المشاركين فيها، الذين أوضحوا أن الجرائم امتدت على طول سبعة كيلومترات، بين السياج الأمني المحيط بغزة والمنطقة القريبة من كيبوتس "بئيري" باتجاه الساحل. ووفقاً للتقرير الذي نشرته "هآرتس" استند إلى شهادات من ضباط وجنود، فإن أن أي فلسطيني يُعتبر هدفاً مشروعاً للإعدام في هذه المنطقة.
ما هو محور نتساريم؟
- يقع ما يسمى بمحور "نتساريم" جنوب مدينة غزة ويمتد ليصل إلى مستوطنة نتساريم التي بنيت عام 1972 بعد احتلال قطاع غزة عام 1967، والتي أخليت وتم تفكيكها في عام 2005 تحت ضربات المقاومة الفلسطينية، وظلت بعدها عبارة عن أطلال مهجورة لا يسكنها أحد، ويوجد بها قليل من المؤسسات والمنشآت..
- اكتسب المحور أهميته الاستراتيجية بسبب موقعه الذي يربط بين مناطق حيوية ويُستخدم كوسيلة ضغط سياسي وعسكري. فمنذ الانتفاضة الثانية، شكل المحور نقطة اشتباك ومواجهات رئيسية بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي. حيث استخدمت "إسرائيل" المنطقة لتوسيع المستوطنات وتقييد حركة الفلسطينيين، مما أدى إلى مواجهات عنيفة.
- أخليت نتساريم كموقع استيطاني ضمن خطة الانسحاب الإسرائيلية من غزة عام 2005 بقرار من رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون. لكن خلال الحرب على غزة في 2023-2024 اجتاحت قوات جيش الاحتلال المنطقة وحولته إلى منطقة عسكرية تقطع أوصال القطاع، يتم قتل كل فلسطيني يقترب منها "حتى لو كان طفلاً" باعتراف ضباط من جيش الاحتلال.
- فرضت دولة الاحتلال وجودها الدائم بقطاع غزة من خلال محور نتساريم الذي يشق أراضي القطاع ويمكنها من إحكام سيطرتها على حركة الفلسطينيين بين شمال وجنوب القطاع. حيث قامت القوات الإسرائيلية وفق تقديرات بتخريب نحو 38 كيلومتراً مربعاً من المساحة الإجمالية لأراضي قطاع غزة، والبالغة 365 كيلومتراً لغرض إنشاء محور نتساريم. كانت هذه المساحة المُدمرة تتضمن أراض زراعية ومبان سكنية بمساحة إجمالية تبلغ قرابة 6-7 كيلومتر مربع سوتها الجرافات الإسرائيلية بالأرض لإكمال إنشاء المحور.
- بحسب تقديرات، يصل طول محور نتساريم إلى 6 كم وبعرض كيلومترين. حيث يمتد من حدود المستوطنات الإسرائيلية وصولاً إلى البحر المتوسط، وهو يفصل مدينة غزة عن بقية القطاع.
- يضم محور نتساريم خمس قواعد عسكرية أمامية على الأقل لمراقبة السكان والتحكم في حركتهم بين شمال وجنوب غزة. ويشير بناء هذه المواقع، والتجريف المكثف للأراضي القريبة، إلى أن القوات الإسرائيلية لا تنوي الرحيل قريباً.
ماذا تهدف "إسرائيل" من استمرار سيطرتها على "محور نتساريم"؟
- تهدف دولة الاحتلال إلى تعزيز القبضة العسكرية على القطاع وتقطيع أوصاله، ومنع وصول سكان مناطق شمال قطاع غزة من الوصول إليها. بالإضافة إلى تقليص فعالية المقاومة الفلسطينية من خلال تضييق الخناق الجغرافي عليها.
- وخلال جولات المفاوضات المتكررة لوقف الحرب بواسطة أمريكية وقطرية ومصرية، تقول حركة حماس إن حكومة نتنياهو تُفشل التوصل إلى وقف لإطلاق النار وتبادل الأسرى بسبب وضعها شروط متكررة على رأسها عدم الانسحاب من محور نتساريم الذي يمنع سكان شمال القطاع من الوصول إلى أحيائهم التي تم مسحها على الأرض بواسطة جيش الاحتلال.
- وقد أعلن نتنياهو مرات عدة أن "إسرائيل" لن تنسحب من محوري فيلادلفيا ونتساريم -وحتى معبر رفح- بموجب أي اتفاق هدنة، بينما يرفض الدبلوماسيون الفلسطينيون هذه المناطق العازلة في كلا المحورين، ويجادلون بأن نتنياهو أضافها إلى نقاط التفاوض لعرقلة محادثات وقف إطلاق النار، هذه هي العقبة الأساسية في طريق اتفاق الهدنة الآن.
- يحمل اسم نتساريم في حد ذاته يحمل لمحة عما يخفيه المستقبل، حيث كانت نتساريم واحدة من المستوطنات الإسرائيلية قبل الانسحاب عام 2005. وتشير إعادة استخدام الاسم إلى احتمال تفكير الإسرائيليين في إعادة إحياء جهود بناء مستوطنات جديدة داخل غزة، وورد هذا على ألسنة عدد من كبار الوزراء الإسرائيليين، مثل بن غفير.
- سبق وأن اقترح نتنياهو حفر قنوات وخنادق على طول محور نتساريم من الشمال إلى الجنوب بشكل لا يسمح مستقبلاً بمرور المركبات، وتحويل المركبات التي تطلب العبور تجاه الشرق للفحص قبل عبورها إلى شمال غزة. لكن بحسب صحيفة "يديعوت أحرنوت" فإن المقترح كان قد تمت مناقشته منذ فترة وقوبل بالرفض من قبل فريق التفاوض، خاصة أن تنفيذ المقترح كان سيتطلب وقتاً كبيراً، وأنه لا توجد فرصة لقبوله من قبل حماس أو الوسطاء. ومع ذلك، أصر نتنياهو على تقديم المقترح الذي رفضه الوسطاء كما كان متوقعاً في أغسطس/آب 2024.
خطط اليمين المتطرف لإعادة الاستيطان في "نتساريم"
- بحسب تقرير سابق لصحيفة "هآرتس"، فإن أحزاب ومنظمات اليمين المتطرف الصهيونية تحلم بإعادة الاستيطان في نتساريم ومناطق أخرى من قطاع غزة احتلها الجيش الإسرائيلي خلال الحرب الجارية.
- وأصبحت هذه المنطقة مركز تعبئة مركزي للحركة الرامية إلى إعادة توطين غزة. على سبيل المثال، في عيد "الحانوكا"، أحضر جنود إسرائيليون يرتدون الزي الرسمي شمعداناً إلى مبنى مجاور للمستشفى التركي الذي يقع داخل المنطقة التي تم الاستيلاء عليها في محور نتساريم.
- وهذا الشمعدان كان قد تَمَّت إزالته من سطح "كنيس نتساريم" عندما تم إخلاء المستوطنة وكان جزءاً من مجموعة متحف غوش قطيف في القدس. وأعلن قائد عسكري خلال حفل جلب الشمعدان أن الجنود هم "أحفاد وأحفاد المكابيين" (مجموعة من المتمردين اليهود القدامى الذين أسسوا السلالة الحشمونية 167 قبل الميلاد)، وأنهم "أعادوا الشمعدان إلى مكانه الصحيح".
- وأقام الجنود أيضاً مراسم تركيب لفافة توراة في الموقع، ووفقًا لأميت سيغال وصحفيين يمينيين آخرين، كانت هذه اللفافة هي ذاتها التي تمت إزالتها من كنيس نتساريم أثناء فك الارتباط، وتمت إعادتها الآن، حسب قولهم. وتمت مشاركة لقطات الشمعدان من قبل منظمة بني دافيد – إيلي التابعة للحاخامات المتطرفين.
- ومؤخراً، نشر صحفيون يمينيون أيضاً صوراً للجدول اليومي في الكنيس الذي تم افتتاحه في ممر نتساريم – "الكنيس إلى الأبد في نتساريم". وبحسب التقارير، تعقد اجتماعات في الموقع، بما في ذلك تلك التي يقودها حاخام المدرسة الدينية في موقع إيفياتار الاستيطاني في الضفة الغربية، ديفيد أميتاي، الذي يعمل كجندي احتياطي في غزة. ويظهر مقطع الفيديو التالي أميتاي على سطح المستشفى التركي، موضحاً أن "أرض إسرائيل يتم الحصول عليها من خلال المعاناة". وبهذه الطريقة، تستغل حركة إعادة التوطين في غزة عمليات جيش الاحتلال الإسرائيلي لكسب الزخم لمحاولة استيطان غزة.
تحقيق "هآرتس" يكشف حقائق جديدة حول "ممر الموت"
- في تحقيقها الذي نشر يوم الجمعة 21 ديسمبر 2024، كشفت نقلت "هآرتس" عن الجنود والضباط الإسرائيليين الذين خدموا في "نتساريم" قولهم إن "المباني في غزة التي صُنفت على أنها منازل لإرهابيين أو مناطق تجمع للعدو لم يتم إزالتها من قائمة أهداف الجيش حتى بعد قصفها، ما يعرض المدنيين الذين يدخلونها للخطر". وأضافت نقلا عن الجنود: "يحدث هذا لأن الجيش لا يحدّث قائمة أهدافه في غزة دوريا، ولا يخبر القوات على الأرض بالمباني التي لم يعد يستخدمها مسلحون".
- في شهادة أخرى، نقلت "هآرتس" عن ضابط لم تسمه تم تسريحه مؤخرا من الفرقة 252، قوله: "بالنسبة للفرقة، تمتد منطقة القتل إلى مدى ما يمكن أن يراه القناص.. نحن نقتل المدنيين هناك الذين يتم اعتبارهم إرهابيين". وتابع: "لقد حولت تصريحات متحدث الجيش الإسرائيلي عن أعداد الضحايا هذه المسألة إلى منافسة بين الوحدات، فإذا كانت الفرقة 99 قد قتلت 150 (شخصا)، فإن الوحدة التالية تستهدف 200".
- وعلقت القناة 13 الإسرائيلية على التحقيق الذي نشرته هآرتس، بأنه أثبت قيام "يهودا فاخ" قائد الفرقة العسكرية الموجودة في محور نتساريم "بتحديد خط جثث لكل جندي من جنوده".
- وتقول الصحيفة إن محور نتساريم الذي يفصل شمال قطاع غزة عن جنوبه "ليس إلا محوراً وهمياً يتغير من وقت لآخر، بينما الجيش يقتل كل من يتجاوزه بمنتهى البساطة".
- ووفقا لما أكده مراسل الشؤون العسكرية بالصحيفة يانيف كوبوفيتش، في مقابلة مع القناة الإسرائيلية، فإن عرض المحور وصل إلى 7 كيلومترات وإن الجيش أعلنه منطقة محظورة. وقال إن هذا المحور ليست له حدود واضحة ولا سياج، وإن الجيش يقتل من يقترب منه بغض النظر عن هويته. وذكر أن رجلاً وابنه كانا يرفعان الراية البيضاء في المكان، وأن الجنود أطلقوا النار عليهما رغم أن ضابطا شابا لفت نظرهم في حديث على اللاسلكي إلى أنهما ربما يكونان أسيرين إسرائيليين.
- وأضاف أنهم "يطلقون النار على أي أحد، ويعتبرون كل من يركب دراجة نارية عضوا في حركة حماس" مؤكداً أن الأمر يشمل نساء وأطفالاً وشيوخاً يتم إدراجهم بشكل مباشر ضمن قائمة "المخربين".
- بدوره، قال رفيف دروكر المحلل السياسي بالقناة 13 إن الحديث عن عدم معرفة رئيس الأركان وقائد المنطقة الجنوبية وغيرهم من القادة بهذه السلوكيات يثير السخرية. وكان وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي دافيد أمسالم قال للقناة الـ14 إن "صحيفة هآرتس معادية للسامية وإن بعض صحفييها يجب أن يوضعوا في السجن".
- وتواصل "إسرائيل" مجازرها متجاهلة مذكرتي اعتقال أصدرتهما المحكمة الجنائية الدولية في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، لارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين في غزة.