لا يبدو أن عودة ترامب ستترك شيئًا هادئًا على الجبهة الغربية بعد الآن. فقد بدأت العديد من الصحف الغربية ومراكز الأبحاث، حتى قبل إعلان نتيجة الانتخابات الأمريكية، تشير إلى أن عودة ترامب ستُطلق موجة من الذعر في قارة تعاني من الانقسام وغياب الدفة. حتى وصفت صحيفة مثل بوليتيكو عودة ترامب بأنها"كابوس" لأوروبا.
فلماذا تخشى أوروبا عودة ترامب؟ وما هي الإجراءات التي يعتبرها بعض المحللين الأوروبيين "انتقامية" وقد تكون بانتظار قادة أوروبا؟ هذا التقرير يستعرض أبرز مخاوف أوروبا من عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
لقد نجح الاتحاد الأوروبي سابقًا في الصمود خلال فترة رئاسة ترامب الأولى؛ فعندما انتُخب ترامب لأول مرة عام 2016، تمكن القادة الأوروبيون من الحفاظ على توازنهم، معززين بإحساس بالاستقرار والسيطرة في قارة بدت آمنة تحت قيادة المستشارة الألمانية القوية أنجيلا ميركل.
أما الآن، مع عودة ترامب من الغرب وتهديد بوتين من الشرق، فيبدو أن غياب القيادة الأوروبية الواضحة يُعمّق المخاوف بشأن المرحلة المقبلة. فلم يستطع خليفة ميركل، المستشار الألماني أولاف شولتز عقب ساعات من فوز ترامب الحفاظ على تماسك ائتلافه، في حين تقلص دور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى مجرد شخصية رمزية في ظل تزايد جرأة اليمين المتطرف.
قبل فوز ترامب، تزايدت المخاوف بأن عودة الزعيم "المزعج" كما وصفته بعض الصحف، من شأنها أن تشجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن لانتزاع أراضي أكثر من أوكرانيا، وقد تؤدي إلى إشعال حرب تجارية مدمرة وتأجيج الانقسامات السياسية في جميع أنحاء القارة العجوز.
ويتلخص القلق الأوروبي من عودة ترمب في 3 محاور:
الأمن الأوروبي
يشعر الأوروبيون بقلق عميق إزاء التداعيات المحتملة لعودة ترامب إلى الرئاسة على أمنهم، لا سيما أن الدعم الأمريكي يظل حاسمًا بالنسبة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) وأوكرانيا. فقد أنفقت كل من واشنطن وبروكسل أكثر من 200 مليار دولار لدعم الحرب في أوكرانيا، وهو رقم، عند تعديله وفق التضخم، يتجاوز تكلفة "خطة مارشال" التي أسهمت في إعادة بناء أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية.
وترى لورا فون دانييلز، رئيسة قسم أبحاث الأمريكتين في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، أنه من دون التزام واضح من الولايات المتحدة، سيفتقر الناتو إلى القيادة السياسية والقدرات التقليدية والنووية اللازمة للدفاع عن أوروبا.
واستنادا إلى تصريحات ترامب نفسه، يتوقع الأوروبيون منه أن يستخدم المادة الخامسة من ميثاق الناتو كوسيلة ضغط لإجبار الحلفاء على زيادة ميزانياتهم العسكرية بشكل أكبر مما فعلوا استجابةً للحرب الروسية في أوكرانيا.
كما أنهم يتوجسون من تهديداته المتكررة بالانسحاب من الحلف، والتي قد يستخدمها كأداة ضغط لتحقيق مصالح أمريكية في قضايا غير دفاعية مع الاتحاد الأوروبي، كقضية العجز التجاري، مما يعزز شروط واشنطن الخاصة .
ويزداد القلق الأوروبي بسبب اهتمام ترامب العلني بالتفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن أوكرانيا. إذ تفتقر القيادة الأوروبية إلى الثقة في استعداد ترامب – أو قدرته – على التوصل إلى اتفاق مرضي للأوروبيين لوقف إطلاق النار، فضلاً عن الشك في تبنيه استراتيجية شاملة تحمي سيادة أوكرانيا بشكل دائم، ناهيك عن إرساء خطة سلام طويلة الأمد تعزز الاستقرار في القارة.
من جانب آخر، يتزايد قلق الأوروبيين إزاء سياسة ترامب المتشددة تجاه إيران؛ فقد سبق أن ألغى الاتفاق النووي الذي دعمته ألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، مما أثار توترات كبيرة بين واشنطن وشركائها الأوروبيين.
الاقتصاد الأوروبي
يخشى الأوروبيون أن تؤدي عودة ترامب إلى الرئاسة إلى كارثة اقتصادية جديدة للعلاقات بينهم. فاستنادًا إلى تصريحاته وأفعاله السابقة، فترامب على استعداد للعودة إلى فرض التعريفات الجمركية وغيرها من التدابير الاقتصادية القسرية ضد حلفاء الولايات المتحدة، بمن فيهم الاتحاد الأوروبي الذي وصفه ترامب بـ"الصين الصغيرة." فقد سبق أن هدد بفرض رسوم تتراوح بين 10% و20% على جميع الواردات إلى الولايات المتحدة في محاولة لاستعادة الوظائف الصناعية إلى أمريكا.
قد توجه هذه الرسوم الجمركية المتجددة ضربة قوية لاقتصادات دول الاتحاد الأوروبي، خصوصًا في قطاعات مثل الصلب والألمنيوم والسيارات. واقتراح ترامب بفرض رسوم بنسبة 100% على جميع المركبات المستوردة يعد بمثابة "ضربة موجعة" لدول ذات صناعات سيارات كبرى. فوفقاً لدراسة نشرتها كلية لندن للاقتصاد، فبالرغم من أن التعريفة الجمركية بنسبة 100٪ على المركبات تستهدف بشكل خاص المركبات الكهربائية الصينية، إلا أن ألمانيا من المرجح أن تعاني من ضربة اقتصادية، فالولايات المتحدة هي الوجهة الأولى لصادرات ألمانيا، في حين أنها خامس أكبر سوق للصادرات الفرنسية.
إلى جانب ذلك، يتوقع بعض المحللين أن يعمد ترامب إلى تكثيف الضغط على الاتحاد الأوروبي لمواءمة سياساته تجاه الصين، بل وربما لحثّه على الانفصال الاقتصادي الكامل عن بكين. وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة بوليتيكو أن كبار المسؤولين التجاريين الأوروبيين أبلغوا سفراء الاتحاد الأوروبي استعدادهم للرد على أي نزاعات تجارية محتملة قد يثيرها ترامب إذا لزم الأمر.
كما تشاطر بريطانيا هذا القلق، حيث يدرس فريق رئيس الوزراء كير ستارمر احتمالات تجدد حرب تجارية مع واشنطن. وعلى غرار شركائهم الأوروبيين، كان يعمل المسؤولون في لندن على إعداد خطط طوارئ تحسبًا لفوز ترامب واحتمالية تنفيذ تهديداته بالرسوم الجمركية.
تسارع صعود اليمين في القارة
يبدي بعض الأوروبيين قلقًا متزايدًا إزاء الانحدار المستمر، وربما غير القابل للإصلاح، في المعايير الديمقراطية على الساحة العالمية مع عودة ترامب إلى الرئاسة. فالأوروبيون يشعرون بالخوف ليس فقط من تحول السياسة الداخلية الأمريكية نحو مسار استبدادي محتمل، ولكن أيضًا من تأثيرات هذه العودة على النظام الدولي ومؤسساته التي ترعى الاتفاقات مثل الاتفاق النووي مع إيران أو اتفاق باريس للمناخ الذي هدد ترامب الانسحاب من كليهما عند عودته للحكم.
و عودة ترامب ستمنح دفعة لزعماء شعبويين وقوميين في أوروبا وخارجها، كما حدث في فترته الرئاسية السابقة.
وتعج أوروبا بالأساس اليوم بهؤلاء الزعماء مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ورئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، الذين من المرجح أن يعتبروا ذلك تأكيدًا لمواقفهم التي لا تتفق مع باقي أوروبا، فقد زار أوربان موسكو للقاء بوتين في خطوة أثارت انتقاد باقي القادة الأوروبيين، وكان دائم الحضور في التجمعات المحافظة المتطرفة في الولايات المتحدة تحت مظلة ترامب.