مع إصدار المحكمة الجنائية الدولية، الخميس 21 نوفمبر 2024، مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بتهمة ارتكابهم جرائم حرب في غزة، وأوضح الفريق القانوني أمام المحكمة الجنائية الدولية، أن أي تعامل مع مجرم حرب يعرّض من يقوم به للمساءلة القانونية، وهو ما ينطبق على الدول والشخصيات السياسية.
قبلت دول أوروبية مهمه وشخصيات أممية ومنظمات حقوقية القرار، وسارعت باعلانها تبني قرار المحكمة الجنائية الدولية، وقال الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل: أمر الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو وغالانت ليس سياسيا ويجب احترام قرار المحكمة وتنفيذه. وأكد أن قرار الجنائية الدولية ملزم ويجب أن يحترم وينفذ من قبل جميع الدول والشركاء في المحكمة.
بالطبع أغضب قرار المحكمة الاحتلال الإسرائيلي، وبالتبعية حليفة الولايات المتحدة الأمريكية ، فهرع عدد كبير من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين لتهديد المحكمة الجنائية الدولية بمعاقبة أفرادها بعد إصدارها مذكرتي اعتقال بحق بنيامين نتنياهو ووزير الحرب المقال يوآف غالانت، والتهديدات الأمريكية للمحكمة الجنائية الدولية ليست مجرد تصريحات جوفاء، بل إنها تستند إلى قانون أمريكي بالفعل يسمى "قانون غزو لاهاي" يشرعن إمكانية تنفيذ عملية عسكرية ضد المحكمة الجنائية الدولية، فما هذا القانون المثير للجدل؟
ما هو بالضبط قانون غزو لاهاي؟ وما هي آثاره؟
صدر قانون تضمين قانون حماية أعضاء الخدمة الأمريكية (Aspa)، والذي يُطلق عليه بشكل غير رسمي قانون غزو لاهاي الذي لا يتذكره الكثيرون في عام 2002 بعد أن وقع عليه الرئيس الأمريكي جورج بوش ليصبح قانوناً، رداً على هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
والجدير بالذكر أن الرئيس الأمريكي جو بايدن عندما كان سيناتوراً كان من بين مجموعة من المشرعين من الحزبيْن الذين صوتوا لصالح القانون.
حصل القانون على اسمه من المادة 2008، من قانون حماية أعضاء الخدمة العسكرية الأمريكية، التي تسمح للرئيس الأمريكي باستخدام "جميع الوسائل الضرورية والمناسبة" لإطلاق سراح أفراد الجيش الأمريكي و"الأشخاص المتحالفين المشمولين".
"يعني مصطلح "الأشخاص المتحالفين المشمولين" الأفراد العسكريين والمسؤولين المنتخبين أو المعينين وغيرهم من الأشخاص العاملين أو العاملين بالنيابة عن حكومة دولة عضو في الناتو، أو حليف رئيسي من خارج الناتو (بما في ذلك أستراليا ومصر وإسرائيل واليابان) والأردن والأرجنتين وجمهورية كوريا ونيوزيلندا)" كما يقول القانون.
أدى هذا التفويض الذي منحه القانون للرئيس الأمريكي إلى تسمية القانون بـ"قانون غزو لاهاي"، لأنه يسمح للرئيس بإصدار أمر بعمل عسكري أمريكي، مثل غزو هولندا، حيث تقع لاهاي، لحماية المسؤولين والعسكريين الأمريكيين من محاكمتهم أو إنقاذهم من الحجز.
تم تقديم مشروع القانون من قبل السيناتور الأمريكي جيسي هيلمز (جمهوري من ولاية كارولينا الشمالية) وعضو مجلس النواب الجمهوري توم ديلاي (من تكساس)، كتعديل لقانون المخصصات التكميلية لعام 2002 لمزيد من التعافي من الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة والرد عليها.
وعندما تم إقرار قانون غزو لاهاي، قالت هيومن رايتس ووتش إن لغة القانون تشير ضمناً إلى أن الرئيس الأمريكي يتمتع بسلطات واسعة لمحاربة المحكمة.
وقالت آنذاك إن "القانون الجديد يجيز استخدام القوة العسكرية لتحرير أي أمريكي أو مواطن من دولة حليفة للولايات المتحدة محتجز لدى المحكمة التي يقع مقرها في لاهاي".
وامتنعت إدارة بايدن عن الاستشهاد بـ"قانون غزو لاهاي" بشكل مباشر في إدانتها لقرار مدعي عام المحكمة إصدار مذكرات توقيف بحق نتنياهو وغالانت.
وحينها قال بايدن في بيان أصدره البيت الأبيض رداً على الدعوة لإصدار أوامر اعتقال: "سنقف دائماً إلى جانب إسرائيل ضد التهديدات لأمنها".
ومع ذلك، استشهد مدافعون آخرون عن إسرائيل بالقانون في دعواتهم إلى رد أمريكي قوي على المدعي العام كريم خان، الذي يعتقدون أنه يستهدف أقرب حليف للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وقال حينها الدبلوماسي الأمريكي المخضرم إليوت أبراهامز: "كما يوحي مصطلح "قانون غزو لاهاي"، لا أحد يعرف إلى أي مدى المحكمة الجنائية الدولية مستعدة للذهاب، أو إلى أي مدى يستعد الأمريكيون للذهاب للدفاع عن أنفسهم".
وكان عضو الكونغرس الجمهوري المؤيد لإسرائيل بريان ماست كان أكثر إشكالية، إذ لم يخفِ تهديده للمحكمة حينما قال: "أمريكا لا تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية، لكن المحكمة بالتأكيد ستعرف ماذا سيحدث عندما تستهدف حلفاءنا".
تناقضات أمريكا تجاه الجنائية الدولية باتت أكثر وضوحاً
ويرى المنتقدون أن تناقض الولايات المتحدة في التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية يشكل علامة على ازدواجية خطابها. كان السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام، الذي هدد بفرض عقوبات على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان ومسؤولين آخرين في المحكمة بسبب اتهام إسرائيل، هو نفس المشرع الذي دعا العام الماضي إدارة بايدن إلى دعم قضيتها ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
وتحظى الجوانب الأكثر تطرفاً في القانون بأكبر قدر من الاهتمام، لكن القانون له الكثير من التأثيرات الملموسة الأخرى على سياسة الولايات المتحدة، ويمكن إرجاعها إلى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية.
واشنطن لعبت دوراً فعالاً في بناء المحكمة الجنائية الدولية ثم تنصلت منها
في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، لعبت الولايات المتحدة دوراً فعالاً في صياغة نظام روما الأساسي، الذي أدى إلى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية.
ووقعت الولايات المتحدة في نهاية عام 2000، على نظام روما الأساسي للمحكمة في عهد بيل كلينتون ولكن لم تصدق عليه، وفي 6 مايو/أيار 2002، قامت الولايات المتحدة، في عهد الرئيس الأمريكي الجمهوري جورج بوش بسحب توقيعها رسمياً وأشارت إلى أنها لا تنوي التصديق على الاتفاقية.
وفي مارس/آذار 2023، أصبح عدد الدول الأعضاء في المحكمة 123 دولة أغلبها من أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء، بينما هناك عدد من الدول البارزة التي لم تنضم للمحكمة مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا وإندونيسيا وأغلب الدول العربية.
ويعد قانون غزو لاهاي "Aspa" هو إرث من التوترات المستمرة منذ عقود بين الولايات المتحدة والمحكمة ويفرض قيوداً شاملة على التعاون بين الاثنين.
ويمنع قانون غزو لاهاي الحكومات الفيدرالية وحكومات الولايات والحكومات المحلية الأمريكية من العمل مع المحكمة الجنائية الدولية.
كما يحد من معلومات الأمن القومي وإنفاذ القانون التي يمكن للولايات المتحدة مشاركتها مع المحكمة الجنائية الدولية وحتى الدول الموقعة على المحكمة والتي يمكن استخدامها لتسهيل تحقيقاتها والقبض على المشتبه بهم.
ويحظر القانون أيضاً تقديم المساعدات العسكرية الأمريكية للدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، يُسمح باستثناءات للمساعدة لأعضاء الناتو، والحلفاء الرئيسيين من خارج الناتو، وتايوان، والدول التي دخلت في "اتفاقيات المادة 98″، التي وافقت على عدم تسليم المواطنين الأمريكيين إلى المحكمة الجنائية الدولية.
أمريكا تتعاون مع الجنائية الدولية فقط ضد أعدائها
لا يمنع القانون الولايات المتحدة من المساعدة في البحث عن المواطنين الأجانب المطلوبين لمحاكمتهم من قبل المحكمة الجنائية، وبالفعل تعاونت الولايات المتحدة في العديد من القضايا ولكن عندما كان المتهمون من خصومها أو على الأقل لا يهمونها.
كما يقيد القانون مشاركة الولايات المتحدة في مهام حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة ما لم تحصل الولايات المتحدة على حصانة من الملاحقة القضائية لجنودها.
وفي العديد من النواحي، كان القانون بمثابة تقنين لتشكك الولايات المتحدة في المحكمة الجنائية الدولية.
ومنذ شهور، كشف المدعي العام للجنائية الدولية في تعقيبه على التهديدات الأمريكية، أن قادة منتخبين تحدثوا معه "بشكل صريح" بشأن سعيه لإصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين إثر حرب غزة، مضيفاً أن زعيماً بارزاً قال له إن المحكمة أنشئت لـ"أفريقيا والبلطجية مثل (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين".
واشنطن أرادت أن يمنحها مجلس الأمن حصانة من المحكمة وابتزته من خلال البوسنة
وقبل أشهر قليلة من التوقيع على القانون ليصبح قانوناً، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد تمديد مهمة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في البوسنة لمدة ستة أشهر لأن مجلس الأمن رفض منح القوات الأمريكية التي تخدم حصانة من المحكمة.
وكانت التوترات بشأن تجديد مهمة حفظ السلام في البوسنة، والتي اندلعت مرة أخرى في عام 2009، مجرد جزء واحد من التوترات بين الولايات المتحدة والمحكمة.
وهددت إدارة أوباما في عام 2015 بوقف حزمة مساعدات بقيمة 440 مليون دولار للسلطة الفلسطينية عندما انضمت إلى المحكمة. كما رفضت تحقيقات المحكمة الأولية في الحرب التي قادتها الولايات المتحدة في أفغانستان.
وفي عام 2018، أعلن جون بولتون، مستشار الأمن القومي لدونالد ترامب، عن إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الولايات المتحدة بعد أن حاولت الضغط على المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق مع إسرائيل.
وحذر من أن الولايات المتحدة قد تفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، قائلاً إنه لا يمكن لأي محكمة دولية أن تحل محل ما وصفه الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت بـ"القوة الصالحة" لأمريكا.
وسبق أن فرضت واشنطن في عهد ترامب في يونيو/حزيران 2020 عقوبات على المدعية العامة السابقة فاتو بنسودة وموظفين آخرين بالمحكمة، شملت تجميد أصولهم وحظر السفر عليهم، بسبب التحقيقات في جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات التحالف الغربي في أفغانستان وقوات الاحتلال الإسرائيلية في فلسطين.
وقبل ذلك توعد وزير الخارجية الأمريكي جورج بومبيو بـ"عواقب وخيمة" إذا واصلت المحكمة الجنائية الدولية "مسارها الحالي"، أي إذا مضت المحكمة قدماً في التحقيق في القضية الفلسطينية، وذلك في 15 مايو/أيار 2020.
ورُفعت هذه العقوبات في أبريل/نيسان 2021 في علامة على تحسن العلاقة بين واشنطن والجنائية الدولية، وقال وزير الخارجية أنتوني بلينكن في تصريح أدلى به لدى إعلان القرار، لا نزال "نختلف بشدة مع إجراءات المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بالوضعين الأفغاني والفلسطيني"، ونعترض على جهود المحكمة الجنائية الدولية لتأكيد الولاية القضائية على الولايات المتحدة وإسرائيل، وهما ليسا عضوين في المحكمة.
ويجب الذكر أن التهديدات الأمريكية لم تكن الأولى في هذا العام، فخلال شهر مايو الماضي وجه 12 من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي رسالة تهديد واضحة إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، بعد أن أعلن أنه يسعى لإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت.
إذ كتبوا قائلين: "إذا أصدرت مذكرة اعتقال للقيادة الإسرائيلية، فسنفسر ذلك ليس فقط على أنه تهديد لسيادة إسرائيل ولكن لسيادة الولايات المتحدة، لقد أظهرت بلادنا في قانون حماية أفراد الخدمة الأمريكية المدى الذي سنذهب إليه لحماية تلك السيادة".
وأشار حينها أعضاء الكونغرس إلى ذلك القانون ملوحين به لاستهداف المحكمة الجنائية الدولية على وجه التحديد.
ولكن اليوم في ظل تحرك المدعي العام في قضية غزة والذي يقال إنه جاء مدفوعاً بضغوط المنظمات الدولية، ونتيجة لوضوح جرائم الحرب الإسرائيلية التي تعد الأكثر توثيقاً عبر التاريخ، فإنه يبدو أن الولايات المتحدة قد تنتقل من معاقبة المحكمة إلى ما هو أبعد من ذلك.