لم تمرّ زيارة قائد الجيش الباكستاني إلى بنغازي في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2025، بهدوء، رغم تقديمها رسمياً بوصفها محطة تعاون عسكري تقليدية. فخلف الصور البروتوكولية وبيانات المجاملة، تكشّف مسار إقليمي أكثر تعقيداً، تتقاطع فيه حسابات الحرب في السودان، وتنافس النفوذ في ليبيا، ومحاولات إعادة ضبط ميزان الإسناد العسكري.
مصدر مطّلع كشف لـ"عربي بوست" أن الزيارة الباكستانية لم تكن معزولة عن سياقها، بل جاءت بتشجيع سعودي مباشر، بهدف إيصال رسالة "ثقيلة" إلى صدام حفتر، تتعلق بتقليص الدعم العسكري واللوجستي لقوات الدعم السريع. وهي رسالة تُقرأ على أنها محاولة سعودية للضغط عبر بوابة شرق ليبيا، حيث تتشابك مسارات الإمداد العابرة للحدود.
لكن ما زاد المشهد التباساً هو تضارب الروايات حول جوهر زيارة المسؤول الباكستاني البارز: هل نحن أمام صفقة تسليح كبرى، كما روّجت تقارير دولية، أم أمام تعاون تدريبي "سري" محدود، يركز على بناء قدرات وحدات خاصة وتدريب طيارين، أم محاولة سعودية لكبح نفوذ إماراتي يُشتبه في تأثيره على مسارات الإسناد في حرب السودان؟
المُعلن في زيارة قائد الجيش الباكستاني إلى بنغازي
الزيارة نُسبت إلى المشير سيد عاصم منير أحمد شاه، وهو القائد العسكري الأعلى في باكستان، وقد وُصف في تغطيات دولية بأنه رأس المؤسسة العسكرية الباكستانية، وأن زيارته لبنغازي ولقاءه بصدام حفتر جرى تقديمه ضمن ترتيبات تعاون عسكري.
وكالة أنباء "رويترز" ذكرت في تقرير لها أن إسلام آباد توصلت إلى اتفاق بقيمة تزيد عن 4 مليارات دولار لبيع أسلحة "للجيش الوطني الليبي"، رغم الحظر الذي تفرضه الأمم المتحدة على بيع الأسلحة لليبيا، وذلك نقلاً عن مصادر باكستانية لم تُسمها.
وفي اللقاء الذي جمع عاصم منير وصدام حفتر، قال قائد الجيش الباكستاني إن "كل قطعة سلاح وكل تكنولوجيا نمتلكها في باكستان متاحة لإخواننا في ليبيا"، مشدداً على عمق العلاقة التاريخية بين البلدين.
وأضاف أن "باكستان وليبيا تربطهما علاقة أخوية تاريخية تعود إلى ستينيات القرن الماضي". واعتبر أن زيارة صدام حفتر إلى باكستان "شكّلت نقطة إحياء لهذه العلاقة"، في إشارة إلى اللقاء السابق الذي جمع الطرفين في يوليو/تموز الماضي.
عقب اللقاء، شهد الجانبان مراسم توقيع اتفاقية تعاون مشترك بين "الجيش الوطني الليبي" والجيش الباكستاني، تهدف إلى "تعزيز التعاون في المجالات الأمنية والعسكرية وفتح آفاق أوسع للتنسيق المشترك، بما يسهم في دعم جهود الاستقرار الإقليمي"، بحسب بيان لمكتب إعلام "الجيش الوطني الليبي".
ما هو "غير مُعلن" من زيارة المسؤول الباكستاني
هنا يضع مصدر "عربي بوست" خطاً فاصلاً بين "الخبر" و"الخلفية". بحسبه، فإن ما جرى مع الجانب الباكستاني لا يتمحور حول صفقة شراء أسلحة كبرى كما تداوله الإعلام، بل حول ملف تدريب نوعي وسري يتصل ببناء قدرات وحدات محددة وتجهيزها لعمليات خاصة.
ويقول المصدر، الذي فضل عدم ذكر اسمه، إن "الحديث عن شراء أسلحة بمليارات غير دقيق كخبر"، موضحاً أن المسار الحقيقي يتمثل في:
- تدريب سرية/وحدة "مهمات خاصة" (وفق تعبير المصدر) على برامج تأهيل نوعية.
- تجهيز المتدربين بعتادهم ومعدات عملهم المرتبطة بالتدريب والمهام (عتاد تشغيل، تجهيزات فنية، مستلزمات ميدانية… إلخ)، بما يعني أن "التجهيز" – كما يفهمه المصدر – هو تجهيز مرتبط بالوحدة والمتدربين، لا توريد منظومات تسليح استراتيجية.
- تدريب 16 طياراً ضمن برنامج منفصل أو موازٍ، في إطار رفع الكفاءة التشغيلية، دون أن يعني ذلك – وفق الرواية ذاتها – إدخال أسطول طائرات جديد عبر صفقة معلنة.
يضيف مصدر "عربي بوست" أن الطابع "السري" للتعاون التدريبي هو ما يفسّر تضخم التأويلات حوله، إذ إن أي شراكة عسكرية غير شفافة في ليبيا تصبح تلقائياً بيئة خصبة لعناوين أكبر من حجم الوقائع.
وفي المقابل، كانت تقارير دولية قد تحدثت عن "صفقة تسليح" بين باكستان وقوات الشرق تشمل معدات برية وبحرية وجوية، مع ذكر طائرات مقاتلة وتدريبية، وأن تثبيت الاتفاق جاء بعد اجتماع في بنغازي بين منير وصدام حفتر، رغم استمرار حظر السلاح الأممي على ليبيا.
وبناء على ذلك، يتعامل هذا التقرير مع تلك الروايات بوصفها خلفية متداولة تحتاج، إن أُريد اعتمادها كوقائع نهائية، إلى قرائن تنفيذية مستقلة (وثائق تعاقد منشورة، دلائل شحن وتسليم، مؤشرات تشغيل لاحقة)، بينما يعتمد في "جوهر الخبر" على رواية المصدر الخاصة بشأن التدريب وتجهيز المتدربين.
دور السعودية في هذا التحرك الباكستاني
بحسب مصدر "عربي بوست"، لا تستهدف الرسالة السعودية فقط كبح الدعم لحميدتي، بل تُقرأ أيضاً كمحاولة لقطع الطريق على نفوذ إماراتي يُنظر إليه، في تقدير المصدر، بوصفه مؤثراً في مسارات الإسناد لقوات الدعم السريع.
ويأتي هذا الطرح في لحظة تتزايد فيها التقارير التي تربط بين شبكات إمداد قوات الدعم السريع وبين قنوات يُتهم فيها طرفٌ إقليمي، وفي مقدمته الإمارات، بالارتباط، مع نفي أبوظبي المتكرر لهذه الاتهامات.
الأكثر دلالة في هذا السياق، وفق متابعة "عربي بوست"، هو ما نُشر عن تحول مدرج مطار الكفرة جنوب شرق ليبيا إلى عقدة إمداد مؤثرة لقوات الدعم السريع عبر تدفق عتاد ومقاتلين، استناداً إلى بيانات تتبع رحلات وصور أقمار صناعية ومصادر دبلوماسية واستخباراتية، مع تأكيد أن الإمارات تنفي تزويد أي طرف في السودان بالسلاح.
هذه الخلفية تمنح رواية المصدر السعودي "منطقاً سياسياً"، فإذا كانت ليبيا، عبر الكفرة، تحولت إلى عقدة إمداد مؤثرة في حرب السودان، فإن أي طرف يسعى لتغيير ميزان الإمداد سيحاول التأثير على مركز القرار في الشرق الليبي، وبالأدوات الأقل كلفة دبلوماسياً: رسالة، ضغط، وساطة عبر شريك ثالث.
لماذا اختيار باكستان كوسيط لنقل الرسالة؟
تُعد باكستان "قناة مناسبة"، يقول مصدر "عربي بوست"، ويوضح لأنها توفر صيغة تعاون يمكن تكييفها تحت عنوان التدريب وبناء القدرات، وهي صيغة أقل احتكاكاً من صفقات تسليح صريحة في بيئة تخضع لحظر أممي وتساؤلات دولية مستمرة.
وفي الوقت نفسه، تمنح هذه القناة للرياض مساحة حركة: إيصال رسالة "ثقيلة" عبر زيارة ذات طابع عسكري، دون إعلان وساطة سياسية مباشرة، ودون الدخول في سجالات علنية مع أطراف إقليمية أخرى.
هل يعني ذلك صداماً سعودياً–إماراتياً؟
ليس بالضرورة، فحتى مع وجود تباينات حادة حول السودان، تُظهر ملفات دبلوماسية سابقة أن واشنطن والرياض وأبوظبي والقاهرة حاولت العمل ضمن إطار مشترك لتقديم أفكار لوقف الحرب في السودان، فيما بقيت الاتهامات المتبادلة حول دعم الأطراف السودانية قائمة في المحافل الدولية.
بعبارة أخرى: فرضية "قطع الطريق على الإمارات" يمكن التعامل معها صحفياً كاتجاه نفوذ ومحاولة كبح مسارات الإمداد، لا كإعلان قطيعة سياسية شاملة. وإذا كانت رواية المصدر دقيقة، فمؤشرات التحقق الأقرب ليست "صور أسلحة جديدة"، بل:
1- ظهور أدلة على برامج تدريب نوعية (مواعيد، انتقالات، ترتيبات، شهادات مشاركة) ترتبط بوحدة "مهمات خاصة".
2- مؤشرات على تجهيزات تدريب وعتاد ميداني مرتبط بالوحدة والمتدربين، لا منظومات ثقيلة.
3- أي دلائل على برنامج تدريب الطيارين الـ16 (أماكن التدريب، نوع التأهيل، سياق التنفيذ) دون القفز تلقائياً إلى استنتاج "صفقة طائرات".
4- أي تغير في نمط الحركة اللوجستية المرتبطة بالكفرة، باعتبارها نقطة حساسة في جدل الإمداد للسودان.
الخلاصة: السعودية دفعت باتجاه الزيارة لإيصال رسالة تخص السودان، والتعاون الحقيقي مع باكستان يتمثل في تدريب سري لوحدة مهمات خاصة وتجهيزها بعتادها، إلى جانب تدريب 16 طياراً.
أما روايات "صفقة السلاح" فتبقى خلفية قوية التداول لكنها متنازع عليها على مستوى "جوهر الخبر" وفق المصدر، وتحتاج إلى أدلة تنفيذية كي تتحول من عناوين إلى وقائع.