منذ عودته إلى البيت الأبيض عام 2024 في ولايته الثانية، دأب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على التسويق لنفسه كـ"رجل سلام" يسعى لإنهاء النزاعات حول العالم، لكن وعود السلام التي أطلقها تبدو إلى حد كبير مغلفة بطموحات اقتصادية وأمنية قوية، خصوصاً فيما يتعلق باستغلال المعادن النفيسة ومصادر الطاقة حول العالم.
ونالت القارة الإفريقية حيزاً مهماً في برنامج ترامب للسلام، وربط بين الاستثمارات والتنمية في القارة وتحقيق السلام، وكان واضحاً عندما قال خلال لقاء جمعه ببعض الزعماء الأفارقة في شهر يوليو/تموز 2025، عندما وصف القارة السمراء بأنها تتوفر على "أماكن نابضة بالحياة مع أرض ثمينة للغاية ومعادن عظيمة ومخزون نفطي كبير".
قبل ذلك، أعلن أحد كبار مسؤولي الخارجية الأمريكية في مايو/أيار 2025 أن الدبلوماسيين الأميركيين في إفريقيا سيُقيّمون بحسب "الصفقات التجارية التي يتم إبرامها، وليس بحسب المساعدات التي تُقدّم"، وهو تعبير صريح عن تغيير أولويات واشنطن نحو موارد القارة بدل الدعم التقليدي.
هذا التغيير الذي جاء به الرئيس الأمريكي في تعامل بلاده مع القارة الإفريقية من شمالها إلى جنوبها، دفعنا للبحث عن طبيعة هذه السياسة الجديدة وخلفياتها، والأهداف الجديدة للولايات المتحدة في إفريقيا، والتي جعلتها تتبنى شعار "الاستثمار لا المساعدات".
كما سنتطرق في هذا التقرير إلى خريطة المناطق والدول التي تستهدفها الاستثمارات الأمريكية، وعلاقتها بالمعادن ومصادر الطاقة، إضافة إلى التعريف بمن يقف وراء تطبيق خطط دونالد ترامب الاستثمارية التوسعية في إفريقيا، وكيف سيواجه ترامب التواجد والنفوذ الصيني في القارة؟
ترامب وقارة أفريقيا.. "التجارة لا المساعدات"
في السنة الأولى التي قضاها ترامب في البيت الأبيض خلال ولايته الرئاسية الثانية، بدا كما لو أنه يسير البلاد بقبعة رجل الأعمال أكثر من كونه سياسياً، وهو ما بدا واضحاً بعد أن تبنى نموذجاً جديداً في العلاقات مع القارة الإفريقية، يرتكز على التجارة والصفقات بدلاً من المساعدات التقليدية.
خلال ولايته الأولى، أُسست مؤسسات تمويلية ضخمة لتحقيق ذلك:
- أُطلق مكتب تمويل التنمية الدولي (DFC) بحد تمويلي 60 مليار دولار لاستقطاب استثمارات القطاع الخاص.
- أُعيد إحياء بنك التصدير-الاستيراد (EXIM)، وكان قد توقف جزئياً عن العمل بسبب خلافات سياسية في الكونغرس، ثم أُعيد تفعيله بقرار يمنحه أطول فترة تفويض في تاريخه.
- أُنشئت برامج دولية وشراكات مثل "مبادرة الحوكمة الطاقية والموارد" (ERGI) مع بوتسوانا وغيرها، ووقّع ترامب أوامر تنفيذية لتأمين سلاسل التوريد الحرجة.
في ظل هذه الرؤية، ركزت واشنطن على الاستثمارات وليس المساعدات في إفريقيا، سعياً لتأمين وصول آمن ومستدام إلى المعادن الحيوية والموارد النفطية. وقد أعاد المسؤولون الأمريكيون هيكلة سياسة إفريقيا لتشجيع الاستثمار التجاري، بعبارات مثل "تركيز على التجارة مع المنطقة" و"مكافحة نفوذ الصين وروسيا في موارد القارة".
ويكشف العدد المتزايد من صفقات النفط والطاقة والمشاريع التعدينية عن هذا التوجه. مثلاً، أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا توقيع مذكرة تفاهم مع شركة "ExxonMobil" الأمريكية لاستكشاف حقول نفطية بحرية في حوض سرت، بعد أكثر من عقد على توقف العمل.
كما تعهدت واشنطن باستثمار 5.1 مليار دولار في تطوير قطاع الطاقة بساحل العاج، بما في ذلك بناء مصفاة نفطية، وتوقيع اتفاقيات نفطية في نيجيريا وأنغولا والجزائر وناميبيا، وهي كلها دول تتوفر على احتياطات مهمة من النفط الخام، ومن الأكبر حول العالم.
بالإضافة إلى ذلك، واصلت الولايات المتحدة دعم التبادل التجاري مع إفريقيا؛ فقد أعلنت في سبتمبر/أيلول 2025 أنها تؤيد تمديد قانون "AGOA" لسنة إضافية، لمنح البلدان الإفريقية حصصاً معفاة من الرسوم الأمريكية. ومع ذلك، فإن تعريفات ترامب الجديدة أبعدت بعض المنتجات الإفريقية عن السوق الأمريكية.
قد يكون ترامب وفريقه نجحوا فعلاً في جذب بعض الاستثمارات الأمريكية البارزة إلى القارة الإفريقية، لكنه يركز بشكل خاص على المشاريع التي تعزّز سلطة الشركات الأمريكية وتوفر للولايات المتحدة نصيباً من الثروات الإفريقية التي أصبحت تدخل في إطار "الأمن القومي الأمريكي".
ولعل إدارة ترامب كانت واضحة، ففي بيان صحفي صدر عن البيت الأبيض في 15 أبريل/نيسان 2025، جاء: "المعادن الأساسية، بما فيها العناصر الأرضية النادرة، ضرورية للأمن القومي والمرونة الاقتصادية. ولا تزال الولايات المتحدة تعتمد اعتماداً كبيراً على المصادر الأجنبية".
وحسب المحلل السياسي المختص في الشأن الإفريقي محمد تورشين، فإن إدارة ترامب "أوقفت العديد من المشاريع الحيوية التي كانت تُموَّل من المعونة الأمريكية، في مجالات الصحة والتعليم والتنمية المستدامة، مثل برامج مكافحة الملاريا والكوليرا وأمراض الطفولة والإيدز، فضلاً عن المبادرات التعليمية والبيئية".
وبذلك يوضح تورشين لـ"عربي بوست" تحوّل المنظور الأمريكي من منطق "الدعم والمساعدة" إلى منطق "الشراكة القائمة على المصالح الاقتصادية"، إذ باتت واشنطن تنظر إلى إفريقيا باعتبارها قارة غنية بالموارد الطبيعية والثروات المعدنية النادرة التي تحتاجها الولايات المتحدة في صناعاتها التكنولوجية والدفاعية المتقدمة.
السلام في إفريقيا مغلّف بأهداف اقتصادية
ارتبطت حملة دونالد ترامب للسلام وإيقاف الصراعات الإقليمية والانقسامات داخل بعض الدول في القارة الإفريقية، بشكل أو بآخر، بحوافز اقتصادية ربطها بقضايا معادن أو موارد طاقية، وهي السياسة التي انتهجها ترامب من خلال كبار مستشاريه وفريق من الدبلوماسيين ورجال الأعمال.
وهو ما أكده تقرير لمركز "بروكنجز" (Brookings) صدر في شهر يوليو/تموز 2025، عندما قال: "من خلال تأمين الوصول إلى المعادن الحيوية، وتوسيع الاستثمارات الأميركية، وتعميق التجارة الثنائية، تسعى واشنطن إلى إبراز نفوذها، وبناء التحالفات، ومواجهة الخصوم".
كما اعتبر الباحث المتخصص في الشأن الإفريقي محمد تورشين أن شعارات ترامب حول "السلام" في إفريقيا لا تعبّر بالضرورة عن رغبة حقيقية في إحلال الاستقرار، بقدر ما تخدم أهدافاً اقتصادية واضحة. فوساطته في النزاع بين الكونغو ورواندا، مثلاً، أسفرت عن اتفاق سلام شكلي لم يغيّر واقع الصراع على الأرض، لأن جذور الأزمة – المرتبطة بالتحكم في مناطق شرق الكونغو الغنية بالمعادن – لم تُعالج بعد.
في ليبيا، أُطلقت مبادرات أميركية تحت شعار "إحلال الاستقرار لتمكين الاستثمار"، وأشار مبعوث ترامب لشؤون إفريقيا والعالم العربي، مسعد بولس، إلى جهود لتوحيد المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي الليبي، كخطوة تمهيدية لدخول شركات أميركية للطاقة في البلاد.
فبعد سنوات من العقوبات وعدم الاستقرار، تسعى واشنطن لفتح أبواب للمستثمر الأمريكي ضمن صفقة واسعة مع طرابلس، وتعمل على توحيد المؤسسات الليبية من خلال تقريب وجهات النظر بين حكومة طرابلس وقادة الشرق، كخطوة لتهيئة بيئة مواتية أمام استثمارات النفط والغاز، كما تجسّد جزئياً في عودة شركة "Exxon" الأمريكية إلى المياه الليبية.
أما السودان، فينظر إليه مسؤولو ترامب على أنه أزمة إنسانية كبرى يجب تهدئتها لفتح المجال أمام فرص اقتصادية لاحقاً. وصف بولس الأزمة في السودان بأنها "أكبر أزمة إنسانية في العالم" مع حصار لمئات الآلاف في مدينة الفاشر. وقال إن رفع الحصار عن الفاشر ووقفاً مؤقتاً لإطلاق النار هما "أولوية قصوى"، مشيراً إلى تنسيق مع السعودية والإمارات ومصر لتحقيق ذلك.
الفكرة هي أنه بمجرد تخفيف حدة الصراع، سيُتاح للولايات المتحدة وشركائها فرص مشاركة في إعادة الإعمار وبناء البنى التحتية السودانية. هذه "التهدئة الاقتصادية" ترسم أفقاً يمكن فيه للشركات الأمريكية، مثلاً في قطاع النفط والزراعة، أن تنشط في السودان بعد سنوات من الحرب الأهلية المستمرة.
وفي قضية الصحراء الغربية، اتخذت واشنطن موقفاً واضحاً منذ قرار ترامب الأول بخصوص سيادة المغرب على الصحراء. فقد صرّح نائب وزير الخارجية زلماي خليل زاد في سبتمبر/أيلول 2025 بأن واشنطن ستدعم الاستثمارات الأمريكية في "كل المغرب، بما فيه الصحراء الغربية".
هذا الموقف يستكمل تأييد ترامب لخطة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء، ومعناه عملياً أن الشركات الأمريكية يمكنها الاستثمار هناك دون الخضوع لأي تنافس جزائري، وهو ما يُقدّر بأنه سيؤمّن مصالح المغرب في ثروات الموارد، خاصة الفوسفات، دون عوائق.
واشنطن لم تغفل الاستثمار في الجزائر كجزء من إغراءات البحث عن حل نهائي لأزمة الصحراء الغربية وعودة العلاقات بين المغرب والجزائر لطبيعتها، وتشير تسريبات إعلامية إلى أن الاقتراح الأمريكي يتضمن حزمة اقتصادية مشتركة مع الجزائر، تشمل مشاريع البنية التحتية العابرة للحدود، ووعوداً بالاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة والبنى التحتية.
أما في الكونغو الديمقراطية وشرقها، فالموقف الأمريكي أكثر دبلوماسية مباشرة. فقد شاركت إدارة ترامب في رعاية مفاوضات سلام بين حكومة الكونغو الديمقراطية وحركة متمردة (M23 المدعومة من رواندا) بهدف إنهاء سنوات من القتال في منطقة غنيّة بالمعادن.
ففي مايو/أيار 2025، أعلن بولس عن تسليم مسوّدة اتفاق سلام بين الكونغو ورواندا، بهدف جذب مليارات الدولارات من الاستثمارات الغربية في المنطقة الغنية بالكوبالت والذهب والنحاس والليثيوم وغيرها. وفي يونيو/حزيران 2025، وُقّع فعلاً اتفاق في واشنطن بين البلدين لإنهاء القتال، تضمّن انسحاباً سريعاً للقوات الرواندية وتنفيذ مشاريع اندماج اقتصادي.
وخلال حفل التوقيع، كان ترامب واضحاً في الحديث عن مكاسب بلاده من خلال التوقيع على اتفاق السلام، وقال إن الولايات المتحدة "تحصل على الكثير من حقوق المعادن في الكونغو كجزء من الصفقة"، مما يؤكد أن الهدف الظاهر من السلام هو فتح الباب لاستثمارات أمريكية في المناجم والبنية التحتية المرافقة لها.
ويمكن تلخيص جهود السلام هذه بأنها سعي لتحقيق استقرار سياسي مقابل تسهيل الصفقات الاقتصادية. ففي كل منطقة، قدمت واشنطن حوافز دبلوماسية، سواء من خلال منح اعتراف أو الضغط من أجل هدنة أو وساطة سلام، هناك مقابل يتمثل في انتفاع الشركات الأمريكية بموارد طبيعية ثمينة.
الخبير الاقتصادي في الشأن الإفريقي، والأستاذ الجامعي في جامعة باماكو بمالي، إيتيان فاكابا سيسوكو، أشار إلى أنه في عام 2018، قدّم مستشار ترامب خلال ولايته الأولى، جون بولتون، الاستراتيجية الإفريقية الجديدة، المرتكزة على "الازدهار المتبادل" عبر التجارة.
وقد تكرّست هذه المقاربة من خلال مبادرتي "بروسبر أفريكا" (Prosper Africa) ومؤسسة تمويل التنمية الأمريكية (DFC)، وهما أداتان صُممتا لجذب رؤوس الأموال الخاصة الأمريكية إلى الأسواق الإفريقية، ولا سيما في مجالات البنى التحتية والطاقة والموارد المعدنية.
سيسوكو يوضح في تصريح لـ"عربي بوست" أن ترامب لم يعد يُقيَّم أداء السفراء الأمريكيين بناء على حجم المساعدات التي يوزعونها، بل على العقود التي يبرمونها وحجم الاستثمارات التي يسهّلونها، "إنه تغيير جذري في النموذج: لم تعد الولايات المتحدة تُقدّم نفسها كفاعل خيري، بل كوسيط يسعى وراء مصالحه الخاصة".
المعادن النفيسة والنادرة: الدول المستهدفة وطبيعة المشاريع
تمثل القارة الإفريقية خزاناً ضخماً من المعادن النفيسة والنادرة الحيوية للصناعة العالمية، مثل: الكوبالت، والنحاس، والليثيوم، والذهب، والتيتانيوم، وغيرها. ويولي ترامب وأجهزته اهتماماً خاصاً بالدول التي تزخر بهذه المعادن، ويخططون لتنفيذ مشاريع كبيرة هناك.
وتتمحور طبيعة المشاريع الأمريكية حول تمويل البنى التحتية الكبرى وربط المناجم بالأسواق العالمية. ففضلاً عن ممر لوبيتو، هناك اتّفاقيات ثنائية لتمويل محطات معالجة المعادن أو إنشاء مصانع بطاريات، جميعها من خلال وكالات مثل DFC أو EXIM.
كما تسعى الولايات المتحدة لعقد شراكات مطولة تمنحها حقوق امتياز طويلة الأمد في عمليات استخراج المعادن. ومن أبرز هذه الدول:
- جمهورية الكونغو الديمقراطية: تُعتبر من "أثرياء المعادن" في العالم، إذ تنتج كميات قياسية من الكوبالت والنحاس، بالإضافة إلى الذهب والتانتالوم والليثيوم. وتتجه الأنظار إلى منجم مانونو لليثيوم في شرق الكونغو، الذي يُعد من أكبر احتياطيات الليثيوم في العالم.
وأبرمت شركة أمريكية (Kobold Metals، بدعم من جيف بيزوس وبيل غيتس) اتفاقاً مع حكومة كينشاسا لاستغلال هذا المنجم. وبالإضافة إلى ذلك، تشمل المشاريع الأمريكية دعم إنشاء شبكة سكك حديدية (ممر لوبيتو) لربط حقول التعدين الساحلية والداخلية مع موانئ أنغولا.
- أنغولا وزامبيا: يرتبط مصيرهما بنجاح ممر لوبيتو. ففي أنغولا، يمر المشروع عبر منجم كاييلو (للكوبالت) وصولاً إلى ميناء لوبيتو، ويتم توسيعه لاحقاً إلى زامبيا (ثاني أكبر منتج نحاس بعد الكونغو). وتبلغ التمويلات الأمريكية الموعودة للمشروع 550 مليون دولار (عن طريق DFC)، لإكساب شركات التعدين الغربية القدرة على تصدير النحاس والكوبالت مباشرةً من المنطقة.
- رواندا: تحتوي على تانتالوم (مركب من الكولتان) الذي يُستخدم في صناعة الإلكترونيات. شجّعت الحكومة الأمريكية وقف الصراع في شرق الكونغو، لأن رواندا من أكبر منتجي التانتالوم. وتشمل خطة واشنطن تمكين رواندا من استثمار مشاريع مشتركة مع الكونغو في التانتالوم والمعادن المصاحبة.
- زامبيا: تملك احتياطيات كبيرة من النحاس والكوبالت، وهي مستهدفة بطبيعة الحال كجزء من ممر لوبيتو لاتحاد مناجمها مع أنغولا والكونغو.
- ناميبيا: تُنتج الفوسفات والليثيوم والأتربة النادرة. وقد أبدت شركات أمريكية اهتماماً متزايداً ببعض مناجم الليثيوم النامية هناك. ولاقت مشاريع شراكة دولية قائمة على التمويل الإفريقي دعماً من بلدان كناميبيا، في إطار مسعى تنسيق أمريكي أوروبي لتأمين معادن البطاريات.
- زيمبابوي: رغم السياسات المحلية المتذبذبة، إلا أنها تمتلك أكبر احتياطيات لليثيوم في العالم. ومع أن الدور الأمريكي محدود حالياً، فإن المساعي الدبلوماسية قد تشمل فتح قنوات للتنقيب الأمريكي عن معادن الليثيوم، خصوصاً في مناجم مثل Bikita، مستقبلاً في تحدٍّ للاستثمارات الصينية الكبرى هناك.
- جنوب إفريقيا: غنية بالذهب والبلاتين والفوسفات، وهي أبرز سوق معدنية في القارة. لم يُسجّل حتى الآن تدفق استثمارات أمريكية ضخمة في القطاع المعدني لجنوب إفريقيا، لكن مشاركة الولايات المتحدة في زامبيا والكونغو قد تؤدي إلى شراكات إقليمية تفيد الاقتصاد الأمريكي من معادن جنوب إفريقيا أيضاً.
- المغرب: يُعدّ لاعباً صاعداً في مجال "المعادن الحرجة"، إذ تُشير تقارير إلى أن المملكة تستهدف استغلال معادن مثل النحاس والبلاتين والعناصر الأرضية النادرة، إلى جانب الفوسفات، الذي تملك فيه أحد أكبر الاحتياطيات في العالم.
- الجزائر: تُعد من أغنى دول شمال إفريقيا بالغاز الطبيعي والنفط، إذ تمتلك ثالث أكبر احتياطي من النفط في القارة، وواحداً من أكبر احتياطيات الغاز في العالم. وتضم الصحراء الجزائرية احتياطيات ضخمة من الغاز الصخري والمعادن غير المستغلة بالكامل، مثل الحديد والفوسفات والزنك والذهب.
وتعمل الولايات المتحدة على استعادة حضورها في الجزائر عبر تشجيع الاستثمارات في قطاع الغاز الصخري، حيث تملك الشركات الأمريكية (مثل Occidental وChevron) التكنولوجيا اللازمة لاستخراجه.
- ليبيا: تُعتبر أغنى دولة في شمال إفريقيا من حيث احتياطات النفط المؤكدة، إذ تمتلك نحو 48 مليار برميل من النفط و53 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، فضلاً عن كميات من الحديد والفوسفات والمعادن الأخرى.
وشجعت واشنطن، في أكثر من مناسبة، على تحقيق السلام الشامل في ليبيا لضمان بيئة آمنة للاستثمار الأمريكي في قطاع الطاقة، خصوصاً مع شركات مثل ExxonMobil وHalliburton التي أبدت اهتماماً متزايداً بالعودة إلى السوق الليبية. وتُعد ليبيا بالنسبة لترامب ساحة اقتصادية استراتيجية، فهي بوابة نحو شمال إفريقيا ومنطقة الساحل، كما يمكن أن تلعب دوراً محورياً في تزويد أوروبا بالغاز عبر البحر المتوسط.
- السودان: يمتلك ثروة نفطية ومعادن نادرة متعددة، من الذهب والمنغنيز والنحاس إلى الحديد واليورانيوم، فضلاً عن إمكانات ضخمة في الزراعة والطاقة. وتقدّر هيئة المساحة الجيولوجية السودانية وجود أكثر من 500 موقع للتنقيب عن الذهب، إضافة إلى احتياطات مؤكدة من النفط في ولايات كردفان ودارفور والنيل الأبيض.
ومنذ رفع العقوبات الأمريكية جزئياً، حاولت شركات أمريكية دخول السوق السودانية عبر بوابة "إعادة الإعمار والسلام"، حيث ترى واشنطن أن استقرار السودان بعد النزاعات الداخلية يفتح الباب أمام استثمارات واسعة في الطاقة والمعادن.
ورغم حديث المسؤولين عن دعم "التنمية الإفريقية"، فإن هذه المشاريع في جوهرها خُطط لتأمين سلاسل توريد حيوية للسوق الأمريكية. على سبيل المثال، وافقت DFC في أكتوبر/تشرين الأول 2024 على قرض بقيمة 553 مليون دولار لمشروع لوبيتو، في إطار مساعٍ أمريكية لتقليص هيمنة الصين على النحاس والكوبالت الإفريقي.
في المجمل، تستهدف واشنطن الثروات المعدنية للأفارقة، من الكوبالت في الكونغو إلى الليثيوم في زيمبابوي، والبلاتين في جنوب إفريقيا، عبر مشروعات وشراكات ضخمة. وتصف التقارير الأمريكية هذه الاستثمارات بأنها عنصر أساسي في استراتيجية "أمن سلاسل التوريد" للأعوام القادمة.
أذرع ترامب لتنفيذ هذه المشاريع الأمريكية
لتنفيذ هذه الصفقة الواسعة في إفريقيا، اعتمد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على فريق من الدبلوماسيين والمستشارين المتخصصين في الشؤون الإفريقية والتجارية. من أبرز هؤلاء:
- السفير تروي فيتريل (Troy D. Fitrell): عمل حتى منتصف 2025 كأرفع مسؤول أمريكي في مكتب الشؤون الإفريقية بوزارة الخارجية (شغل منصب النائب الأول). تولّى فيتريل مهام إدارة المكتب منذ بداية الولاية الثانية لترامب، إذ كان سفيراً سابقاً للولايات المتحدة في غينيا. وأكد خلال تصريحات للصحافة أنه كلف السفراء الأمريكيين في إفريقيا بالبحث عن فرص تجارية جديدة للشركات الأمريكية، مع إبقاء التركيز على التجارة مع القارة بدلاً من المساعدات.
- مسعد بولس (Massad Boulos): رجل أعمال لبناني–أمريكي شغل منصب مستشار أول للرئيس ومستشار للشؤون الإفريقية والشرق أوسطية منذ يناير 2025. تم تعيينه مسبقاً في ديسمبر 2024 كمستشار لترامب في الشؤون العربية والشرق أوسطية، ثم نُقل في أبريل 2025 إلى منصب المستشار الأول لإفريقيا. قاد بولس بنفسه مفاوضات السلام وعقد الشراكات التجارية الكبرى في القارة (كما ظهر في اجتماعاته بزعيمي الكونغو ورواندا في واشنطن)، ويُعد حلقة الوصل بين البيت الأبيض وحكومات إفريقيا.
- توماس ر. هاردي (Thomas R. Hardy): يشغل منصب القائم بالأعمال لمدير وكالة التجارة والتنمية الأمريكية (USTDA). وتتمثل مهمته في تشجيع الاستثمارات الأمريكية في مشاريع تطويرية حول العالم. وضمن إطار علاقته بإفريقيا، يشرف على برامج تمويلية وترويجية، بما في ذلك الشراكات التقنية وتمويل البنية التحتية، لدعم الأعمال الأمريكية في القارة الإفريقية.
- كونستانس هاميلتون (Constance Hamilton): هي مساعدة الممثل التجاري الأمريكي ورئيسة وحدة إفريقيا في مكتب الممثل التجاري بالبيت الأبيض (USTR). تقود هاميلتون جهود التفاوض على اتفاقيات التجارة والاستثمار مع 49 دولة في إفريقيا جنوب الصحراء. ويتمثل دورها في فتح الأسواق أمام الشركات الأمريكية، وإدارة أحكام اتفاقية التجارة الأمريكية–إفريقيا (AGOA)، وغيرها من المبادرات التجارية، بما يساهم في سريان الشروط الميسّرة للاستثمارات في القطاع المعدني والطاقة.
- كونور كولمان (Conor Coleman): يشغل منصب رئيس الاستثمارات ورئيس موظفي مؤسسة تمويل التنمية الدولية (DFC). وهو المسؤول الأول عن وضع خطط تمويل الاستثمارات التنموية الإفريقية لدى DFC، بما في ذلك تقييم المشاريع المعدنية الممولة. كولمان يُعرف بأنه العقل التنفيذي الذي يُصاغ من خلاله هيكل التمويل لكل مشروع، ويُعد مستشاراً رئيسياً لرئيس DFC.
- تمارا ماكسويل (Tamara Maxwell): تعمل كنائب الرئيس الأول للأعمال الصغيرة لدى بنك التصدير والاستيراد الأمريكي (EXIM). وبتوليها هذا المنصب (بتعيين في بداية 2025)، أصبحت مسؤولة عن دعم مشاريع رواد الأعمال الصغيرة والمتوسطة الأمريكية في إفريقيا، وتيسير حصولهم على تمويلات ائتمانية أو ضمانات للتصدير في قطاعات مثل التعدين والاستخراج. وهي بذلك تساهم في تمويل الشركات الأمريكية الصغيرة والمتوسطة المتعاونة مع الشركاء الأفارقة في مجال الموارد.
كيف يمكن للأطماع الأمريكية أن تستنزف الموارد الإفريقية
على الرغم من صورتها التنموية، تثير هذه السياسات مخاوف من إعادة توظيف نموذج استعماري اقتصادي جديد. يرى النقاد أن التركيز على تصدير الخام دون تصنيع محلي سيعيد سيناريو "لعنة الموارد".
فقد عبّر محللون عن أن اتفاقات الشراكة الأمريكية يمكن أن تعيد إفريقيا إلى وضعها الهامشي في سلسلة القيمة العالمية؛ فتُستخرج الثروة بدلاً من تنميتها محلياً، وتتكرر أنماط الاعتماد واستخراج الموارد دون تكامل صناعي.
على سبيل المثال، وصف تقرير لمركز "Brookings" أن هذه الشراكات غالباً ما تنعكس علاقات شبيهة بالاستعمار، حيث تنشأ أنماط استخراجية واستيطانية بحتة عن الموارد، دون تقديم فوائد تنموية حقيقية للسكان.
وتدل أقوال السياسيين الأمريكيين أنفسهم على ذلك؛ فقد أقر الرئيس ترامب ضمنياً بأن الهدف هو الحصول على حقوق المنجم بالكونغو، قائلاً معقّباً على اتفاق السلام المشترك بأن الولايات المتحدة ستحصل "على الكثير من حقوق التعدين من الكونغو كجزء من الصفقة".
هذا التصريح يبيّن أن الاتفاقات قد تُعقد بشروط منح حقوق التعدين للشركات الأمريكية، مما يعني تركيز الأرباح الرئيسية في أيدي المستثمرين الأجانب.
مثل هذه الترتيبات يمكن أن تستنزف الثروات دون أن تعود بتنمية مستدامة على المدى البعيد، فكلما صُدّرت المواد الخام مباشرةً، قلّ الحافز لإنشاء صناعات محلية أو بنى تحتية ذات قيمة مضافة.
إضافة إلى ذلك، يشير المحللون إلى أن تركيز الشركات الأمريكية على معادن محددة قد يؤدي إلى تهميش مصادر أخرى لتنمية واعتماد اقتصادي متنوع. فبينما تلاحق واشنطن الكوبالت والليثيوم، مثلاً، قد تغفل فرصاً في قطاعات الزراعة أو التصنيع التي تخدم المجتمعات المحلية. وربما تتحقق أرباح أولية للمستثمر الأمريكي، لكن الموارد الإفريقية نفسها قد تُفرغ دون حصة عادلة للسكان.
وتظل المسألة إذًا مسألة من يحدد الأولويات في استغلال موارد إفريقيا؛ إذ يُحذِّر الباحثون من أن غياب استراتيجيات وطنية واضحة يمنح القوى الخارجية، مثل الولايات المتحدة والصين، فرصة للتنافس على المصادر الخام، مما قد يُقيّد قدرة الأفارقة على الاستفادة الحقيقية من ثرواتهم.
سيسوكو، الأستاذ في جامعة باماكو، يقول لـ"عربي بوست" إن ما يُقدَّم على أنه "شراكة استراتيجية" يشبه في كثير من الحالات استعماراً اقتصادياً جديداً بواجهة خضراء. الهيكلية هي ذاتها كما في القرن التاسع عشر: الاستخراج في الجنوب، والتحويل في الشمال. رؤوس الأموال، والتكنولوجيا، والأرباح تبقى مركّزة في الدول الغربية، بينما تظل الدول الإفريقية مجرد مورد للمواد الخام.
اللافت أن شراكة أمن المعادن التي تموّلها واشنطن لا تضم أي دولة إفريقية كعضو في هيئاتها التي تتخذ القرار. وتتضاعف مشاريع "الممرات" في القارة، لكن قليلاً منها يضم آليات لنقل الخبرات، أو لتطوير الصناعة المحلية، أو لتشجيع التصنيع الميداني. والنتيجة: تغادر المعادن القارة بسرعة أكبر، لكن العائد لا يصل إلى شعوبها. "إنها ليست شراكة، بل إعادة صياغة لعلاقة الهيمنة، بلغة القرن الحادي والعشرين".
احتمال التصادم بين الولايات المتحدة والصين
بينما تنشط الولايات المتحدة في إفريقيا، تتجدد المنافسة مع الصين التي سبقتها إلى القارة بعقود، إذ تستحوذ بكين اليوم على نسبة كبيرة من الاستثمار والتجارة الإفريقية، وقد ضخت منذ سنوات مليارات الدولارات في المناجم والبنى التحتية في الكثير من الدول الإفريقية.
وفق خبراء، تمتلك الصين السيولة والاتفاقيات الثنائية مع عشرات دول القارة، وتسيطر على معظم عمليات تكرير المعادن النادرة عالمياً. وتشير التقديرات إلى أن إفريقيا تملك حوالي 30% من احتياطي المعادن الاستراتيجية في العالم، لكن الولايات المتحدة تستورد منها فقط أجزاء صغيرة.
في المقابل، تربط الصين علاقات تجارية ضخمة مع إفريقيا (تصل إلى 240 مليار دولار سنوياً) مقابل 47 ملياراً أمريكياً فقط. هذا الفارق يحفّز واشنطن على الدفع بقوة لزيادة وجودها.
وصرّح دبلوماسي أمريكي بأن "ممر لوبيتو"، الممول أمريكياً، يأتي ضمن استراتيجية لفرض توازن قوة ضد سيطرة الصين على كبريتيد الكوبالت والنحاس. وكرّر كبار مستشاري ترامب أنهم مصممون على تحدي النفوذ الصيني في مجال المعادن.
أما الصين، فقد سبقت الجميع في الاستثمار في مناجم مثل الليثيوم والكوارتز والخامات الأرضية النادرة في دول كالكونغو وزيمبابوي وناميبيا وحتى مالي. لذلك، فإن احتمال التصادم الأمريكي–الصيني في إفريقيا مرتفع.
فبينما تتفق واشنطن مع بعض الحلفاء (مثل أوروبا واليابان) في شراكات مثل "مبادرة معادن السلام" مع الكونغو ورواندا، تواصل الصين توسيع نفوذها بعيداً عن هذا الإطار.
ومع تنامي زخم ترامب للتركيز على "استرجاع المعادن" ووضع حصص للولايات المتحدة وحلفائها، قد تتصاعد المنافسة إلى صدام مباشر، خاصة في ظل تركيز الجانبين على نفس الدول المنتجة مثل الكونغو الديمقراطية وزامبيا وجنوب إفريقيا وموريشيوس.
بحسب تورشين، فإن ما يقع يعكس ملامح توجه أمريكي جديد يندرج في إطار صراع دولي واسع على القارة الإفريقية، تشترك فيه قوى كبرى كالصين وروسيا. غير أن هذه السياسات، في جوهرها، تمثل شكلاً من أشكال الاستعمار الاقتصادي، إذ تُبرم عقود طويلة الأمد، تمتد أحياناً إلى قرن كامل، تتيح للدول الكبرى استغلال الموارد الإفريقية مقابل مكاسب محدودة للسكان المحليين.
ولذلك، يرى الباحث المتخصص في الشأن الإفريقي أن "على القادة الأفارقة أن يدركوا ضرورة تنويع شركائهم، وعدم الارتهان لطرف واحد، بل بناء علاقات متوازنة مع مختلف القوى الدولية، بما يضمن تحقيق مصالح شعوبهم، والاستفادة من خبرات متعددة في مجالات التنمية والاقتصاد، بدل الاعتماد على شريك وحيد قد يفرض شروطاً مجحفة تحد من قدرة القارة الإفريقية على الاستفادة من ثرواتها الهائلة".
بالمحصلة، يأخذ السباق الإفريقي لمنصب ترامب أبعاداً استراتيجية بالغة: إنه يسعى لتوسيع "نفوذ أمريكا العالمية" عبر الاستثمار في موارد لم تُستغل قبله بشكل واسع، ولكن في مقابل ذلك قد يخاطر بإشعال مواجهة مع الصين على الأرض الإفريقية، ما يُلقي بظلاله على مستقبل القارة واستقلال قرارها في ثرواتها.
ويبقى أمام الدول الإفريقية سؤال: هل ستكون شريكة حقيقية في تحويل ثرواتها إلى تنمية، أو مجرد مورد أولي ضمن خريطة منافسة دولية؟ وتبقى مسارات العقود المقبلة، وآلية الشراكة التي تُبنَى، هما ما سيحددان ما إذا كان هذا الفصل الجديد في تاريخ الاستثمار الأمريكي في إفريقيا سيكون ربحاً للجميع، أم استمراراً لقصة "موارد بدون تنمية".