“تكلفة فلكية” وخسائر لا تنتهي.. كيف استنزف عامان من الحرب الاقتصاد الإسرائيلي؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/10/08 الساعة 08:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/10/08 الساعة 08:20 بتوقيت غرينتش
الحرب على غزة كلفت الاقتصاد الإسرائيلي خسائر غير مسبوقة/ عربي بوست

انخفاض كارثي في الناتج المحلي، وانتكاسة في الوضع المعيشي، وتضخم عجز الموازنة، وتدهور الاستثمارات.. كانت هذه ملامح من قائمة طويلة تبدأ ولا تنتهي من خسائر الاقتصاد الإسرائيلي، والأضرار غير المسبوقة التي تكبدها خلال عامين من العدوان المتواصل على قطاع غزة.

ولا يتردد الإسرائيليون في الاعتراف بأن حرب الإبادة على غزة، التي تطوي عامها الثاني هذه الأيام، كانت من أصعب حروبهم التي شهدها اقتصادهم على الإطلاق، وما دامت الحرب مستمرة فإنهم يعتقدون أن الدولة لن تسترد عافيتها الاقتصادية، ما يعني أن يزداد وضعها ووضعهم سوءاً.

"عربي بوست" يستعرض من خلال هذا التقرير مؤشرات صادمة لما عاشه الاقتصاد الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وكيف تسببت الحرب وسياسات حكومة بنيامين نتنياهو في خسائر فادحة في مختلف المجالات، سيدفع ثمنها أجيال لاحقة من أحفاد الإسرائيليين.

قائمة طويلة تبدأ ولا تنتهي من خسائر الاقتصاد الإسرائيلي

غاد ليئور، الكاتب الاقتصادي في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، ذكر أن خسائر الاقتصاد الإسرائيلي الواردة أعلاه تشكل "بعضاً" من الأخبار السيئة بسبب هذه الحرب القاسية، ولا يظهر أن اقتصادها سيتعافى بسرعة من المواقف الصعبة التي شهدها، ما يعني أن يستغرق الأمر بضع سنوات لاستعادة مستوى معيشتها، وتصنيفها الائتماني إلى الحالة الجيدة التي كانت عليها عشية الحرب، لأن بياناتها الاقتصادية الحالية ليست جيدة.

كما أن الحكومة لم تفعل شيئاً يُذكر لمواجهة الأزمة الحادة، ولم تتخذ أي إجراء لمنع تفاقم العجز الهائل في الميزانية، ولا وقف تباطؤ الاقتصاد، الذي بات يتحول إلى ركود، وسيؤدي بالفعل إلى تدهور يسفر عن نمو سلبي للفرد، حتى باتت إسرائيل من الدول المعدودة في العالم التي يرتفع فيها التضخم، ولا ينخفض.

وبجانب الزيادة الهائلة في الإنفاق العسكري على الحرب، واضطرار الدولة إلى تمويل نزوح 80 ألف مستوطن من الشمال والجنوب، والحاجة إلى تعويض الشركات، وتمويل الأضرار الناجمة عن الصواريخ والمُسيّرات، فقد أسفر ذلك عن ارتفاع العجز بما يتجاوز التوقعات.

ويكمن الخطر في أن تصنيفها قد يتدهور أكثر حتى دون مستوى بيرو وتايلاند وكازاخستان، وفقاً لما ذكره أدريان بايلوت، المحرر الاقتصادي بصحيفة "كالكاليست".

بينما ذكر ناتي توكر، مراسل صحيفة "ذي ماركر"، أن الحديث عن ميزانية الدولة يكشف الأزمة الاقتصادية الحادة في عجز قفز بسرعة من 1.5% فقط في سبتمبر/أيلول 2023 إلى 8.4% في أغسطس/آب 2024، ثم تراجع إلى 5.2% في أغسطس/آب 2025، وتبلغ قيمة كل نسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي 20 مليار شيكل.

الحرب تسببت في تراجع كبير في عدد السياح القادمين إلى إسرائيل/ رويترز
الحرب تسببت في تراجع كبير في عدد السياح القادمين إلى إسرائيل/ رويترز

أما عن تكلفة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فقد وصلت إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي، بتقدير 300 مليار شيكل (حوالي 90 مليار دولار)، وتشمل نفقاتها المباشرة وغير المباشرة، وتمويل أيام الاحتياط، والذخيرة، وأضرار الصواريخ.

وتُقدّر تكلفة اليوم الواحد من هذه الحرب ربع مليار شيكل (حوالي 75 مليون دولار)، باستثناء تكلفة الذخيرة، وتسببت الحرب في وصول ديون إسرائيل إلى 1.3 تريليون شيكل (حوالي 387 مليار دولار)، وستُدفع من قِبل أحفاد وأحفاد أحفاد الجيل الحالي، كما ذكر إيدي كوهين، مراسل قناة "آي 24 نيوز".

كما ذكر شلومو ماعوز، الكاتب في صحيفة "معاريف"، أن إسرائيل شهدت انخفاضاً في الناتج المحلي بمعدلات كارثية، ما يعني دخولها في حالة ركود، وهو وضع سيئ للغاية، ووصل انخفاض صادراتها إلى 8.1%، وانخفاض وارداتها من السلع والخدمات إلى 9.8%، وانخفض الاستثمار في الأصول بـ16.9%، واستمر التضخم في الارتفاع، بما يتناقض بشكل صارخ مع انخفاضه المستمر في دول العالم.

ارتفاع البطالة وتراجع قطاع "الهايتك" وانخفاض التجارة

منصة "آي سي إيه" كشفت أن الحرب تسببت بتغيّب 764 ألف عامل عن العمل، بما يُعادل 17.6% من عددهم الإجمالي، بسبب تعبئة عشرات الآلاف في جيش الاحتياط، وإغلاق آلاف الوظائف بمستوطنات غلاف غزة والحدود اللبنانية، ولا يزال معدل التوظيف منخفضاً جداً، لغياب الحريديم عن سوق العمل، ما سيُعرّض الاقتصاد للخطر في السنوات القادمة.

فيما ذكر آدي كوهين، مراسل قناة "آي 24″، أن الحرب تركت تأثيراتها السلبية على سوق العمل، حيث شهدت قطاعات البناء والضيافة والأغذية والتجارة والصناعة صعوبات في التوظيف، سواء بسبب إغلاق المعابر أمام العمال الفلسطينيين، أو التجنيد على نطاق واسع في جيش الاحتياط.

وكشفت دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب أن التكلفة الأسبوعية لغياب العمال بلغت 2.3 مليار شيكل، بسبب الإغلاق الكامل للمؤسسات التعليمية، وإجلاء مستوطني المناطق المتضررة، أو المعرضة لخطر التأثر بالصواريخ، والتعبئة المكثفة لجنود الاحتياط، فضلاً عن منع العمال الفلسطينيين من العودة إلى أماكن العمل لأسباب أمنية.

أما عند الحديث عن تضرر السياحة، فتُظهر البيانات خسارة في إيراداتها بقيمة 19 مليار شيكل، بعد انخفاض عدد السياح بنسبة 60%، ليصل إلى مليون زائر فقط، معظمهم من اليهود، ويُتوقّع أن تستمر الأزمة الحادة فيه لأشهر عديدة بعد انتهاء الحرب، حيث ظل عشرات آلاف العاملين فيه، مثل الفنادق والمرشدين السياحيين، عاطلين عن العمل، ولا يبدو أن وضعه سيتحسن قريباً في الوقت الحالي، خاصة عقب إغلاق أكثر من 50 ألف شركة لأبوابها.

كما رصدت دراسة أجراها معهد أهارون للسياسة الاقتصادية في جامعة رايخمان، حجم الأضرار الناجمة عن الحرب في قطاع البناء والصناعات ذات الصلة، بما فيها السيراميك، وتكييف الهواء، والألمنيوم، حيث تضرر قطاع العقارات بشدة بسبب ثلاثة عوامل متضافرة:

  • غياب نحو مئة ألف عامل فلسطيني ماهر.
  • جلب نحو ربع العمال الأجانب فقط، معظمهم غير ماهرين.
  • مقاطعة واردات مواد البناء من تركيا.

أدت هذه العوامل مجتمعة إلى واحدة من أخطر أزمات قطاع البناء على الإطلاق، ونتيجةً لتراجعه، وتردد المقاولين في مواصلة بناء مشاريعهم، وحالة عدم الاستقرار التي يعيشها المشترون، فقد تعرض لصدمة شديدة، وعادت أسعار الشقق والمساكن للارتفاع مع استمرار الحرب، ووصل معدل الزيادة السنوي إلى 5.8%.

تضرر البورصة وتراكم الديون وتراجع التصنيف الائتماني

رونين مناحيم، كبير اقتصاديي الأسواق في بنك "مزراحي تيفاهوت"، أشار في مقال نشرته صحيفة "كالكاليست" إلى أن سوق الأسهم تأثر بالحرب، فمؤشرات بورصة تل أبيب ما زالت أقل من العديد من بورصات الأسهم العالمية.

ويكشف التدقيق أن مليارات الشواقل غادرتها خلال عامي الحرب، سواء من عامة الإسرائيليين بتسعة مليارات شيكل، أو المستثمرين الأجانب بما يزيد على سبعة مليارات شيكل، ممن باتوا يخشون الآن الاستثمار في الأصول والشركات في إسرائيل.

ووجّهت الحرب ضربة للتصنيف الائتماني لإسرائيل، عقب تخفيض الشركات العالمية لمستواها، خاصة "موديز" و"ستاندرد آند بورز" و"فيتش"، وتزداد التوقعات السلبية مع فشل الحكومة في اتخاذ الخطوات اللازمة لخفض عجز الموازنة، واستقرار الاقتصاد، وعدم مبادرتها للعمل بشكل مناسب مع الوضع الذي نشأ.

منتدى كوهيليت اليميني، الذي يقدم استشارات للحكومة، ذكر في ورقة تقييم سياسات أن الدولة تخوض حرباً على الجبهة الاقتصادية، وبسببها تواجه العديد من التحديات، حيث أدت الحاجة إلى زيادة الإنفاق على القطاعات الأمنية إلى إلحاق الأضرار بإيرادات الضرائب، بسبب تباطؤ النشاط الاقتصادي، وعجز مرتفع نسبياً، وارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي.

وحسب ورقة تقييم منتدى كوهيليت، سيكون عبء سداد الديون بمرور الوقت أثقل، ومن المتوقع أن تكون "وسادة الأمان" للاقتصاد الإسرائيلي ضد الصدمات المختلفة أصغر مما كانت عليه حتى الآن، وسط خشية من أن إسرائيل لن تتمكن من سداد بعض ديونها في المستقبل.

ويتوافق الإسرائيليون على أن تعافي الاقتصاد الإسرائيلي سيكون بطيئاً، وبطيئاً جداً، لأن الدولة ما زالت تعيش على "أنقاض" اقتصادية، والجمهور مطالب باستيعاب هذا الواقع الجديد، والثمن الذي سيدفعه، بما يشمل السياحة والاستهلاك والاستثمار، لأن الإنفاق العسكري أتى على حساب الإنفاق المدني، وفقاً لما ذكره إيتان أفريل، الكاتب في صحيفة "ذي ماركر".

وأسفرت الحرب عن أزمة خطيرة في القطاع الزراعي، وأصبح نقص القوى العاملة فيه مشكلة حرجة، حيث غادر العديد من العمال الأجانب، ونسبتهم 33% من المزارعين، وتم منع الفلسطينيين، ونسبتهم 23%، من القدوم للعمل بسبب الوضع الأمني، ما يعني وجود نقص كبير في العمال الزراعيين، الأمر الذي نجم عنه خسائر غذائية، وتكاليف تعويضية عن فقدان الغذاء.

إسرائيليون يتدفقون نحو المحلات التجارية لشراء حاجياتهم/ رويترز
إسرائيليون يتدفقون نحو المحلات التجارية لشراء حاجياتهم/ رويترز

انتكاسة قطاع التكنولوجيا الفائقة وانسحاب المستثمرين

عانى قطاع التكنولوجيا الفائقة من أزمة حادة، ووفقاً لبيانات معهد "رايز إسرائيل" للأبحاث والسياسات، فقد انخفض عدد المستثمرين الأجانب والإسرائيليين فيه بنسبة 30% خلال عامي الحرب، وتراجعت إسرائيل من المركز السابع إلى التاسع في التصنيف الدولي لاستخدام الذكاء الاصطناعي.

كما واجهت نصف شركات قطاع التكنولوجيا في إسرائيل صعوبة في جمع الأموال، وتعتزم 45% منها زيادة عدد موظفيها خارج إسرائيل، وانخفض جمع رأس المال الاستثماري بنحو 75%، كما ذكر نيتسان كوهين، مراسل صحيفة "إسرائيل اليوم".

الجنرال ناتي كوهين، الرئيس السابق لقسم الاتصالات والمعلومات في جيش الاحتلال، ذكر في مقال نشرته حركة "الأمنيين"، أن الاقتصاد الإسرائيلي يعتمد بشكل كبير على صناعة التكنولوجيا المتقدمة، ويشكل عاملوه 14% من الدورة الاقتصادية، وهم مصدر دخل كبير للدولة.

ولكن بعد الحرب، تم تجنيد العديد منهم في خدمة الاحتياط طويلة الأمد، وتغيبوا عن وظائفهم لفترات طويلة، وبلغ إجمالي استثمارات التكنولوجيا الفائقة 7.3 مليار دولار، بانخفاض قدره 60% مقارنة بعام 2022، وهو أدنى رقم منذ عام 2018.

وأصدرت هيئة الابتكار تقريراً مطولاً عن تحديات وفرص قطاع التكنولوجيا العالية في ظل الحرب، أظهر أن نموّه متعثّر، بسبب ركود التوظيف، وتزايد حالة عدم اليقين، وزيادة المخاطر.

مع أننا أمام قطاع يُمثّل أكثر من نصف الصادرات، وثلث إجمالي إيرادات الدولة من ضرائب دخل الموظفين، وخُمس الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني أن يسفر عن مشكلة جوهرية للاقتصاد الإسرائيلي.

"آلون ستوبل"، رئيس الهيئة، اعتبر ذلك تحذيراً واضحاً، لأن عدد عامليه ظل ثابتاً عند 400 ألف، يشكلون 11٪ من العاملين في الاقتصاد برمّته، وهنا خطر ناجم عن تقليل استثمارات الشركات الناشئة الصغيرة، وهذا الركود في الاستثمارات يُقلّل من نمو الشركات الجديدة التي تشكل أساس الابتكار المستقبلي لإسرائيل.

تضاعف تكاليف الحرب وأثرها على تراجع الإنفاق المدني

أهارون كاتس، الكاتب في مجلة "غلوبس"، نقل عينة من التقييمات الاقتصادية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية "OECD" حول إسرائيل، العضو فيها، بشأن تأثيرات الحرب على الناتج المحلي الإجمالي الذي شهد تباطؤاً كبيراً.

ونقل عن معهد أبحاث "SNPI" أن الركود الاقتصادي، وعدم الاستقرار المحلي، الذي بلغ ذروته في الحرب، أديا إلى ابتعاد المستثمرين، وتسببا بانخفاض إجمالي التمويل الذي تلقته الشركات الناشئة، فيما تلقت الشركات الجديدة الضربة الأشد.

يشمل الحديث عمّا يسميه الإسرائيليون "التكلفة الفلكية" للحرب: إنفاق الجيش، وإعادة إعمار مستوطنات غلاف غزة والشمال، وخسارة الدخل وأيام العمل، وتراجع الاستثمارات والسياحة، وتعويض الشركات والنازحين، وكلها تكاليف تصل إلى 300 مليار شيكل، وزيادة دائمة في الإنفاق العسكري، حتى بعد الحرب، بـ20 مليار شيكل سنوياً.

وجاءت نفقات القتال الأعلى تكلفة لأنها تصل إلى مليار شيكل يومياً، تشمل: الذخيرة، ووقود الدبابات والمركبات والطائرات، وطعام الجنود، وفقاً لما ذكرته رونيت مورغنسترن، الكاتبة في القناة 12.

وأشار إيلان غيلداين، كبير الاقتصاديين في هيئة الأوراق المالية، في مقال على منصة "بيزبورتال"، إلى خسائر متعلقة بإيرادات الدولة والضرائب بسبب انخفاض النشاط الاقتصادي، ودخل أصحاب العمل؛ وعشرات آلاف الموظفين الذين تم وضعهم في إجازة بدون أجر؛ والعاملين الذين لم يتقاضوا أجورهم منذ السابع من أكتوبر؛ وانخفاض السياحة الوافدة، بل توقفها أحياناً، وقيام الصناعات العسكرية بتجميد عقود إنتاج وتوريد أسلحة للجيوش الأجنبية بقيمة مليارات الدولارات بسبب حاجة الجيش لها.

ويتخوف الإسرائيليون من فرضية أن تمويل التكاليف الباهظة للحرب، التي تمثل نصف ميزانية الدولة بأكملها، وبلغت 452 مليار شيكل، يعني نشوء عجز في الدين يجب تغطيته، ولهذا الغرض تقترض الدولة قروضاً بفائدة مرتفعة نسبياً حالياً، وسيدفعون وأبناؤهم، وربما أحفادهم، أثمان الحرب لسنوات عديدة قادمة من خلال زيادة الضرائب، وتأجيل مشاريع البنية التحتية.

وهو ما ذكره إيتسيك يتسحاقي، الكاتب في منصة "بيزبورتال" الاستثمارية، الذي حذّر من أن الإسرائيليين سيتعين عليهم جميعاً تحمّل ما وصفها بـ"التكاليف الفلكية" للحرب في السنوات القادمة، لأننا أمام كابوس اقتصادي يتضمن مبالغ ضخمة، ومليارات ثقيلة.

زيادة البطالة وإغلاق الشركات وتعطّل المرافق التجارية

المحامية ميخال بلوم، رئيسة قسم الاستشارات القانونية في شركة "بن ناتان وشركاه"، ذكرت في مقال بصحيفة "كالكاليست"، أنه مع اندلاع الحرب، تجنّد مئات الآلاف في جيش الاحتياط لفترات طويلة، قرابة 300 ألفاً، وأُجبروا على ترك حياتهم المدنية، وأماكن عملهم وشركاتهم.

فيما اضطرت الشركات لمواجهة العديد من التحديات عقب الحرب، بما فيها الآثار المباشرة على الأداء اليومي والدخل والنشاط التجاري العام، نتيجة اضطرابات التشغيل، وإغلاق الفروع والمراكز التجارية، وانقطاع خطوط الإمداد، وتأثر المتاجر والمطاعم بانخفاض عدد العملاء، وإلغاء الفعاليات التجارية، بل وقف عملياتها، بسبب وابل الصواريخ والخوف العام.

كما أصدرت مجموعة "ريمونيم" الاستثمارية تقريراً عن نتائج الحرب على الاقتصاد، أكدت فيه أن الطريق إلى الوضع الطبيعي الكامل لا يزال طويلاً ومليئاً بالتحديات، عقب ما شهده من انكماش حاد، وهو الأشد انخفاضاً بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بسبب انخفاض الاستهلاك الخاص والصادرات والاستثمار، وضخ الحكومة لأموال طائلة في القتال.

مما زاد من هشاشة الوضع الاقتصادي، وبقائه محفوفاً بالمخاطر، خاصة بسبب تراكم عجز الموازنة، وارتفاع الدين العام، وخفض التصنيف الائتماني، واستمرار تقلبات السوق بصورة مرتفعة للغاية، وارتفاع التضخم، وهروب رؤوس الأموال.

لقد خلّفت الحرب تكاليف اقتصادية تراكمية مثيرة للقلق، وشهدت انخفاضاً ملحوظاً في نموّه، وتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وتأثر الدخل المتاح للإسرائيليين، وطرأت زيادة حادة في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، مما أضاف تكاليف باهظة على ميزانية الدولة، وزعزع استقرار اقتصادها، ودفعها إلى "عقد اقتصادي ضائع آخر".

إلى جانب تكاليف غير مباشرة، كفرض العقوبات والمقاطعة عليها، وما عانته من ميزان هجرة سلبي من الشباب والمنتجين الذين يدعمونها اقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً، كما ذكر تومار بادلون، الباحث في معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب.

وشهد عاما الحرب زيادة حادة في عدد الشركات التي أغلقت أبوابها، ففي 2023، أغلقت 57 ألف شركة، وافتتحت 38 ألفاً فقط، وفي 2024، أغلقت 59 ألف شركة، وافتتحت 37 ألفاً.

مما يكشف أن للحرب تكاليف اقتصادية تراكمية مُقلقة للغاية، ومنها اختيار الإسرائيليين الهجرة إلى دول أخرى، خاصة العاملين في التكنولوجيا المتقدمة، التي يعمل فيها 300 ألفاً، وبلغ متوسط عدد المغادرين السنوي بين 2013 و2022 حوالي 35 ألفاً، بينما بلغ متوسط العائدين السنوي 20 ألفاً.

هذا يؤكد أن إسرائيل أمام ميزان هجرة سلبي بلغ 15 ألفاً، ارتفع خلال عام الحرب الأول 2024 إلى 30 ألفاً، وفي عامها الثاني 2025، غادر 83 ألفاً مقابل عودة 24 ألفاً، وبلغ ميزان الهجرة السلبي 60 ألفاً، 81% منهم دون سن 50 عاماً، يشكلون عائلات شابة ومجتمعاً منتجاً يدعم إسرائيل اقتصادياً وعسكرياً.

نتنياهو وسكرتيره العسكري رومات جوفمان/ يديعوت أحرونوت
نتنياهو وسكرتيره العسكري رومات جوفمان/ يديعوت أحرونوت

التعافي بعيد والحكومة تخفي النفقات المالية للحرب

ليئور باكالو، الكاتب في موقع القناة 12، نقل عن المحاسب العام للدولة، ياهلي روتنبرغ، أن أحد الأثمان الباهظة للحرب، وليس فقط من الناحية المالية، هو إخلاء عشرات آلاف المستوطنين من منازلهم، حيث بلغت تكاليفهم التراكمية 12 مليار شيكل.

مع أن الخبراء الإسرائيليين يشكون من عدم تتبّع تكاليف الحرب، بل باتوا يواجهون صعوبة في ذلك، والسبب أن الأخير توقف عن نشر تكاليفها، بناءً على قرار سياسي من الحكومة، كي لا يزيد من احتجاجات الإسرائيليين الرافضين لاستمرار الحرب، كما ذكرت صحيفة "ذي ماركر".

إن ما يصفه الإسرائيليون بـ"الحرب العبثية" في غزة، تطلب خلال عامين إضافة مليارات للميزانية العسكرية، التي تجاوزت الحد الأقصى بكثير، واستُنفدت جميع الاحتياطيات الخاصة.

لكن الإنفاق العسكري مستمر، وسط تحذيرات من أن رصد التكاليف النهائية لا يزال بعيد المنال، لأن استمرار تساقط الصواريخ، وانغلاق الاقتصاد، وبقاء المستوطنين في الملاجئ والمخابئ، يعني أن كامل تكاليف الحرب تقع على عاتق دافعي الضرائب الإسرائيليين، الحاليين والمستقبليين.

وسيُطلب من الحكومة سداد ديونها في إسرائيل والخارج، والنتيجة أن أثمان الحرب الاقتصادية، بجانب نظيرتها السياسية والأمنية والأخلاقية، ستكون باهظة للغاية، وفقاً لما ذكره سيفر بلوتسكر، محرر الشؤون الاقتصادية بصحيفة "يديعوت أحرونوت".

أما عميحاي شاماي، الكاتب في صحيفة "مكور ريشون"، فأكد أن تراجع الاستثمارات وارتفاع الإنفاق العسكري يُهددان المستقبل الاقتصادي لإسرائيل، مما يزيد من سلبية توقعات السنوات القادمة، ويجعل من طريق عودتها إلى المسار الصحيح طويلاً، لأنه سيبقى في مواجهة عدد من التحديات الكبيرة، مما يعكس عمق الضرر الاقتصادي الناجم عن الحرب.

مقارنة بين حرب غزة 2023 وحربي لبنان 2006 وأكتوبر1973

في خضم الحرب على غزة، شنّت إسرائيل هجوماً على إيران، التي ردّت عليها بضربات صاروخية، وأسفرت عن خسائر اقتصادية رصدها موقع "نيوز-نت"، جاء فيها أن المواجهة كلفت إسرائيل 12 مليار دولار، بما يفوق معظم الحملات العسكرية السابقة، وكلّف كل يوم منها ما يعادل شهراً من القتال في النزاعات السابقة، وخُصِّص الجزء الأكبر من الإنفاق المالي للدفاع الجوي.

وأضاف أن تكلفة كل اعتراض تراوح بين عشرات آلاف وملايين الدولارات لكل وحدة، كما شغّل سلاح الجو عشرات الطائرات المقاتلة في طلعات جوية بعيدة المدى لمهاجمة إيران، بتكلفة آلاف الدولارات لكل ساعة طيران، واستخدام ذخيرة ذكية باهظة الثمن.

كما لحقت أضرار جسيمة بالبنية التحتية المدنية جراء الهجمات الصاروخية الإيرانية، من تدمير منازل، وتضرر البنية التحتية للطاقة، وإجلاء آلاف المستوطنين للفنادق، وإغلاق شركات في جميع أنحاء الدولة.

وعند إجراء مقارنة بين حرب غزة 2023–2025، وحرب لبنان الثانية في 2006، فقد كشفت صحيفة "ذي ماركر" أن التقديرات تتحدث عن وصول التكلفة الإجمالية إلى 23 مليار شيكل.

فيما ذكر زئيف كلاين، مراسل مجلة "غلوبس"، أن التكلفة الاقتصادية المباشرة للحرب التي استمرت 33 يوماً، عادلت 4% من الناتج المحلي الإجمالي، بجانب التكاليف غير المباشرة، مثل التعويضات المالية المستمرة لعائلات القتلى، والجنود المصابين.

تاني غولدشتاين، مراسل صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أكد أن الاقتصاد خلال تلك الحرب مرّ بعملية ضعف في نموّه العام، لكنه تعافى بسرعة بفضل الزيادة المستمرة في الاستثمار الأجنبي، وعائدات الضرائب، والاستهلاك الخاص، رغم أن الحرب تسببت بشلل معظم الأنشطة الاقتصادية في أماكن سقوط الصواريخ، حيث توقف الإنتاج في جزء كبير من المصانع، وأُغلقت المتاجر، وهُجرت مراكز التسوق، وفرّ السياح.

أما حرب أكتوبر 1973، فقد دخلت إسرائيل بسببها فيما أسمته "العقد الاقتصادي الضائع" بعد الحرب، وشهدت تباطؤاً في نموّها إلى 3-4% سنوياً، وخشيت من تقويض استقرارها الاقتصادي، وارتفع متوسط معدل تضخّمها السنوي بشكل مطرد إلى ذروة بلغت 400%.

وهي نتيجة واضحة لحرب شهدت زيادة حادّة في الإنفاق العسكري، الذي زاد بـ64% عن قيمته الحقيقية، ووصل لأعلى مستوى على الإطلاق، ومثّل 30% من الناتج المحلي الإجمالي.

كل ذلك دفع الحكومة إلى فرض الضرائب، وارتفاع الأسعار بشكل حاد، ودخول الدولة في أزمة اقتصادية عميقة، وغير مسبوقة، استمرت عقداً كاملاً من المشاكل الحادة في ميزان المدفوعات، وأشد دوامة تضخم في تاريخها، وفقاً لما ذكره البروفيسور يعكوب ليفشيتس، المحاضر في اقتصاديات الأمن، في ورقة بحثية نشرتها منصة "كريوت".

تحميل المزيد