يبدو أن التقارب الحاصل بين تركيا وليبيا بعد التوقيع على مجموعة من الاتفاقيات خاصة الاتفاق البحري بين تركيا وليبيا لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، لم يَرُق لإسرائيل التي أطلقت حملة تحريض ضد أنقرة بزعم أن الأخيرة تسعى للحصول على نفوذ والسيطرة على مزيد من المياه البحرية وصولاً إلى ليبيا.
وما يخيف إسرائيل أكثر هو أن هذه "السيطرة التركية" من شأنها أن تخدم مصالح أنقرة كأداة استراتيجية للسيطرة على ممرات الشحن والبنية الأساسية التي تعتمد عليها اقتصادات وأمن إسرائيل، وسط مزاعم إسرائيلية عن تخوفها من مضايقة تركية محتملة لسفنها.
المخاوف الإسرائيلية من الاتفاق البحري بين تركيا وليبيا، لا تتركز فقط على الجوانب الاقتصادية على أهميتها، بل تحمل تهديدات سياسية وعسكرية، وتلميحات إسرائيلية للاستعانة بأصدقائها الأوروبيين والأمريكان لاستعداء تركيا في هذا الملف.
استحضار إسرائيلي للحروب السابقة مع العرب
رصد "عربي بوست" في الأيام الأخيرة سلسلة من المقالات والتحليلات والأوراق البحثية الإسرائيلية التي نُشرت في وقت متزامن أجمعت في معظمها على أن تركيا تسعى لفرض مزيد من القيود على النقل الجوي والتجارة الإسرائيلية، وصولاً لإحكام قبضتها باستمرار على البحر المتوسط بهدف السيطرة على طرق النقل الاستراتيجية الإقليمية.
بل إن بعض الأقلام الإسرائيلية لم تتردد في التذكير بأن اندلاع حربي 1956 و1967 جاء لكسر الحصار البحري الذي فرضته مصر على إيلات، ويستدعي اليوم مواجهة التهديد البحري نفسه من تركيا، وصولاً لإزالته.
شاي غال، خبير السياسة الدولية وإدارة الأزمات والاتصالات الاستراتيجية، ذكر في مقال نشرته صحيفة "إسرائيل اليوم"، أن 98% من التجارة الخارجية الإسرائيلية يعتمد على حرية الملاحة في البحر المتوسط، الذي تمر عبره كابلات الاتصالات والطاقة التي تربطها بأوروبا والعالم.
فيما تحاول تركيا كسب نفوذ للسيطرة على الممر من خلال مذكرة التفاهم الموقعة مع ليبيا عام 2019، رغم وجود 1000 كيلومتر بحري بينهما، بما يخدمها للسيطرة على ممرات الشحن والبنية التحتية التي تعتمد عليها اقتصادات وأمن إسرائيل، يضيف شاي غال.
مع العلم أن هذا التطور المتعلق بالحدود البحرية يضيف لعلاقة تل أبيب مع أنقرة مزيداً من التوتر، وصولاً لإطلاق التهديدات الصريحة، من خلال جملة ملفات شائكة بينهما: حرب غزة، مسألة الطاقة، الحشد العسكري، الاحتكاك في سوريا، والعلاقة مع الولايات المتحدة بسبب صفقات الأسلحة.
ويأتي ذلك على الرغم من أن نشاطهما التجاري لم يتوقف تماماً، وفقاً لما ذكره إيلي كلوتشتاين، العضو السابق في مجلس الأمن القومي، في مقاله بمعهد مسغاف للأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية.
بيني شبانير، الباحث في مركز أبحاث السياسات والاستراتيجيات البحرية بجامعة حيفا، اعتبر أن تركيا ترى في مياه المتوسط أداةً لتعزيز نفوذها الإقليمي والاقتصادي والعسكري، ومستعدة لاستخدام التهديد بالقوة لمنع أي مشاريع إقليمية تتجاوزها.
لاسيما إحباط اتفاقية إسرائيل وقبرص واليونان لمدّ أعمق وأطول خط أنابيب غاز في العالم "إيست ميد"، لربط إسرائيل بأوروبا، لأنها تتجاهل حقوق قبرص التركية الخاضعة لوصايتها في مواردها الطبيعية.
صحيفة "مكور ريشون" ذكرت أن تركيا تعارض مبادرة إنشاء ممر تجاري من الهند إلى إسرائيل "IMEC"، وتحاول طرح بدائل له، مقابل ترويجها لخطط خاصة لمدّ خط أنابيب غاز من منطقة الخليج مروراً بالأردن وسوريا، وصولاً إلى أوروبا عبرها، وسط ترجيح بأن تواصل معارضة أي مشروع اقتصادي تسعى إسرائيل للترويج له.
هذا ما يدفع بإسرائيل للاستعانة بالضغط الأمريكي لممارسة نفوذها على أنقرة، حتى لا تتعثر مشاريعها بعد إطلاقها، رغم أن تركيا ترى في أي تقارب بين إسرائيل وقبرص واليونان تهديداً لها، كما ذكر دين شموئيل ألماس، محرر الشؤون الاقتصادية في مجلة "غلوبس".

تركيا مصممة على توسيع حدودها البحرية
سبق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الإعلان بأن "الاتفاق البحري بين تركيا وليبيا يتماشى مع القانون الدولي، ولا يمكن لليونان وقبرص وإسرائيل التصرف دون إذننا"، وصرّح متحدث باسم وزارة الخارجية التركية أن "الاتفاقية مع ليبيا شرعية ومتوافقة تماماً مع القانون الدولي".
فيما أكد مسؤولون أمنيون أتراك كبار أن "كابل الطاقة بين إسرائيل واليونان وقبرص خطوة أحادية الجانب لن نتسامح معها، بسبب اختراقه لحدود المياه الاقتصادية"، بل إن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أوضح لنظيره اليوناني جيورجوس غرافتريتيس، في اجتماع وزراء خارجية حلف الناتو في أبريل/نيسان، المعارضة المطلقة للمشروع.
كما أعلن البرلمان التركي في أكتوبر/تشرين الأول 2024 أن إسرائيل تُشكّل تهديداً لتركيا، وفي يناير/كانون الثاني 2025، سُرّبت أجزاء من وثيقة سياسة الأمن القومي، المعروفة باسم "الكتاب الأحمر"، تنص على أن إسرائيل تُعتبر تهديداً أمنياً.
وفي أبريل/نيسان 2025، وبعد هجوم إسرائيلي على قواعد للجيش السوري في تدمر، ومطار تي فور، وحماة، أعلنت وزارة الخارجية التركية أن الهجوم يُشكّل تهديداً مباشراً ليس لتركيا فحسب، بل لجميع دول الشرق الأوسط.
صحيفة "صباح" التركية أكدت أن تركيا عازمة على حماية حقوقها القانونية في شرق البحر المتوسط، لأنه وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، تبلغ المياه الإقليمية لكل دولة 12 ميلاً بحرياً، فيما يُعدّ ساحل تركيا الأطول في شرق المتوسط، ما يجعله مرشحاً مثالياً لاكتشاف الكنوز البحرية، ويُعزز موقف تركيا وحقها في حماية مواردها البحرية.
بينما زعم موقع "ناتسيف" العسكري أن موقف إسرائيل من الاتفاقية التركية الليبية ينطلق من اعتبار تحركات تركيا في البحر المتوسط جزءاً من خطة أوسع للسيطرة على المياه المحيطة بها، بما فيها احتياطيات الغاز في المنطقة، ونقل الغاز عبر خطوط الأنابيب من إسرائيل إلى اليونان، وحركة السفن.
ما يضع تحديات أمام إسرائيل في كيفية التعامل مع هذا الواقع الإقليمي الناشئ، لأن تركيا تسعى في جهودها لتصبح قوة بحرية إقليمية، تمهيداً لاستقلالها الاقتصادي، خاصة في مجال الطاقة، من خلال سيطرتها على البحار الثلاثة المحيطة بها: المتوسط وإيجة والأسود.
يأتي ذلك تحقيقاً لعقيدة "الوطن الأزرق" (مافي ڤاتان)، التي وضعها الأدميرال جيم غوردينيز عام 2006، وأدت إلى بناء قوة بحرية تركية ضخمة، تشمل اقتناء عشرات السفن الجديدة، واكتساب تقنيات بناء السفن والطائرات، وتطوير وبناء أنظمة قتالية.
وستضم قوتها البحرية أكثر من 140 سفينة، بما فيها الغواصات، وأكثر من 60 طائرة، بما فيها المقاتلة، وآلاف مشاة البحرية في السنوات القادمة، وإنشاء قواعد عسكرية، وتدريب قوات قتالية.
إسرائيل تحرّض على تركيا وتنقلها إلى دائرة "الدولة المعادية"
يهوشاع كراسنا، الكاتب في موقع "المونيتور"، أورد معلومة مفادها أن هذه الاتفاقية البحرية بين ليبيا وتركيا دفعت بالتقييم الاستخباراتي السنوي لجيش الاحتلال، ولأول مرة، إلى إدراج السياسة الإقليمية لأنقرة ضمن قائمة التحديات التي تواجه إسرائيل، رغم عدم توقعه مواجهة مباشرة معها، مع أن نظرة على علاقاتهما الفاترة تكشف أن تصعيدهما لا ينعكس فقط في المجال السياسي الفلسطيني، بل في قطاع الطاقة أيضاً.
مع العلم أن رؤية تركيا للتعاون الجاري بين إسرائيل وقبرص واليونان تعتبره أداةً أخرى لتقليص نفوذها الجيوسياسي في شرق البحر المتوسط، واستبعادها من موارد الغاز في المنطقة، ويُهدد استراتيجيتها الرامية إلى أن تصبح مركزاً لنقل الطاقة بين الشرق والغرب، في ظل رغبتها الحقيقية في ترسيخ هيمنتها في جوارها المباشر، واستعادة مكانتها العثمانية كقوة بحرية على طول ساحل المتوسط.
هنا يمكن رصد جملة مؤشرات "تُشرعن" المخاوف الإسرائيلية من النشاط البحري التركي:
- النشاط العملياتي التركي المكثف في البحرين المتوسط والأحمر.
- تركيا دولة معادية لإسرائيل، وغالباً ما تحصل على "درجات عالية جداً" في مؤشر الدول المعادية.
- نشاطها السري والعلني المكثف في تعزيز الجماعات الإسلامية المعادية لإسرائيل.
- تأثيرها عبر القنوات الإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي على فلسطينيي 48، والمناطق المحيطة بها، في التحريض ضد إسرائيل.
- قربها السياسي والديني من أعداء إسرائيل مثل حماس وإيران.
صحيفة "إسرائيل اليوم" ذكرت أن المنطقة الممتدة من المياه الإقليمية وغربها تُعتبر أساسية لأمن إسرائيل واقتصادها، لأنها تشمل مياهها الاقتصادية التي تبعد 200 ميل بحري عن سواحلها، والموارد الموجودة فيها.
وتشمل مناطق صيد وحقول غاز، أكبرها "تانين" و"تمار 1″ و"ليفياثان"، ومنشآت إنتاجها، وتمر عبرها كابلات اتصالات أساسية لاتصالات إسرائيل الخارجية، بما فيها الاتصال بشبكة الإنترنت، وسيمر بها مستقبلاً خط أنابيب غاز "إيست ميد"، الذي سينقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر قبرص، كما يعتمد اقتصادها على الواردات والصادرات البحرية بنسبة تزيد على 90%.
ودعا إلداد بن أهارون، المحاضر بقسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة خرونينجن في هولندا، في مقابلة مع مجلة "غلوبس"، أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، خاصة البحرية منها، إلى جمع مزيد من المعلومات والبحث عن تركيا، سواء على مستوى بناء القوة وتعزيزها، أو المراقبة المستمرة لأنشطتها في البحار الثلاثة.
من أجل دراسة مفهوم المعركة وعقيدة الحرب البحرية، وتطوير عقائد قتالية تتعلق بكيفية التعامل مع تركيا مستقبلاً، وتوفير بناء القوة رداً على الاشتباكات المتوقعة وغير المتوقعة مع البحرية التركية، التي قد تحدث في أي لحظة في مناطق نشاط البحرية الإسرائيلية في البحرين المتوسط والأحمر.
موقع "ويللا" الإخباري ذكر أن اتفاق تركيا وليبيا ينشئ ممراً بحرياً يمتد من أقرب نقطة بينهما، ويُمهد الطريق لحفر آبار النفط والغاز، ولا تخفي إسرائيل توجهها لتنسيق خطواتها مع الدول المعارضة لهذا الاتفاق، خاصة اليونان ومصر.
الجوانب العسكرية والقتالية حاضرة
غاليا ليندنشتراوس وسارة بوير وأوفير فينتر، الباحثون في معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب، أصدروا دراسة مشتركة حول الاتفاقية المذكورة، بزعم أنها تشكّل المزيد من التحديات لخطط إسرائيل بناء خط أنابيب غاز شرق المتوسط، ورؤية تركيا للتعاون المتنامي بين إسرائيل واليونان وقبرص محاولة لعزلها.
كل ذلك سيزيد من صعوبة أن تبقى إسرائيل واقفة مكتوفة الأيدي إذا اندلع صراع بين جيرانها في شرق المتوسط، رغم عدم رغبتها في التورط في الصراع الإقليمي الناشئ، لكنها مدعوة للبدء في صياغة ردود فعل محتملة مسبقاً.
أما البروفيسور شاؤول حوريف، القائد الأسبق في سلاح البحرية، فربط بين الاتفاقية التركية مع ليبيا وعملية تعزيز غير مسبوقة للبحرية التركية، مما قد يهدد الميزة التكنولوجية النوعية للبحرية الإسرائيلية، ولأن هذه الاتفاقية من شأنها تغيير قواعد اللعبة.
ومنها مثلاً أن يقرر الأتراك منع السفن الإسرائيلية من المرور عبر المياه الاقتصادية التي ضموها لأنفسهم على حساب قبرص بموجب الاتفاقية. صحيح أن الأسطول التركي "كان" صديقاً لإسرائيل، لكن الوضع اليوم تغيّر بشكل لا يُقاس.
ورغم تعاظم التهديدات البحرية وتصاعدها، فإن إسرائيل، حسب قوله في مقابلة مع صحيفة "مكور ريشون" اليمينية، تعاني من تقصير في مواجهتها، رغم أن المجال البحري الإسرائيلي تتزايد أهميته عاماً بعد عام.
ليس فقط في مجال التجارة الدولية، بل أيضاً في حقول الغاز المكتشفة، ومحطات تحلية المياه المنتشرة على السواحل، وتركز مرافق البنية التحتية على طول الساحل، وكل ذلك يعني أن إسرائيل تعاني من "عمى بحري"، وتفتقر إلى الوعي بالمجال البحري وأهميته.
موشيه تارديمان، الباحث بمعهد التفكير الإقليمي ومركز عيزرا لدراسات إيران والخليج العربي بجامعة حيفا، ذكر في مقال نشره موقع "دافار"، أن تركيا تستورد كميات هائلة من الغاز والنفط، لكنها لا تمتلك احتياطيات طاقة خاصة بها، ما يدفعها لاتخاذ إجراءات تراها إسرائيل عدائية، ومنها اتفاقيتها الأخيرة مع ليبيا، وسعيها للتنقيب عن الغاز قبالة سواحل قبرص، وتدخل طائراتها المجال الجوي اليوناني مراراً وتكراراً، ما يدفع إسرائيل للتنسيق مع قبرص واليونان لاتخاذ مواقف مضادة، وصولاً إلى تشكيل تحالف ضدها.
تجدر الإشارة إلى أن الموقف الإسرائيلي المتوجس من اتفاقية ليبيا مع تركيا ينطلق من قلقها من امتلاك الأخيرة لأقوى بحرية في المتوسط، بالتزامن مع "اندفاعها" الجامح للتنقيب عن النفط في المياه القبرصية، وصولاً إلى اتفاق المياه الاقتصادية المشتركة الممتدة مع ليبيا عبر ممر بحري طوله 700 كم، وعرضه 200 كم.
ويمر هذا الممر البحري عبر البحر المتوسط بين قبرص وكريت في اليونان، وفقاً لما ذكره الجنرال عاموس غلبوع، الرئيس الأسبق لقسم الأبحاث بشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، في مقال نشرته صحيفة "معاريف" قبل وفاته.
أما السفير الإسرائيلي السابق فريدي إيتان، فاعتبر في ورقة بحثية نشرها معهد القدس للشؤون الخارجية والأمن، أن الموقف الإسرائيلي المعادي لاتفاق تركيا وليبيا ينطلق من فرضية أهمية حوض شرق المتوسط بالنسبة لها كساحة استراتيجية واقتصادية وسياسية قائمة، لأنه يوفر لها عمقاً استراتيجياً في أوقات الطوارئ.
ربط الاتفاقية مع ليبيا بـ"تطلعات أردوغان العثمانية"
الجنرال عيران ليرمان، الذي شغل مناصب عليا في الجيش لعشرين عاماً، أكد في ورقة بحثية نشرها معهد القدس للاستراتيجية والأمن "JISS"، أن المخاوف الإسرائيلية من الاتفاق التركي الليبي تتعلق بتوجهات الرئيس رجب طيب أردوغان المرتبطة بخصائص "العثمانية الجديدة" في حوض المتوسط.
وزعم ليرمان أن أردوغان "يعتقد أن نصف بحر إيجة وجزءاً كبيراً من الجزر اليونانية يجب أن يعود لسيادة بلاده، وفي الوقت ذاته التطلع الإسرائيلي للحفاظ على التعاون في المثلث الإسرائيلي-اليوناني-القبرصي، وتوطيده وتوسيعه، لأنه في حالات الطوارئ سيكون مستحيلاً الاعتماد على تركيا".
تأتي الاتفاقية المزدوجة مع ليبيا للتعاون الأمني وترسيم الحدود البحرية، رغم عدم وجود حدود بحرية مشتركة لها مع تركيا، لكنها ستحوّل المنطقة البحرية بأكملها اقتصادية خالصة خاضعة لسيطرتها، مما يُشكل تهديداً صريحاً لإسرائيل، التي يمتد خط أنابيب الغاز المستقبلي الخاص بها إلى أوروبا من حقل ليفياثان، ماراً بقبرص واليونان، وصولاً إلى إيطاليا، كما ذكرت فيزيت رابينا محررة شؤون الشرق الأوسط بصحيفة "مكور ريشون".
أما ران كيدار، محرر الشؤون الاقتصادية في منصة "بيز بورتال" الاستثمارية، فاعتبر أن هذه الاتفاقية تُقرّب تركيا من إبرام اتفاقية للتنقيب عن الغاز في ليبيا، وهي خطوة استراتيجية قد تُغير موازين القوى في الشرق الأوسط.
مما يجعلها أمام تحقيق إنجاز هام في مجال الطاقة وسياستها الخارجية، وصولاً إلى إرسال سفن تركية لهذه المناطق، مما يزيد من التوترات الإقليمية مع إسرائيل، ويمثل اختراقاً اقتصادياً محتملاً لتركيا، التي تتطلع إلى توسيع مصادرها من الطاقة وتقليل الاعتماد على الواردات الخارجية.
موقع "ناتسيف" للشؤون العسكرية ذكر أن ليبيا تمتلك بعضاً من أكبر الاحتياطيات في أفريقيا بإنتاج يومي يبلغ 1.2 مليون برميل نفط، بكمية إجمالية تصل إلى 48 مليار برميل، الأكبر في أفريقيا، مما يمنح تركيا موطئ قدم مهم في قطاع الطاقة.
إذ سيؤدي إلى زيادة عائدات صادراتها البالغة حالياً 20 مليار دولار سنوياً، فسيكون لهذه الاتفاقية تداعيات سلبية على قيمة الاحتياطيات مقابل إسرائيل، بما فيها حقلا ليفياثان وتمار، وقد يؤثر على عمليات التنقيب المستقبلية، في ضوء النجاح التركي بلعب دور محوري في معادلة الطاقة في البحر المتوسط، مع إمكانية زيادة صادراتها من الطاقة والاستثمارات.
لماذا أنقرة على حق في الاتفاق البحري مع طرابلس؟
قال الباحث في مركز "توليب فورم" للدراسات والمتحدث باسمه صالح ألتين إشيك إن تصريحات وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخيرة التي تصف اتفاقية تركيا البحرية مع ليبيا لعام 2019 بأنها وهمية؛ تتجاهل المبادئ الأساسية للقانون الدولي.
وأوضح ألتين إشيك في تصريحاته لـ"عربي بوست" أن تركيا تمتلك أطول ساحل في شرق البحر الأبيض المتوسط، ويمتد على مسافة تزيد على 1870 كيلومتراً.
كما أن الخطط القائمة منذ سنوات لمحاولة عزل تركيا عن البحر عبر إسناد مساحة شاسعة من الجرف القاري إلى جزر صغيرة – مثل جزيرة ميس – هي محاولات غير متسقة من الناحية القانونية ومن حيث الواقع الجغرافي.
وشدد إشيك على أن اتفاق تركيا وليبيا عام 2019 هو في الواقع خطوة متوازنة اتخذت ضد هذا الظلم، وأن هذا الاتفاق يقوم على مبدأ التقاسم العادل في شرق البحر الأبيض المتوسط، كما يقوم على مبدأ "الخط الوسط بين السواحل المتقابلة" الوارد في القانون البحري الدولي، إضافة إلى أنه لا ينتهك حقوق أي دولة؛ بل على العكس، يمنع الوقائع الأحادية الجانب.
وبالإشارة إلى البيان الصادر في وسائل الإعلام الإسرائيلية بأنه "إذا تم هذا الاتفاق لصالح تركيا؛ فسوف تتعرض السفن للمضايقة"، قال المتحدث باسم منتدى "توليب" إن هذا "لا أساس له من الصحة". وأكد أن هدف تركيا ليس المضايقة؛ بل السلام والعدالة والتعاون الإقليمي، لكنه شدد على أنه لا يمكن لأي دولة توقع نجاح أي معادلة تتجاهل تركيا وتنتهك حقوقها في شرق المتوسط.
وأضاف ألتين إشيك أنه لا يمكن لأي مشروع يزوّد أوروبا بالطاقة – سواء كان خط أنابيب للغاز الطبيعي أو كابلات كهربائية – أن يكون مستداماً من دون أنقرة؛ لأن تركيا بحسبه هي مركز جغرافي واقتصادي واستراتيجي في المنطقة.
وأوضح الباحث السياسي أن الطريق إلى التوزيع العادل والسلام الدائم في شرق البحر الأبيض المتوسط يكمن في الاعتراف بحقوق تركيا المشروعة، وأكد أن تركيا "لا ترسم حدوداً وهمية ولا تغتصب حقوق أي أحد؛ بل على العكس من ذلك، فهي تقترح نظاماً يتماشى مع القانون الدولي، ومنصفاً ومستداماً".
من جانبه قال الأدميرال جهاد يايجي، مهندس مبدأ "الوطن الأزرق"، إن أهمية ليبيا بالنسبة إلى تركيا لا تقتصر على التطورات السياسية الراهنة، بل تمتد إلى روابط تاريخية وثقافية تمتد إلى 360 عاماً.
وأوضح يايجي أن القمة الثلاثية بين ليبيا وإيطاليا وتركيا التي عُقدت في إسطنبول في 1 أغسطس/آب 2025 والتطورات الاستراتيجية في المنطقة، تؤكد أهمية العلاقات التركية الليبية، وربما تكون السبب الرئيس وراء التصريحات العدوانية التي صدرت من بعض الدول تجاه تركيا.
وأكد يايجي أن تعاون إيطاليا مع تركيا من شأنه أن يغيّر موازين القوى في شرق البحر الأبيض المتوسط، قائلاً: من الضروري أن تقف دولة من دول الاتحاد الأوروبي، متداخلة مباشرة في ليبيا، إلى جانب تركيا؛ فهذا من شأنه عزل اليونان وجنوب قبرص عن أوروبا؛ حتى أن حفتر هو الآخر أُجبر على الاعتراف بالاتفاق في ليبيا.
وعلى الطرف المقابل، فإن إيطاليا سعيدة للغاية بالتعاون مع تركيا وليبيا، بحسب الأدميرال التركي؛ مشيراً إلى أن هذه التطورات جعلت اليونان، التي تعارض اتفاقية الولاية البحرية الموقعة بين تركيا وليبيا، وحيدة داخل الاتحاد الأوروبي بفضل إيطاليا، التي تقف إلى جانب تركيا داخل الاتحاد الأوروبي، مضيفاً أن هذه خطوة مهمة للغاية، ويجب تهنئة من قاموا بها.
وتابع يايجي أنه إذا تضافرت جهود إيطاليا وتركيا سياسياً واقتصادياً وأمنياً، فستصبح اليونان وشريكتها الصغيرة، الإدارة القبرصية اليونانية في جنوب قبرص، معزولة داخل الاتحاد الأوروبي وغير قادرة على إيصال صوتها بمفردها.
وأوضح الأدميرال التركي أن تركيا تُرسي نظاماً يضمن استفادة الليبيين من ثروات بلادهم، مشدداً على أنه ليس نموذجاً استعمارياً، بل نموذجاً عادلاً، وهذا هو السبب وراء الانزعاج الإسرائيلي والأوروبي من التحركات التركية الأخيرة.
وفي معرض تسليطه الضوء على جانب الأمن البحري في المنطقة، قال يايجي إن التعاون الثلاثي بين تركيا وليبيا وإيطاليا سيسهم في منع الهجرة غير الشرعية من خلال القوات البحرية، ما يعني وجوداً مستمراً للبحرية التركية في وسط البحر الأبيض المتوسط، وسيضمن أمن عمل الشركات في هذه المنطقة.
توصيات حول تعامل إسرائيل "الرسمية" مع طموحات تركيا
البروفيسور إفرايم عنبار، رئيس معهد القدس للاستراتيجية والأمن، حذّر في مقال نشره موقع "ميدا" الاقتصادي من أن اتفاقية ليبيا وتركيا الضارّة بإسرائيل لا تنطلق من سياسات مؤقتة، ولن تختفي بعد عهد أردوغان، بل تعكس توجهات طويلة الأمد في المجتمع التركي.
وتعزّز هذا التوجه في ظل توجه الولايات المتحدة لتقليص تدخلها في الشرق الأوسط، وتتماشى مع تطلعات تركيا لترسيخ مكانتها الدولية، وكل ذلك يشكّل تحدياً لوصول إسرائيل ومصر وقبرص إلى الأسواق الأوروبية من حيث وصول الطاقة، سعياً إلى ترسيخ النفوذ في الأراضي التي سيطرت عليها الإمبراطورية العثمانية سابقاً في شرق البحر المتوسط.
أما صموئيل هالفونت، المحاضر في الاستراتيجية والسياسات ببرنامج الحرب البحرية بكلية الدراسات العليا البحرية في مونتيري، كاليفورنيا، فأوصى بضرورة أن تتوخى إسرائيل الحذر الشديد في تعاملها مع هذه الاتفاقية، وعدم التصعيد، لأنه ليس لديها مصلحة في تحويل تركيا القوية إلى عدو نشط.
لأنها أظهرت درجة معينة من البراغماتية تجاه إسرائيل، ولم تقطع علاقاتها الدبلوماسية تماماً معها، وتحافظ على علاقات تجارية واسعة، بجانب علاقات الطيران المهمة للسياحة بالنسبة لها، وللحفاظ على وصول القدس المحتلة والمسجد الأقصى.
وأضاف أن إسرائيل مدعوة في الوقت نفسه إلى تحديد أدوات النفوذ التي ستسمح لها بكبح طموح القيادة الحالية في تركيا، وفي مقدمتها المجال الاقتصادي، ومنعها من تهديد مصالحها الحيوية وشركائها في المعادلة الإقليمية، واستدعاء الضغط الأوروبي والأمريكي للتصدي لسلوك تركيا "الإشكالي".
لا يُخفي الإسرائيليون اعترافهم بأن تركيا تمثل ذراعاً أخطبوطية تسعى لتوسيع وتغيير الاتفاقيات الدولية لزعزعة استقرار المنطقة، وهذا وضع بالنسبة لهم ليس مريحاً، لأن الاتفاقية قد تُقوّض الاستقرار الإقليمي، الذي لا يبدو في أفضل حالاته، على حدّ وصف ستيف بالخسان، المستشار الأمني، ومالك شركة "باي إكسبيرتس" للاستشارات الأمنية والتدريب.
إيال بينكو، محرر الشؤون العسكرية في مجلة "يسرائيل ديفينس"، اعتبر أن مرتكزات تل أبيب في رفض الاتفاقية تعود إلى كون تركيا تراها خطواتٍ تُشكّل صورة جيوسياسية جديدة في جميع المسائل المتعلقة بالبحر المتوسط، وتؤثر بشكل كبير على الاتفاقيات التي تتشكل بشأن قضايا الطاقة، وبالتالي فقد تُلحق الضرر بالاقتصاد الإسرائيلي، وتزيد من تكاليف تجارته البحرية، فضلاً عمّا قد تُؤدي إليه من صراع ليس فقط بين قواتها البحرية مع اليونان وقبرص، بل مع إسرائيل ذاتها.
ودعا إلى تكثيف سلاح البحرية وأجهزة الاستخبارات ببناء صورة بحرية دقيقة عن القدرات البحرية التركية، وبناء صورة معلوماتية دقيقة عن تحركاتها السياسية والعسكرية، وأداء سفنها وطائراتها، وأنظمتها وقدراتها، مما يُمكن إسرائيل من توفير استجابة دفاعية في حال وقوع حادث بحري، وإعداد وممارسة خطط عمل محتملة في حال حدوث تصعيد بحري.