في سابقة دبلوماسية وأمنية هي الأولى من نوعها منذ أكثر من عقدين، استضافت العاصمة الفرنسية باريس اجتماعاً ثلاثياً مغلقاً ضمّ وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، بحضور المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا ولبنان، السفير توماس باراك.
الاجتماع، الذي دام لساعات بعيداً عن الإعلام، بدا وكأنه نقطة تحوّل محورية في مقاربة الملف السوري، ويعكس وجود مساعٍ جدية لإرساء تفاهمات أمنية في الجنوب السوري، تُفضي إلى رسم قواعد اشتباك جديدة بين دمشق وتل أبيب، تمهيداً لمعادلات إقليمية جديدة في مرحلة ما بعد الحرب على إيران.
ضغوط تركية–عربية
تشير مصادر دبلوماسية عربية لـ"عربي بوست" إلى أن الترتيب لهذا الاجتماع جاء بعد تسارع الأحداث في السويداء، حيث مارست تركيا والمملكة العربية السعودية ضغوطاً كبيرة على الإدارة الأميركية لوقف التدخلات الإسرائيلية في الجنوب السوري، والدفع باتجاه احتواء حالات الانفصال هناك. ووفق المعلومات، التقى مسؤولون إقليميون وعرب مع مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي، برعاية الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، في العاصمة باكو.
وتفيد المعلومات بأن لقاء وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، سبقته لقاءات تمهيدية بين مسؤولين أمنيين ودبلوماسيين سوريين ونظرائهم الإسرائيليين في باكو، ساهمت في إعداد جدول أعمال اجتماع باريس، بإشراف مسؤول من وكالة المخابرات الأميركية.
ويضيف المصدر أن استهداف إسرائيل لمحيط القصر الجمهوري ووزارة الدفاع وهيئة الأركان السورية، دفع الجانب التركي وأطرافاً عربية إلى تكثيف الضغوط على الولايات المتحدة وإسرائيل لمنع تفجّر الوضع في مناطق سورية أخرى، خشية تهديد ما تُعرف بـ"الدولة السورية الناشئة".
شروط إسرائيلية وخطوط حمراء سورية
في المقابل، شهد الاجتماع نقاشات حادة بسبب المطالب الإسرائيلية، التي اعتبرتها دمشق "تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية السورية". ووفق مصادر دبلوماسية سورية لـ"عربي بوست"، رفضت دمشق مقترحاً إسرائيلياً بإعادة رسم المشهد الأمني والإداري في محافظة السويداء، عبر نقل إدارة الملف بالكامل إلى إشراف أميركي مباشر، والإبقاء على نقاط مراقبة إسرائيلية في بعض المناطق السورية.
كما أصرّ الجانب الإسرائيلي على انسحاب القوات السورية من القرى الدرزية، ولا سيما قوات الأمن العام والعناصر الموالية من أبناء العشائر (البدو) في جنوب وغرب السويداء، استجابة لمطالب مشايخ العقل ووجهاء المجتمع المحلي.
واقترح الوفد الإسرائيلي تشكيل مجالس مدنية جديدة لإدارة الشؤون الخدمية، بتمويل من صندوق دولي تحت إشراف أميركي، بما يسمح باستقلال إداري واسع عن حكومة دمشق، وهو ما رفضته الأخيرة رفضاً قاطعاً.
وتشير المصادر إلى أنه جرى التوافق في المرحلة الأولى على تشكيل لجنة رصد وتوثيق للانتهاكات، تضم ناشطين حقوقيين وممثلين عن المجتمع المدني، وترفع تقاريرها مباشرة إلى الموفد الأميركي توماس باراك، دون المرور بأي قنوات حكومية سورية.
وفي ما يتعلق بمصير السلاح الثقيل في محافظتي درعا والقنيطرة، دارت نقاشات دون التوصل إلى آلية تنفيذية لنزعه من جميع القوى الموالية والمعارضة السابقة، مع اقتراح تشكيل لجان أمنية محلية غير مسلحة تنسق أعمالها مع حكومة دمشق.
كما طالب الوزير الإسرائيلي رون ديرمر بتقييد الوجود العسكري السوري جنوب دمشق، وإخلاء منطقة حوض اليرموك والريف الجنوبي للعاصمة من أي نشاط عسكري أو أمني دائم، مع الإبقاء على السيطرة الإسرائيلية على قمم جبل الشيخ ومواقع الرصد الاستراتيجية المشرفة على دمشق والحدود اللبنانية–السورية.
دمشق تعرض العودة إلى اتفاق 1974
أبدى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني خلال الاجتماع استعداد دمشق للعودة إلى اتفاق فض الاشتباك الموقع عام 1974، مع إمكانية تعديل خطوط المنطقة العازلة بالتفاهم مع الجانب الإسرائيلي، شرط احترام السيادة السورية.
في المقابل، أصرّ ديرمر على مواصلة الضغط لإخراج النفوذ الإيراني والفصائل الفلسطينية من الجنوب، والإبقاء على الحق الإسرائيلي في تنفيذ ضربات استباقية عبر لجنة ثلاثية سورية–إسرائيلية–أميركية، شبيهة بآلية وقف إطلاق النار في لبنان، على أن تكون برئاسة جنرال أميركي.
كما شدد الجانب الإسرائيلي على استمراره في استهداف أي تحركات أو مخازن أسلحة يُشتبه في أنها موجهة لحزب الله، أو تمر عبر الأراضي السورية نحو لبنان، ضمن سياسته لقطع طريق الإمداد الذي يستخدمه الحزب والحرس الثوري الإيراني.
هواجس من انحياز أميركي لإسرائيل؟
بحسب المصادر، تتخوف دمشق وأنقرة من أن تكون الإدارة الأميركية قد استغلت أحداث السويداء بين الدروز والعشائر للضغط على دمشق لتقديم تنازلات أكبر لإسرائيل. وأفادت التقارير أن السفير الأميركي لدى تل أبيب، مايك هاكابي، أبلغ رئيس الحكومة الإسرائيلية أن لديه "ضوءاً أخضر" لاستهداف دمشق، رغم تسريبات تحدثت عن "غضب أميركي" من نتنياهو عقب القصف الأخير.
وترى دمشق، وفق المصادر، أن الدفع باتجاه اتفاق أمني دون ضمانات سيادية حقيقية قد يفتح الباب أمام اضطرابات داخلية، وتشجيع مكونات أخرى على التمرد في المستقبل. كما تعتبر أن أي اعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان سيُقابل برفض شعبي واسع، وقد يؤدي إلى إعادة فتح الجبهات بدلاً من إغلاقها.
تمثيل سياسي رفيع… تفاهم لا تطبيع
يرى المحلل السياسي إبراهيم ريحان أن المستوى التمثيلي المرتفع في اجتماع باريس الثلاثي يعكس توجهاً نحو تفاهم سياسي–أمني، يتجاوز الطابع الأمني التقليدي، رغم أن جدول الأعمال ركّز على الترتيبات الميدانية في الجنوب السوري.
ويعتبر ريحان أن حضور وزير الخارجية السوري ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، إلى جانب المبعوث الأميركي، يعكس رغبة ثلاثية في بناء تفاهم قابل للتطور، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الأطراف باتت قريبة من تطبيع شامل أو اتفاق سلام نهائي.
ويشير إلى أن الأولوية حالياً هي ضبط الإيقاع الأمني في الجنوب واحتواء الاشتباك المتكرر بين سوريا وإسرائيل، خاصة بعد التصعيد الأخير في السويداء، والغارات الإسرائيلية على دمشق. والهدف المباشر هو الوصول إلى تفاهم ميداني يُفضي إلى تهدئة طويلة الأمد، دون المساس بالتوازنات الإقليمية المعقّدة.
ورغم هذه المؤشرات الإيجابية، لا تزال هناك عقبات بنيوية في طريق أي اتفاق دائم، وعلى رأسها قضية الجولان المحتل. فبينما تفضّل دمشق العودة إلى اتفاق 1974، تبدي إسرائيل فتوراً واضحاً، وتسعى إلى فرض واقع جديد يعترف بسيادتها على الجولان، خاصة بعد الاعتراف الأميركي بذلك خلال إدارة ترامب.
ولا تزال الخلافات قائمة أيضاً حول مستقبل المنطقة العازلة، ودور القوى الرديفة، وترتيبات الأمن في محافظات الجنوب الثلاث: السويداء ودرعا والقنيطرة، حيث تسعى تل أبيب إلى تفريغها من الوجود العسكري الرسمي، وإحلال سلطات محلية مدنية أو محايدة بدلاً منها.