في عمق العمليات العسكرية الإسرائيلية داخل قطاع غزة، تنشط قوة صغيرة تُعرف باسم "قوة أوريا"، تتكون من مجموعة من الإسرائيليين المتطرفين، ومهمتهم الأساسية هدم أكبر عدد ممكن من المنازل والأبنية داخل قطاع غزة، تنفيذاً لسياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى حرمان الغزيين من العودة إلى منازلهم.
هذه القوة التي تدخل إلى غزة برفقة جرافات ضخمة، تحظى بحماية من جيش الاحتلال الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته، يعتمد الاحتلال على مدنيين في تنفيذ عمليات الهدم، مقابل الحصول على مبالغ مالية، ويتم استقدامهم من خلال إعلانات تُنشر على وسائل التواصل، رصدها "عربي بوست".
برز اسم "قوة أوريا" مجدداً خلال الأيام القليلة الماضية، بعد أن كشف موقع "هماكوم هاحي حام" الإسرائيلي، أن أفراد القوة الإسرائيلية دمّروا مئات المباني في غزة خلال أسبوع، انتقاماً لمقتل زميل لهم في عملية نفذتها كتائب "القسام" في غزة.
متطرف وراء إنشاء "قوة أوريا"
تأسست "قوة أوريا" نهاية عام 2024، من قبل الإسرائيلي "أوريا لوبيربوم"، وهو ناشط يميني متطرف، مقرّب من وزير المالية الإسرائيلي "بتسلئيل سموتريتش"، المعروف بدوره الرئيسي في منع دخول المساعدات إلى غزة، ومساهمته في تعميق أزمة الجوع التي يعاني منها سكان القطاع.
يرتبط اسم "لوبيربوم" بأنشطة الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين، فهو مؤسس "منتدى الاستيطان الشاب"، والقوة التي يقودها تضم إسرائيليين معظمهم قادمون من المستوطنات، يؤمنون بضرورة توسيع مشاريع الاستيطان بهدف السيطرة على مزيد من الأراضي الفلسطينية.

تأسست "قوة أوريا" كردّ فعل على قرار الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن، نهاية عام 2024، بتجميد إرسال بلاده جرافات من طراز D9 إلى جيش الاحتلال، والتي كان يستخدمها في هدم المنازل والأبنية داخل غزة، قبل أن تُنهي إدارة الرئيس الحالي ترامب هذا التجميد وتُرسل الجرافات للاحتلال.
تتألف "قوة أوريا" من جنود احتياط ومدنيين يعملون في صفوف جيش الاحتلال، وتعمل هذه القوة تحت قيادة "فرقة غزة"، إحدى أبرز الأذرع العسكرية الإسرائيلية التي تشارك في الحرب على غزة منذ 7 أكتوبر 2023.
يتعامل الإسرائيليون المنخرطون في "قوة أوريا" مع عمليات الهدم وكأنها إنجازات تُستحق الاحتفال، ويُظهر البحث عن اسم هذه القوة على مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيق تلغرام، صوراً ومقاطع فيديو كثيرة، تُظهر قيام أفراد القوة بمسح أحياء بأكملها من على وجه الخريطة داخل غزة.
في 26 يناير 2025، نشرت قناة إخبارية إسرائيلية على تطبيق تلغرام مقطع فيديو يُظهر عملية تدمير ممنهجة للمساكن في رفح جنوب القطاع، وكتبت تعليقاً عليه: "إذا كنتم تتساءلون من المسؤول عن تدمير رفح، فها هو فريق أوريا، فريق المعدّات الهندسية المنتصر!".

عمليات التدمير الواسعة التي تنفذها "قوة أوريا" لا تستند إلى أي ضرورة عسكرية، فالمحتوى المنشور عن عملياتها يُظهر أن القوة تهدم منازل وأبنية لا تمثل مصدر خطر عسكري لقوات جيش الاحتلال.
وما تُدمّره "قوة أوريا" إما منازل وأبنية متضررة جزئياً جراء القصف الإسرائيلي الذي لا يتوقف، أو أنها منازل سليمة، لكنها تتحول خلال دقائق إلى أكوام من الركام، لا سيما عندما تجتمع أكثر من جرافة لهدم المنزل أو البناء ذاته.
أصبحت هذه القوة معروفة بشعارها الخاص: جرافتان تحيط بهما مبانٍ، وأمامهما جندي إسرائيلي، في تجسيد مرئي لطبيعة عملها القائم على تدمير البنية السكنية للقطاع.

التدمير مقابل المال
تعتمد "قوة أوريا" في جزء من عملها على استجلاب متعاقدين مدنيين إسرائيليين، يتم استقدامهم من خلال شركات بناء خاصة، للمشاركة في عمليات الهدم داخل غزة، مقابل الحصول على مبالغ مالية مغرية، تتفاوت قيمتها بحسب حجم المباني التي يتم تدميرها.
على مواقع التواصل الاجتماعي، رُصدت إعلانات على مجموعات إسرائيلية، تُقدم عروض عمل لسائقي الجرافات للعمل داخل قطاع غزة.
في هذا الإعلان المنشور يوم 3 يوليو 2025، يُطلب مشغّلو جرافات "ذو خبرة"، ويتضمّن الإعلان صراحةً أن المهمة: هدم المنازل في قطاع غزة.
يبلغ الراتب المعروض في الإعلان 1200 شيكل (359) دولاراً لليوم الواحد، ويُوصَف العمل بأنه يتم "داخل بيئة مليئة بالتحديات وذات طابع أمني"، في إشارة إلى أن العمل سيكون في مناطق عمليات جيش الاحتلال الإسرائيلي داخل غزة.

في إعلان آخر، طُلب مشغّلو جرافات وحفّارات للعمل داخل قطاع غزة، وبرفقة جيش الاحتلال، ويُقدّم عرض العمل مبلغ 100 شيكل للساعة الواحدة، وفي حال كان يمتلك الشخص جرافته أو حفّاره الخاص، يتقاضى 400 شيكل في الساعة الواحدة.

كما تضمّن أحد الإعلانات طلباً مباشراً لسائقي جرافات، للعمل في "محور فيلادلفيا" المحاذي للحدود المصرية مع قطاع غزة، لصالح "مشروع خاص" لوزارة الدفاع التابعة للاحتلال.
كانت منطقة محور فيلادلفيا في جنوب قطاع غزة قد شهدت عمليات تدمير ممنهجة على الجانب الشرقي للمحور، مُسحت خلالها أحياء بأكملها، من خلال قصفها أو تدميرها.
يُشير موقع "هماكوم هاحي حام" الإسرائيلي إلى أن جيش الاحتلال يدفع مبلغ 2500 شيكل (750) دولاراً، مقابل هدم مبنى في غزة مكوّن من 3 طوابق، فيما يدفع 5000 شيكل (1500) دولار، لهدم المباني الأعلى.
أغرى ذلك الإسرائيليين المتطرفين، لكون عملية هدم المنازل والأبنية في غزة تمثل جزءاً من إيديولوجيتهم الاستيطانية الهادفة إلى تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، من ناحية، ومن ناحية أخرى، تمثل المشاركة في عملية الهدم مصدراً مالياً كبيراً.
الانتقام بالتدمير
عندما تدخل "قوة أوريا" إلى عمق قطاع غزة، تحظى بحماية من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي، وتعمل القوة في مناطق لا تخلو من الخطورة، فيما تستهدف عمليات لـ"كتائب القسام" سائقي الجرافات وهم يهدمون المنازل.
في 9 يوليو 2025، نفذت كتائب "القسام" هجوماً ناجحاً على جرافة وهي تهدم المنازل في خان يونس، وقتلت أبراهام أزولاي أثناء تنفيذه لمهمة هدم، كان ينفذها برفقة مقاتلين من "لواء غولاني".
صوّرت "القسام" عملية الهجوم، ووثّقت لحظة قتلها للجندي الذي حاول الفرار من الجرافة، وكان يعمل ضمن "قوة أوريا".
ردّت "قوة أوريا" بفعل انتقامي واسع، وأعلن زملاء الجندي أزولاي أنهم هدموا 409 مبانٍ في غزة انتقاماً لمقتله، وأثارت عملية مقتله دعوات من متطرفين إسرائيليين لتنفيذ المزيد من عمليات هدم المباني والمنازل في القطاع.
في مجموعات "واتساب" تابعة لمروّجي الاستيطان، تم الربط بشكل صريح بين عمليات الهدم التي تلت مقتل أزولاي وبين التمهيد للاستيطان الإسرائيلي في قطاع غزة. وجاء في إحدى الرسائل، بحسب صحف إسرائيلية:
"تُهدي قوة أوريا المباني الـ409 التي دُمّرت خلال فترة الشيفا لذكراه. تمهيدًا للاستيطان اليهودي في قطاع غزة".
كان أزولاي يتفاخر علناً بمشاركته في هدم منازل الفلسطينيين في القطاع، وروى صديق له أن أزولاي، عندما كان يعود منتهياً من تنفيذ مهمته في التدمير في غزة، كان يقول: "200 عربي آخر لن يعودوا إلى غزة، 500 آخرون، 1000 آخرون"، ونقلت صحيفة "هآرتس" عن صديق آخر لأزولاي قوله: "لن ننسى ولن نغفر أبداً. ليتنا نحظى بالانتقام لروحك".
تدمير لأجل التدمير فقط
إلى جانب "قوة أوريا"، يبرز دور حاخام إسرائيلي في تنفيذ عمليات هدم ممنهجة للمنازل والأبنية في غزة، وهو الحاخام "أبراهام زربيف"، الضابط في لواء "جفعاتي"، الذي ينشر على شبكات التواصل باستمرار مقاطع فيديو له وهو يشارك في هدم المنازل.
يروّج الحاخام، إلى جانب قنوات إخبارية إسرائيلية على "تلغرام"، لعمليات الهدم التي ينفذها بنفسه، ويرفق ذلك بعبارة "تدمير غزة"، وأصبح الحاخام يظهر في صور وفيديوهات وهو يضع ملصقات، عليها صورته إلى جانب جرافة مخصصة لهدم المنازل والأبنية في غزة.
لاقَت هذه الملصقات رواجاً واسعاً داخل إسرائيل، وبدأت تُستخدم كأداة للتحريض على هدم المزيد من المساكن في القطاع.
في صورة تداولها حساب إسرائيلي على موقع "X"، ظهر طفلان إسرائيليان يحملان ملصق "تدمير غزة"، الذي يحمل صورة الحاخام زربيف، في مشهد يُجسّد كيفية تطبيع ثقافة الهدم بين الأجيال الناشئة.

في يناير 2025، تقدّمت مؤسسة "هند رجب" ومقرها في بروكسل، بشكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية ضد الحاخام زربيف، وذلك بسبب دوره في الهدم الممنهج للأحياء في غزة. وتُعدّ المؤسسة جزءاً من حركة "30 مارس"، التي تعمل على محاكمة وملاحقة الجنود الإسرائيليين المتهمين بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين.
الاحتلال يمسح غزة بالتدمير
تُشير تقديرات لمنظمة الأمم المتحدة إلى تضرر أو تدمير حوالي 92% من المنازل في قطاع غزة، أي ما يقارب 436,000 منزل، وذلك جراء الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع.
كذلك تُقدّر الأمم المتحدة أن إجمالي الأنقاض في غزة يبلغ نحو 50 مليون طن، فيما يُتوقّع أن تستغرق عملية إزالتها 21 عاماً على الأقل.
تُقدّم صور الأقمار الصناعية دليلاً على كيف مسح الاحتلال أجزاءً واسعة من المباني السكنية في محافظات القطاع الخمس، منذ بدء الحرب وحتى يوليو 2025.
ويبرز الدمار الأكبر في محافظتي خان يونس ورفح جنوب القطاع، وتُظهر صور الأقمار أن كلتا المحافظتين تعرّضتا لتدمير شبه كامل.
ويستعرض "عربي بوست" أدناه، باستخدام صور الأقمار الصناعية، آثار التدمير الممنهج الذي نفّذه الاحتلال في محافظات القطاع، من خلال مقارنة كل محافظة بما كانت عليه في شهر أكتوبر 2023، وما هي عليه الآن في شهر يوليو 2025.
رفح:
خان يونس:
دير البلح:
محافظة غزة:
شمال غزة:
يتزامن استمرار الاحتلال الإسرائيلي في تدمير أحياء غزة، مع إغلاق كامل للمعابر ومنع دخول الغذاء والدواء، ما تسبّب في تفشّي المجاعة في أنحاء القطاع، وظهور أعراض سوء التغذية الحاد على الأطفال والمرضى.
وارتفعت حصيلة وفيات الجوع وسوء التغذية منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى 122 فلسطينياً، بينهم 83 طفلاً، وفق آخر معطيات وزارة الصحة في غزة، ليوم الجمعة 25 يوليو/ تموز 2025.
يأتي ذلك في وقت يكافح فيه الفلسطينيون لتوفير الدقيق، حيث تستهدفهم إسرائيل عند نقاط توزيع المساعدات الأمريكية التي تقع في مناطق عسكرية إسرائيلية.
وخلفت الحرب الإسرائيلية على غزة أكثر من 203,000 فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9,000 مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين.