تسير امتحانات الثانوية العامة في مصر (البكالوريا) على نفس وتيرة الأعوام الماضية، إذ تشهد بعض لجان الامتحان حالة من التسيّب التي تقود إلى انتشار الغش الجماعي، مع تسريب أوراق أسئلة الامتحانات على مواقع التواصل الاجتماعي أثناء سير الامتحانات.
وأخذت الظاهرة هذه السنة في التمدد إلى شراء اللجان الامتحانية عبر تقديم رشاوى إلى المراقبين ورؤساء اللجان لتسهيل عملية الغش، وهو ما تنبّهت إليه وزارة التربية والتعليم بعد بدء الامتحانات، واتخذت قرارات بتبديل مواقعهم للتعامل مع الأزمة، لكن ذلك لم يوقف الغش.
الثانوية العامة في مصر
يقول أحد مراقبي اللجان الامتحانية في محافظة قنا جنوب مصر: "جئت من محافظة أسيوط للمشاركة في أعمال الامتحانات، ومكثت في مكان الاستراحة الذي خصصته وزارة التربية والتعليم داخل إحدى المدارس للإقامة فيها أثناء فترة الامتحانات".
وأضاف المتحدث: "وصلنا قبل انطلاق الامتحانات بيوم واحد، ولكن بعد ساعات فوجئنا بزيارة غريبة طرفها أحد موظفي الإدارة التعليمية في قنا، بصحبة أحد نواب البرلمان ومعه عدد من المسؤولين التنفيذيين بالمحافظة، وتوقعنا أن يكون ذلك بهدف الاطمئنان على أماكن الاستضافة والتعرف على أي مشكلات تواجهنا، لكننا فوجئنا بأن الهدف كان تقديم رشوة قيمتها 500 ألف جنيه للمراقبين نظير تسهيل الغش في الامتحانات، وكانت هناك وعود بأن يتم مضاعفة المبلغ عقب انتهاء الامتحان".
وقال المتحدث إنهم أبلغوا كنترول أسيوط بالواقعة، رغم تخوفهم من إبلاغ لجنة امتحانات الثانوية العامة الرئيسية في القاهرة خشية تعرضهم لضرر، لكنهم أصروا على أن يصل البلاغ للجهات العليا، وهو ما حدث بالفعل. ولكن ردة الفعل كانت مفاجأة كما يقول المراقب، وهي "نُقلنا إلى لجان أخرى في محافظتنا الأساسية أسيوط، دون أن ندري ماذا حدث بعد أن تركنا اللجنة عقب أداء أول امتحان".
وذكر المصدر ذاته أن ما تعرض له هو وزملاؤه تكرر مع أكثر من عشر لجان في محافظة قنا وحدها، وهناك شكاوى وردت من بعض اللجان، ولكن ما حدث أن التعامل كان يتم مع المراقبين وليس مع من قاموا بالمخالفة القانونية، وهو ما يبرهن على عدم وجود رغبة في ضبط العملية الامتحانية، التي تسير من سيئ إلى أسوأ كل عام.
لافتاً إلى أن وتيرة استخدام السماعات في الغش هذا العام تضاعفت بدرجة ملحوظة داخل اللجان، مع ملاحظة شرود الطلاب وانغماسهم في الاستماع إلى ما يُملى عليهم من إجابات أثناء الامتحانات.
لجان تحت الحصار.. وتكنولوجيا يصعب ضبطها
ويشير أحد مراقبي الامتحانات في محافظة الشرقية، وهي في شرق الدلتا، تحدث شريطة عدم الإفصاح عن هويته، إلى أن لجنته الامتحانية تشهد حصاراً من جانب أولياء الأمور أثناء الامتحان، وهو ما يثير قلق المراقبين الذين يطالبون بإبعاد الأهالي، لكن دون جدوى.
وقال إن الأسوأ من ذلك أنه خلال النصف الساعة الأخيرة من الامتحانات تظهر محاولات لتهريب أوراق مدوّن بها إجابة جميع الأسئلة، بعد أن يتم تصوير الامتحان بشكل كامل لتوصيلها إلى الطلاب داخل اللجان، وهو ما حدث في امتحان اللغة العربية بموافقة رئيس اللجنة.
وأكد أنه قبل انطلاق الامتحانات انتشرت إعلانات غريبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تطالب الطلاب بالانضمام إلى جروبات واتساب، يتم فيها تقديم إجابات نموذجية على أسئلة الامتحان أثناء انعقاده، مقابل دفع مبلغ 3000 جنيه.
وقال إن هناك معلمين في مختلف المواد يتم الاستعانة بهم للإجابة على الامتحان، ومن ثم تسهيل عملية إملاء الطلاب الإجابة الصحيحة داخل اللجنة عبر السماعات، التي لا تُرى بالعين المجرّدة رغم إجراءات التفتيش للطلبة، ويتراوح سعرها من 5000 جنيه إلى 20 ألف جنيه.
هذه السماعات، حسب المتحدث، تُباع علناً على مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر متعهدين يتواصلون مع الطلاب أثناء حضورهم إلى السناتر أو المدارس، وهي تجارة رائجة في غالبية المحافظات المصرية دون أن يتدخل أحد لوقف عملية بيعها.
مراقبو الوجبات وملايين الجنيهات
خلال الأيام الماضية، كشف الصحافي المصري المتخصص في ملف التعليم، محمد الصايم، أن "إحدى لجان الامتحان في محافظة سوهاج، وتحديداً في مركز ساقلته، يتواجد بها نجل أحد النواب الحاليين، والكارثة أن اللجنة كانت مفتوحة على البحري في امتحانات التربية الدينية والتربية الوطنية، وكأنها لجنة خاصة مُفصلة على مقاس نجل معالي النائب".
وتابع: "تأتي الرعاية الكاملة من مدير الإدارة التعليمية، والذي أكدت مصادر أن نجله يخوض امتحانات الثانوية العامة 2025 في نفس اللجنة، ويربطه صلة قرابة مباشرة بعضو مجلس النواب، في نموذج فجّ لتضارب المصالح واستخدام النفوذ".
وكشف الصايم قائلاً: "في واحدة من أغرب وقائع الثانوية العامة هذا العام، يقود سمسار امتحانات في مدينة البلينا بمحافظة سوهاج، وهو مدير سابق لإحدى المدارس، مجموعة تضم 3 أفراد آخرين، جمعوا ما يقرب من 3 ملايين جنيه من أولياء الأمور والطلاب".
وأضاف: "الهدف تسهيل الغش داخل جميع اللجان، و(تقديم واجب الضيافة) للسادة المراقبين وبدل مادي كما يدعي هذا السمسار، ولأن الضيافة عندهم ليست أي كلام، فقد تم التعاقد مع أحد المطاعم الشهيرة بمركز البلينا (بمحافظة سوهاج أيضاً) لحجز وجبات يومية للمراقبين".
ماذا عن خطة مكافحة الغش؟
تُجرى الامتحانات في الفترة من 15 يونيو/حزيران الحالي حتى 10 يوليو/تموز، بنسبة 85٪ لأسئلة الاختيار من متعدد، و15٪ للأسئلة المقالية، وذلك للمواد المضافة للمجموع فقط.
وحددت الوزارة قائمة من المحظورات خلال فترة أداء امتحانات الثانوية العامة، ومنها عدم اصطحاب أجهزة التابلت والهواتف المحمولة إلى لجان الامتحانات، وإن كانت مغلقة، وعدم ارتداء ساعات ذكية أو سماعات لاسلكية (بلوتوث).
كما حظرت اصطحاب الكتاب المدرسي داخل لجان الامتحانات، أو طبع أو نشر أو الترويج بأي وسيلة لأسئلة الثانوية العامة وأجوبتها، محذّرة من عقوبة ذلك بـ"المنع من أداء الامتحان في الدور الذي يؤديه الطالب، والدور الذي يليه من العام ذاته، واعتباره راسباً في جميع المواد".
ووجّه وزير التربية والتعليم، محمد عبد اللطيف، مديري المديريات التعليمية، بتحويل الطالب الذي يتم ضبطه في حالة غش أثناء أداء الامتحان إلى لجنة خاصة لاستكمال الامتحانات بها، مشيراً إلى أن هذا الإجراء يأتي في إطار الحرص على ضمان نزاهة وشفافية سير العملية الامتحانية، وتطبيق القوانين واللوائح المنظمة، بما يحقق مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع الطلاب.
وقال مصدر مطّلع بوزارة التربية والتعليم المصرية إن شكاوى وردت من معلمين بشأن تورط رجال أعمال ونواب برلمان وبعض المستشارين في قضايا تتعلق بتقديم رشاوى لتسهيل عملية الغش، وإن وزارة التربية والتعليم بدورها تُخبر الجهات المعنية بتلك الوقائع، لكنها لا تملك سوى التعامل مع من يقعون تحت طائلتها. وبالتالي، أصدرت قرارات بنقل المعلمين من بعض اللجان خلال الأيام الأولى للامتحان، وأن عملية تدوير المراقبين في اللجان التي تشهد غشاً جماعياً مستمرة حتى نهاية الامتحانات.
وأوضح المصدر ذاته أنه جرى تحويل 15 طالباً حتى الآن إلى لجان تحقيق مختلفة بشأن تورطهم في أعمال غش منذ انطلاق الامتحانات، مشيراً إلى أن هؤلاء الطلاب يُكملون الامتحانات في لجان خاصة، وسيتم التحقيق معهم عقب انتهائها، ومن المتوقع أن تصدر بحقهم عقوبات تصل إلى الحرمان من دخول الامتحانات لمدة عامين.
وأشار المصدر إلى أن الوزارة كانت لديها خطة للتشويش على لجان امتحانات الثانوية العامة، لكن لم تلقَ قبولاً من جهات رسمية بسبب ارتفاع أسعار تلك الأجهزة، ويتطلب الأمر ميزانية تتجاوز 100 مليون جنيه.
وأضاف أنه جرى شراء أجهزة مهمتها اكتشاف سماعات الأذن، ويتم تمريرها على الطلاب أثناء انعقاد الامتحان، إلى جانب شراء أكثر من 10 آلاف عصا إلكترونية جديدة لتفتيش الطلاب قبل بدء الامتحانات، هذا بالإضافة إلى تركيب كاميرات داخل غالبية اللجان ومتابعتها من داخل غرف عمليات تشكلها الوزارة بشكل مركزي، وكذلك داخل المديريات التعليمية في المحافظات.
لكنه شدّد في الوقت ذاته على أن بعض اللجان غير مراقبة بالكاميرات مع التوسع في عدد اللجان هذا العام، وإجرائها في لجان تتبع مدارس إعدادية وابتدائية غير مراقبة.
الحكومة والأوضاع الاقتصادية.. أحد ركائز منظومة الغش الجماعي
تداولت صفحات مخصصة للغش على مواقع التواصل الاجتماعي أسئلة امتحان الفيزياء والتاريخ لطلاب الثانوية العامة المصرية، بعد مرور دقائق معدودة من بدء الامتحان يوم الخميس.
وقررت وزارة التربية والتعليم فتح تحقيق حول واقعة التسريب، وتتبع الصور المتداولة أملاً في الوصول إلى مصدرها، مشددة على تطبيق العقوبات المقررة ضد الطلاب المسربين.
وقال خبير تربوي إن الحكومة المصرية مسؤولة عن انتشار ظاهرة "شراء اللجان" هذا العام، لأنها لم تتعامل مع عملية انتشار الغش خلال السنوات الماضية، وفشلت في وضع الضوابط لحلها، وتركت المسألة تتمدد إلى أن وصلت إلى الحد الذي نجحت فيه عشرات اللجان في تسهيل منظومة الغش بشكل جماعي داخلها.
كل هذا ينعكس على نتائج الطلاب التي ستكون متقاربة الدرجات في هذه اللجان، مشيراً إلى أن ما يحدث في الامتحانات هو فساد فجّ، وليس عملية غش، لأن هناك أطرافاً عديدة تتورط في الغش، بدءاً من الجهات الأمنية التي تتقاعس عن عملها، وهي مسؤولة بشكل غير مباشر، مروراً بوزارة التربية والتعليم التي لا تتعامل بالجدية الكافية مع الغش، وكذلك المسؤولين النافذين الذين يهدفون إلى أن تظل امتحانات الثانوية بهذه الطريقة دون تغيير لكي يتمكنوا من تسهيل مهمة الغش على أقرانهم.
وأوضح أن أعضاء البرلمان في السابق كانوا يركّزون جهودهم على تظبيط لجان امتحانية تتبع المدارس الخاصة، وتربّحوا ملايين الجنيهات من مسألة نقل الطلاب إلى مدارس بعينها، تضاعفت مصروفاتها، وكانت تضع الطلاب داخل لجان عُرفت باسم "لجان أولاد الأكابر"، قبل أن تتدخل وزارة التربية والتعليم لتشكيل لجنة بمعرفتها تمنع التحويلات في المرحلة الثانوية.
وأصبح السبيل الآخر شراء ذمم المعلمين الذين يعانون من أوضاع اقتصادية صعبة، ولا يحصلون على مكافآت امتحانية جيدة نظير الجهد الضخم الذي يبذلونه لتنظيم عملية الامتحان، وهو ما ينعكس على زيادة أعداد المعتذرين عن المشاركة في أعمال الامتحان.
وذكر أن انتشار الغش جعل الطلاب وأولياء أمورهم يؤمنون بحقهم في الغش أيضاً، في ظل السباق المحموم على حجز مقاعد في الجامعات الحكومية المجانية التي تقلصت هذا العام، مع تفوق الجامعات الأهلية بمصروفات، وكذلك الجامعات الخاصة والدولية.
وبالتالي، فإن دفع بضعة آلاف من الجنيهات في الصف الثالث الثانوي لتسهيل عملية الغش من جانب أسر الطلاب وأولياء الأمور، يبقى أفضل حالاً من دفع مئات الآلاف من الجنيهات سنوياً في الجامعات الخاصة.
وأكد أن غياب المحاسبة المجتمعية أو القانونية للطلاب الغشاشين وأهاليهم، يدفع نحو مزيد من التسيّب في لجان امتحانات الثانوية العامة (البكالوريا)، وهناك رغبة جامحة في المجتمع نحو تنجيم الفاسدين، والذين حصلوا على أحكام نهائية في قضايا جنائية تمس السمعة والشرف، وبالتالي هناك قناعة بأن من يقوم بالغش يتم حمايته من جهات مختلفة، بل يتم إبرازه كنموذج ناجح، كما هو الوضع بالنسبة لبعض رجال الأعمال المشاهير في مصر، الذين سبق ارتكابهم جرائم جنائية سابقة.
ولفت إلى أن شعور الأب بأنه أنفق آلاف الجنيهات طوال السنة في الدروس الخصوصية وشراء الكتب وملازم المراجعات، يدفعه للشعور بالحاجة إلى تعويض ذلك بنجاح الابن في الامتحانات، ولو بالغش.
كما أن وزارة التربية والتعليم تغيّبت، ولم تلتزم بدورها في تعليم الطالب داخل المدرسة، وتركته فريسة لمعلمي الدروس الخصوصية، وهو ما يجعل هناك نقمة على كل ما يرتبط بالجهد الحكومي في مكافحة الغش.