فيما تواصل أجهزة الأمن الإسرائيلية نشر المزيد من تحقيقاتها الخاصة بإخفاقها في التصدي لطوفان الأقصى، تناولت العديد منها مسألة غاية في الحساسية، وتتعلق بما تواجهه هذه الأجهزة من صعوبة في تجنيد العملاء لها في قطاع غزة.
وتقول التحقيقات الإسرائيلية إن إخفاقها بسبب أن عملية جمع المعلومات الاستخباراتية من غزة تضرّرت خلال السنوات الأخيرة نتيجة التضييق على تحركات المخابرات الإسرائيلية في القطاع. كما أن الصعوبات التي واجهت المخابرات الإسرائيلية على الأرض في غزة، أدّت لنشوء فجوات في تجنيد وتشغيل عملاء كان يمكن أن يشهدوا تحركات استثنائية، كانت كفيلة بمعرفة الخطة وإحباطها.
تُسلّط هذه الاستنتاجات الإسرائيلية الضوء على هذه المسألة بالذات، وتطرح أسئلة حول طبيعة الصعوبات التي تواجهها المخابرات الإسرائيلية في تجنيد العملاء داخل غزة، قبل ذلك الهجوم، وخلال الحرب على غزة.
بالإضافة إلى كيف يتم تجنيدهم أصلاً، وإلى أي مدى نجحت حماس في تجفيف منابع المعلومات الاستخباراتية للأمن الإسرائيلي في غزة، وماذا عن تجنيد العملاء المزدوجين بينهما، وحقيقة ما قيل عن التضليل الاستخباري الذي مارسته حماس على إسرائيل.
دوافع العمالة
مصدر أمني مسؤول في غزة، أبلغ "عربي بوست"، أن المخابرات الإسرائيلية استأنفت خلال الحرب عملية تجنيد العملاء في غزة، وهذه المرة عبر منصات مشبوهة جديدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي حملت أسماء مختلفة، بعضها يدّعي تقديم مساعدات مالية وعينية، أو توزيع أرصدة مجانية، وصفحات تُعلن عن وظائف وهمية.
لكن بعد المتابعة والتدقيق من أمن المقاومة، تبيّن أن الصفحات تتبع للمخابرات الإسرائيلية، حيث يُديرها ضباطها بشكل مباشر، بهدف استدراج الفلسطينيين الذين يعانون ظروفًا معيشية قاهرة للوصول لأكبر قدر من المعلومات، وتجنيد وإسقاط عملاء جدد، وبث الأكاذيب والإشاعات المغرضة التي تهدف لإثارة الفوضى في الشارع الفلسطيني.
لا يُخفي ضباط الأمن الإسرائيليين أن تشغيل العملاء في غزة، خاصة بعد الحرب، مسألة معقدة للغاية، بل قد تكون أكثر تعقيدًا من نظيرتها في إيران، بسبب الكثافة السكانية، والبنية العشائرية، مع أن اتساع رقعة الفقر في غزة ليس عاملاً مباشرًا لتجنيد العملاء، الدافع الاقتصادي مهم، لكنه ليس الوحيد.
في الوقت ذاته، تتلخص المهمة الأساسية للعميل أو المُخبِر أو الجاسوس، في تحديد الأهداف المرشحة للتصفية مثل كبار المسؤولين في حماس، وأنفاق إنتاج الأسلحة، ونشطاء المقاومة الذين يتجولون في قطاع غزة وهم يرتدون ملابس مدنية، حيث ينقل هذه المعلومات إلى جهة اتصاله الإسرائيلية، ولكن لا ينقلها أبدًا عبر الهاتف أو أي جهاز آخر، خشية أن يتم الكشف عنها.
تعترف محافل الأمن الإسرائيلية أن تجنيد العملاء عملية طويلة ومعقدة، تبدأ أولًا بالبحث عن نقاط ضعفهم المباشرة، وما يحتاجونه: هل هي أموال، أم تصريح دخول لإسرائيل، أم علاج عاجل لطفله في مستشفى إسرائيلي، على أن يتم تكليفهم بمهام حساسة متعلقة بسير الحرب في غزة.
ومن الحالات المشهورة في غزة لعميل تم القبض عليه أثناء الحرب، حيث طلبت منه المخابرات الإسرائيلية المرور في بعض المناطق، وقد أعطاه مُشغّله حذاءً يحتوي على شرائح إلكترونية قادرة على مسح هذه المناطق التي يمرّ بها، وعميل آخر قدم للشاباك خريطة للمواقع العسكرية المنتشرة للمقاومة في غزة، مما ساعد بتحديد القنابل التي يجب على القوات الجوية استخدامها لتدمير هذه المواقع.

في الوقت ذاته، فإن فشل المخابرات الإسرائيلية في تجنيد المزيد من العملاء، لاسيما في مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر، لتزويدها بمخططات حماس لا يبدأ وينتهي في ذلك اليوم، بل هو فشل مستمر، ويعود أساسًا إلى تراجع اعتمادها على الاستخبارات البشرية، بعد أن دأبت خلال العقود الماضية على توجيه جلّ اهتمامها نحو هذه المصادر، المعروفة باسم العملاء والجواسيس، لأنه من خلالهم كانوا يعرفون بالضبط ما كان يحدث داخل الأراضي الفلسطينية.
بل إن بعض هؤلاء العملاء يعرفون مناطقهم الجغرافية مثل كفّ يدهم: من يعيش فيها من الفلسطينيين، وأين يسكنون، وتاريخ العائلات فيها، والشخصيات "الإشكالية" التي تحتاج للمزيد من المراقبة.
كما أن العملاء يكون لديهم عادة ملفات شخصية عن: صالون الحلاقة، محل البقالة، وعامل النظافة، ممن يحوزون على معلومات تفصيلية عن كل ما شهدته المنطقة في الساعات الأخيرة.
لكن كل ذلك فقدته المخابرات الإسرائيلية في السنوات الماضية، لأنها أهملت العنصر البشري من العملاء، والنتيجة هي انخفاض عدد مصادر الاستخبارات البشرية في قطاع غزة بنسبة 50% بين عامي 2012-2023.
وسائل الإسقاط
أعلنت حماس منذ سيطرتها على غزة في 2007 أنها بصدد إنهاء ظاهرة ارتباط بعض الفلسطينيين بأجهزة المخابرات الإسرائيلية، وهو ما لاقى ترحيباً من عموم المواطنين من جهة، وتساؤلاً من جهة أخرى عن مدى القدرة على تحقيق هذا التعهد.
لأن الشعور السائد في الأراضي الفلسطينية يؤكد أن الاستعداد الإسرائيلي لأي حرب قادمة لابد وأن يستند لما يجمعه العملاء من معلومات أمنية يسميها الجيش "بنك الأهداف"، في ضوء اعتباره لهؤلاء العملاء عينه وأذنه على المقاومة.
مع العلم أن جيش الاحتلال أدرك أن امتلاكه للتكنولوجيا العسكرية والأمنية، لا يغنيه عن العملاء على الأرض، حتى باتت عملياته الميدانية رهناً بنجاحه في إدارتهم، مما جعل أجهزته الاستخبارية تركز معظم اهتماماتها على هذا الجانب، وترصد له المبالغ الطائلة، عبر "إدماج" العملاء وصهرهم في الواقع المحلي، لكسر الحاجز النفسي بين الفلسطيني والمحتل.
وقد اجتهدت المخابرات الإسرائيلية في البحث عن وسائل إسقاط الفلسطينيين في شباكها، والتجسس لصالحها، ودأبت على التنويع في الآليات المستخدمة، وعملت دوماً على تطويرها وتحديثها، معتمدة على توارد المعلومات وتحليلها، ومن ثم وضع الخطط، واتخاذ الإجراءات اللازمة للنيل من المقاومة، وإلحاق الأذى بها على المستويات النفسية والمادية والبشرية، وضرب روحها المعنوية والقتالية.
تُجري أجهزة المخابرات الإسرائيلية عدة لقاءات دورية "وجهاً لوجه"، أو اتصالات "هاتفية تقنية" متفاوتة مع عملائها، بغرض تبادل الآراء والمعلومات، وإحداث ثقة متبادلة بينهما، وتوجيههم ونقل التعليمات إليهم على الأرض، خاصة في أوقات المواجهات العسكرية، وتوصيل المعلومات الهامة منهم لضباط المخابرات.
حيث يمتاز الاتصال معهم والالتقاء بهم بالسرية التامة خشية انكشاف بعضهم، مما دفع المخابرات الإسرائيلية لاستغلال سعة انتشار أجهزة الجوال، والإنترنت، وسهولة استخدامها، وتوفيرها لكلفة أمنية ومالية رخيصة مقارنة بباقي الوسائل.
وتكون لغة التخاطب بالعادة أثناء الاتصال بين العميل ومشغله الإسرائيلي "العربية والعبرية"، كما تستخدم "الشيفرة" في الكناية عن كلمات معينة، أرقام خاصة، وأسماء مموهة، فيقوم العملاء بإرسال المعلومات الطارئة والعادية والسرية لمسئوليهم، بطرق حديثة كالإنترنت بـ"الماسنجر والبريد الإلكتروني"، أو النقاط الميتة.
وقال نفس المصدر الأمني في غزة لـ"عربي بوست": "تم رصد تقنية جديدة للاتصالات يستخدمها العملاء خلال الحرب، بحيث لا يسجل الجهاز أي علامات أو دلائل تواصل سابق مع الضابط في حال ضبطه من قبل أمن المقاومة".
وقال إن التقنية الجديدة عبارة عن شريحة تشبه شريحة الهاتف تستخدم لمرة واحدة في الجهاز المحمول، ثم يتم إتلافها بعد برمجتها على الجهاز، وبذلك يصبح الجهاز جاهزًا للاستخدام، وتلقي اتصالات الضباط دون وجود أي شريحة بداخله، وهذه التقنية الجديدة لا تثير الشك في حال وقوع الهاتف في يد أي شخص غير العميل".

العمى الاستخباري
الجهاز الأمني الإسرائيلي الأكثر اضطلاعاً بموضوع العملاء في غزة هو جهاز الأمن العام- الشاباك، الذي كشفت تحقيقاته الأخيرة وقائع جديدة ساهمت في الفشل الاستخباري الذي سبق هجوم أكتوبر، ومن ضمنها تضليل المصادر البشرية، وهو المصطلح الاستخباري للعملاء، الذين لم يتمكنوا في ليلة الهجوم من تقديم المعلومات المطلوبة.
لأن عدداً محدوداً من هذه المصادر لم يكن فعّالاً، بل إن أحد العملاء كذب على مُشغّله ضابط المخابرات الإسرائيلي، بينما لم يكن مصدر آخر على دراية بخطط حماس الهجومية، في حين أن آخرين لم يتمكنوا من التواصل، أو لم يجيبوا على الاتصالات الواردة إليهم من مُشغّليهم في المخابرات الإسرائيلية.
لا يعتبر هذا الإخفاق الأمني الإسرائيلي المتعلق بالفشل في تجنيد العملاء في غزة وليد اللحظة، بل يعود إلى سنوات طويلة مضت، كلها أثّرت على شُح جمع المعلومات الاستخبارية، ومن بينها العملية التي نفذتها وحدة أمنية خاصة في خانيونس جنوب قطاع غزة عام 2018، وانتهت بكشفها من قبل المقاومة.
إضافة لغياب حرية الحركة داخل غزة لتجنيد العملاء، وتشغيلهم، عقب اغتيال إسرائيل للقيادي العسكري في حماس، مازن فقهاء في غزة عام 2017.
وشكّلت هذه الأحداث عوامل مباشرة أدّت إلى تراجع المصادر الاستخباراتية البشرية داخل غزة، مما أثر على قدرة الاحتلال في الحصول على معلومات مسبقة حول الهجوم. وكل ذلك ساهم في إخفاق الشاباك بالتحذير من ذلك الهجوم، بسبب ما يعتبرها القيود المفروضة على عمله داخل القطاع، وكلّها أدّت لتراجع جودة المعلومات الاستخباراتية، لأنه لو نجح الشاباك باستغلال عملائه في غزة بالصورة المثلى، لكان الأمر كفيلاً بتوفير صورة أمنية أوضح عما تخطط له حماس، لكن ذلك لم يحصل أبداً.
وفي النهاية، فقد أثبتت تحقيقات الشاباك فشله في معرفة خطة حماس الهجومية، ولم يتعامل مع خططها لاجتياح مدن إسرائيلية باعتبارها تهديدًا جديًا أو محتملاً، رغم عدم استهانته بالحركة، وعدم اعتقاده أنها رُدِعت، وإن كان فشل في نهاية المطاف في توقّع ما جرى.
اعتماد التكنولوجيا على حساب العملاء
كشف الإخفاق الإسرائيلي أمام هجوم حماس في السابع من أكتوبر، ويوميات الحرب في غزة لاحقًا، أنه من بين آلاف المقاومين الذين نفّذوا ذلك الهجوم، لم يستطع عميل واحد في غزة إثارة ناقوس الخطر، مما حطّم مفهوم الأمن الإسرائيلي في الاعتماد الحصري على وسائل التكنولوجيا.
وفي الوقت ذاته إهمال العنصر البشري المتمثل في العملاء، الأمر الذي دفع الوحدة الاستخبارية "504" لاستخلاص دروس الفشل، واتخاذ قرار بالعودة للعمل في غزة بعد غياب دام عشرين عامًا منذ الانسحاب منها في 2005، في محاولة منها لإعادة بناء نظام الاستخبارات البشرية، رغم ما يواجهها من تحديات كبيرة، لأن حماس تقف لهذه المحاولات بالمرصاد، وتُحبِط أي جهد إسرائيلي مضاد.
الغريب أن الشاباك لديه عشرات، إن لم نقل المئات من عملائه المنتشرين في قطاع غزة، لكن أيًّا منهم لم يُعطِ أي تحذير بشأن هجوم حماس، مما دفعه للشروع في تحقيقات مكثفة لمعرفة السبب وراء ذلك.
رغم الإدراك الإسرائيلي بفشل تسلّل العملاء إلى صفوف الحركة، سواء لأنها منظمة أيديولوجية، أو لأنها تفرض عقوبات صارمة على كل من يثبت تورطه مع المخابرات الإسرائيلية، رغم ثبوت بعض الحالات الفردية.
النتائج الأولية لتحقيقات الشاباك كشفت أن أقلّية من هؤلاء العملاء كانوا يتجولون داخل إسرائيل، لكنهم لم يخدموها حقًا، كما أن معظمهم كانوا ضعفاء ببساطة، ولم يعرفوا سوى الجزء الخارجي من الحركة وذراعها العسكري، دون قدرتهم على الوصول إلى نخبتها، أو صناع القرار فيها.
مع أنه منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة، أصبح من الصعب للغاية تشغيل العملاء عن بُعد في منطقة مزدحمة ومريبة مثل القطاع؛ ولذلك، بنت المخابرات الإسرائيلية آليات تحذير تكنولوجية بديلة للعملاء لكنها لم تنجح في إيقاظ المنظومة الأمنية، من خلال إصدار تحذير عن نشاط غير عادي لحماس، مما دفع الشاباك لإجراء تحقيق معمّق في قضية تشغيل العملاء، التي شكلت واحدة من أخطر إخفاقاته في منع هجوم حماس.
أكثر من ذلك، فقد كشفت وقائع الحرب الجارية في غزة منذ أكثر من خمسمائة يوم، أن حماس نجحت بتشغيل عميل مزدوج، بحيث تعمل على تجنيد العملاء العاملين مع المخابرات الإسرائيلية، والطلب منهم التعرّف على المهمات التي يتلقونها، لاسيما من أولئك العمال الذين حصلوا على تصاريح عمل داخل إسرائيل.
هذا الأمر الذي منح حماس استخبارات بشرية عالية الجودة، قادرة على تقديم التقارير إليها حول كل أساليب الأمن الإسرائيلي، في محاولة منها لجمع معلومات استخباراتية أفادتها كثيرًا في هجومها التاريخي من جهة، ومن جهة أخرى منحتها أفضلية أمنية في خوض المواجهات الدائرة مع جيش الاحتلال في أعماق غزة.
العملاء المزدوجون
وفيما طوّرت المخابرات الإسرائيلية ما أسمتها "الأداة"، باعتبارها "الأخ الأكبر" الذي يرصد كل حركة في غزة، وكل مكالمة يتلقاها أفراد حماس، وبات صعبًا أن يقوم فلسطيني واحد في غزة بأي عمل يفلت من أعين هذه الأداة، أو هكذا تخيل ضباط الشاباك، الذين زعموا حيازة الجهاز لبنية تحتية متكاملة تسمح بتلقّي البيانات من مصادر لا حصر لها، حتى أنها تصل "مليارات" السجلات يوميًا، بحيث أن العين البشرية لا تستطيع التعامل معه، من خلال الاستعانة بقدرات الذكاء الاصطناعي، والقدرات الخوارزمية الكلاسيكية، وفي الوقت نفسه لم تحصل القدرات البشرية المتمثلة بالعملاء على ذات الاهتمام.
وبدا غريبًا أن جهاز الشاباك اعتقد نفسه، قبل هجوم حماس، أن سيطرته الاستخباراتية على غزة اقتربت من نظيرتها في الضفة الغربية، لكنه في الوقت ذاته لم يُخفِ خشيته من نجاح حماس عقب سيطرتها على غزة في 2007 في إحباط جهود إسرائيل التجسسية، مع التركيز على كشف المتعاونين "العملاء".
وقد نجحت في حالات كثيرة، مما جعل العمل الاستخباراتي البشري المتمثل بتجنيد العملاء، وتنفيذ أوامر العمليات في غزة أكثر تعقيدًا، وشكل ذلك بمثابة ضربة قوية للاستخبارات الإسرائيلية، التي لن يتمكن منسّقوها من إنقاذ عملائها في غزة، وهم يلقون القبض عليهم، واحدًا تلو الآخر.
تضارب الأجهزة
نقطة أساسية في المعيقات التي تعترض عمل المخابرات الإسرائيلية، بجانب جهود حماس الأمنية، تتعلق بعدم التنسيق الحاصل بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، صحيح أن الشاباك هو الجهاز الأكثر اضطلاعًا بمهمة تجنيد العملاء في غزة، لكنه ليس وحده، فهناك جهاز الاستخبارات العسكرية- أمان، التابعة للجيش مباشرة، وقد أدار الجهازان مهامهما في تجنيد العملاء بنوع من الانسجام النسبي، لكن السنوات الأخيرة شهدت دخول لاعب جديد على خط تجنيد العملاء في غزة ممثلًا بجهاز الموساد، الذي أعدّ بنية تحتية استخباراتية في غزة.
ورغم أن الموساد مُكلّف أساسًا بحماية إسرائيل من وراء الحدود، وليس داخلها، لكن دخوله إلى ساحة غزة شكل قرارًا دراماتيكيًا، وغير مسبوق، قبل أن يعلن الشاباك وأمان الفيتو عليه، مما اضطره للانسحاب منها.
مع العلم أن عمل هذه الأجهزة الثلاثة في مهمة حساسة واحدة، تتمثل بتجنيد العملاء، وتشغيلهم، وداخل منطقة مثل قطاع غزة، الكثيفة للغاية، مما أوجد نوعًا من عدم التنسيق، في ضوء أن تزايد قوة حماس منحها القدرة على تطوير آليات تجسس مضادة فعّالة للغاية، مما قلّل تدريجيًا من قدرات إسرائيل على جمع المعلومات في قطاع غزة، وبالتالي فإن الصعوبة الإسرائيلية الهائلة في تشغيل العملاء في قلب قطاع غزة ليست خارجية فحسب، بل داخلية أيضًا، وهي على ما يبدو "معارك الأنا" بين أجهزة الأمن.
الاستنتاج الإسرائيلي مما يسمى "صراع الأدمغة" مع حماس، تمثل في أن هجوم الحركة على مستوطنات غلاف غزة، وما تلاها من حرب ضارية شهدتها أراضي قطاع غزة، كشف عن حجم الضرر الذي لحق بقدرات الاحتلال الاستخباراتية، مما أدى لإحداث تأثير دومينو سيئ للغاية من وجهة نظر الاستخبارات الإسرائيلية، حيث تم الكشف عن عملاء مهمّين لها، ووسائلها التجسسية، وكيف تتنصّت على حماس، وما هي طرق تجنيد العملاء في غزة.
لكن نشوء حالة من غطرسة الاستخبارات الإسرائيلية، بجانب الخسارة الفعلية للقدرات الأمنية، ألحق ضررًا كبيرًا بجودة المعلومات الأمنية الواردة من العملاء المنتشرين في غزة، والنتيجة نجاح حماس في تهريب قدرات استخباراتية إلى غزة ساعدتها باختراق هواتف وكاميرات الجنود في مستوطنات الغلاف، وإجراء تشفير على شبكاتهم الخاصة، مما ساعد في نجاح هجوم الطوفان، الذي جاء نتيجة طبيعية للحدّ من استخدام العناصر البشرية، العملاء، وتوجيه أغلب الموارد للوسائل التكنولوجية.

التجسّس المضاد
وقد كشفت مداهمة قام بها جهاز الشاباك لمقار حماس في غزة عقب اجتياحها أن الحركة دأبت على الاتصال بعملاء إسرائيليين يهود لها داخل إسرائيل، عقب إغرائهم بالمال، حيث استغلهم نشطاء الحركة كمساعدين لنقل الشحنات، وتدريبهم على المساعدة بنقل المتفجرات أو الأسلحة لغرض تنفيذ هجمات ضد أهداف ذات قيمة عالية في إسرائيل.
وفي وقت لاحق، تم الكشف عن معلومات حول يهود إضافيين كانوا على اتصال بملفات تعريف وهمية على الفيسبوك يديرها نشطاء حماس، يتظاهرون بأنهم إسرائيليون يعيشون في الخارج، ويبحثون عن رسل لتنفيذ مهام مختلفة في جميع أنحاء إسرائيل مقابل أجر، وبعد أن بدأ الاتصال عبر الفيسبوك، استمرت الاتصالات بين العملاء اليهود وحماس عبر تطبيق واتساب، حيث رفض نشطاء الحركة في غزة إجراء مكالمات هاتفية حتى لا يتم الكشف عن هويتهم التنظيمية، وأداروا الاتصال عبر المراسلات فقط.
في المقابل، وفي خضم الحرب الطاحنة في منطقة مثل قطاع غزة، مزّقتها الحرب بلا نهاية في الأفق، دخل عملاء الشاباك تحت ستار من السرية، وساروا على أرض قطاع غزة لأول مرة منذ عشرين عامًا، في ظل مخاطر ملموسة، لتنفيذ مهمة أساسية تتمثل بتجنيد ونشر عملاء ومصادر جديدة، بغرض التحقق من الشخصيات في الميدان، وإنتاج المعلومات الاستخباراتية في الوقت الحقيقي، وجمع تفاصيل أكثر حميمية، وبناء صورة استخباراتية من أجل إنتاج ما تسمى "الأخبار الذهبية" التي تؤدي في النهاية لاغتيال أكبر عدد ممكن من قادة المقاومة وكوادرها، عقب تحمّل العملاء عبء الفشل الذريع والمدوي الذي حدث في السابع من أكتوبر.