بينما كانت تحتفل الجزائر بالذكرى الـ70 لاندلاع ثورة التحرير، خرج قصر الإليزيه ببيان أعلن من خلاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لأول مرة أن عسكريين فرنسيين قتلوا القيادي في جبهة التحرير الوطني وأحد رموز حرب التحرير الجزائرية العربي بن مهيدي.
وذكر بيان لقصر الإليزيه أن رئيس الجمهورية "يعترف اليوم بأن العربي بن مهيدي، البطل الوطني للجزائر وأحد قادة جبهة التحرير الوطني الستة الذين أطلقوا ثورة الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، قد قتله عسكريون فرنسيون كانوا تحت قيادة الجنرال بول أوساريس".
لكن التوقيت الذي جاء فيه هذا الاعتراف يثير أكثر من علامة استفهام في ظل العلاقات المتوترة بين باريس والجزائر، كما فتح نقاشًا بشأن الأهداف الحقيقية لاعتراف ماكرون، وما إذا كان يريد أن يجنب الدولة الفرنسية مسؤولية اغتيال بن مهيدي بتحميلها لشخص بعينه.
لماذا اعترف ماكرون بالجريمة الآن؟
خطوة الاعتراف باغتيال العربي بن مهيدي ليست فقط بادرة رمزية، بل هي جزء من مسار أوسع بدأته فرنسا في السنوات الأخيرة للاعتراف ببعض من الانتهاكات التي ارتكبت خلال حرب الجزائر، بما في ذلك التعذيب والإعدامات خارج نطاق القانون، التي طالت العديد من قادة الثورة والشخصيات الوطنية الجزائرية.
وحسب مراقبين، فإن الاعتراف الذي جاء في بيان إيمانويل ماكرون يأتي في سياق مساعي الرئيس الفرنسي لتحقيق مصالحة مستدامة مع الجزائر بشأن ملف الذاكرة المشتركة الذي طالما شكّل نقطة خلافية أثارت الكثير من التوتر بين البلدين.
كما أن التوقيت الذي أتت فيه الخطوة يطرح أيضًا عدة تساؤلات، إذ عقبت زيارةَ ماكرون إلى المغرب حيث جدد موقف بلاده الداعم لسيادة الرباط على إقليم الصحراء الغربية، الأمر الذي أثار غضب الجزائر ووسع الهوة بين الطرفين.
الرئيس الفرنسي إذن من خلال اعترافه بمسؤولية مسؤول عسكري فرنسي بالوقوف وراء اغتيال العربي بن مهيدي "يرمي إلى تحقيق توازن دبلوماسي ومنح قصر المرادية ضمانات بشأن تمسك باريس بالعمل على ملف تاريخ الحقبة الاستعمارية الأليمة، رغم الخلافات".
لكن في الجزائر، قوبل الاعتراف بصمت رسمي، باستثناء بيان لحزب جبهة التحرير الوطني الذي رحب ببيان الإليزيه، فيما أبدى مثقفون ونشطاء استياءهم مما قالوا إنه توظيف للدولة الفرنسية للذاكرة خدمة لأجندتها السياسية ولتلميع صورتها.
في هذا السياق علق الدبلوماسي والوزير الجزائري السابق على اعتراف الرئيس الفرنسي باغتيال العربي بن مهيدي، بالقول: "إن ماكرون سعى إلى إفساد الاحتفال الكبير في الأول من نوفمبر من خلال الاعتراف بجريمة واحدة من أصل مليون جريمة".
كما أن شقيقة العربي بن مهيدي، ظريفة بن مهيدي اعتبرت في تصريح لـ"عربي بوست" أن خطوة إيمانويل ماكرون "جاءت متأخرة ولن تزيد الملف إلا تعقيدًا"، وأضافت ظريفة أن "الجهة التي قتلت شقيقي العربي كانت معروفة".
وتساءلت المتحدثة مستنكرة "لماذا لا تعترف فرنسا بكل جرائمها التي ارتكبتها في حق الملايين من الشهداء، وليس اعترافات بالتقسيط بين الفينة والأخرى. فرنسا مارست أبشع أصناف القمع والتعذيب ضد المناضلين والمقاومين، ونحن نطالب بالاعتذار عن ذلك كله". "أؤكد وأكرر، خطوة ماكرون لا معنى لها ولن تزيد الملف إلا تعقيدًا" تخلص ظريفة بن مهيدي.
اعتراف باغتيال "بطل قومي"
هذا الإقرار الأخير سبقه رفع الرئيس الفرنسي سنة 2018 السرية عن ظروف وملابسات وفاة الناشط الشيوعي، موريس أودين، الذي عذبه الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير الجزائرية واختفى دون أن يترك أثرًا عام 1957 في الجزائر العاصمة.
وبعد ثلاث سنوات، اعترف الرئيس الفرنسي أيضًا بمسؤولية بلاده في مقتل البطل القومي علي بومنجل الذي اعتقله الجيش الفرنسي، وعذبه، ثم قتله في 23 مارس/آذار 1957، متراجعًا بذلك عن الرواية الفرنسية بأنه انتحر، كما استقبل أحفاد بومنجل لتصحيح هذا الخطأ.
من جانبه، اعتبر حزب جبهة التحرير الوطني "FLN"، أن اعتراف ماكرون باغتيال العربي بن مهيدي "خطوة في سبيل حل ملف الذاكرة، إلا أنها تحتاج إلى قدر كبير من الجدية والإنصاف، وأيضًا إلى إرادة حقيقية تقضي بالتحرر من الفكر الاستعماري البائد لحل كل المسائل المتعلّقة بهذا الملف".
وذكر الحزب في بيان له بتصريح سابق للرئيس عبد المجيد تبون، أكد فيه أن مسألة الذاكرة "تحتاج إلى نفسٍ جديد من الجرأة والنزاهة للتخلص من عقدة الماضي الاستعماري، والتوجه إلى مستقبل، لا إصغاء فيه لزراع الحقد والكراهية، ممن مازالوا أسارى الفكر الاستعماري البائد".
وأكد "حزب جبهة التحرير الوطني"، الثلاثاء 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أن ملف الذاكرة الذي يعد في صميم انشغالات الجزائر لا يقبل التنازل ولا المساومة، لافتًا إلى تمسك الجزائر بمعالجة هذا الملف معالجة موضوعية ومنصفة للحقيقة التاريخية.
وشدد الحزب على ضرورة "اعتراف فرنسا الرسمية بكل الجرائم الاستعمارية المرتكبة في حق الشعب الجزائري على مدار 132 عامًا من الاحتلال الغاشم".
"القاتل" يعترف باغتيال العربي بن مهيدي
يعد العربي بن مهيدي رمزًا بارزًا للمقاومة الجزائرية وشخصية تحظى باحترام واسع في الجزائر. أُسِر عام 1957، وتعرض للتعذيب قبل إعدامه، وفقًا للمؤرخين. وسنة 2001، أقر الجنرال الفرنسي بول أوساريس، الذي كان قائدًا استخباراتيًا بالجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر.
في مذكراته التي حملت عنوان "الخدمة الخاصة: الجزائر 1955-1957″، أقر الجنرال أوساريس بتورطه في أعمال التعذيب والإعدام ضد مناضلين جزائريين، ومنهم رمز الثورة الجزائرية العربي بن مهيدي.
أوساريس اعترف بأن العربي بن مهيدي قُبض عليه وتم تعذيبه بشدة، ثم أُعدم خنقًا في زنزانته. بعد ذلك، زُعم أن موته كان نتيجة "انتحار"، إلا أن أوساريس أكد أن موته كان إعدامًا مقصودًا. وكشف أن أوامر التعذيب والإعدام جاءت من القيادة العليا للجيش الفرنسي، واعتبرها جزءًا من أساليب "مكافحة التمرد".
وادعى أوساريس أن هذه الممارسات كانت تُنفذ بموافقة الحكومة الفرنسية وقتها، الأمر الذي أثار ضجة كبيرة داخل فرنسا، حيث أدانت محكمة فرنسية الجنرال السابق وصدر قرار بسحب أوسمته العسكرية، وشهد المجتمع الفرنسي جدلًا كبيرًا حول دور الجيش في تلك الحقبة.
"استفزاز مشاعر الجزائريين"
في الجزائر، شكل هذا الاعتراف صدمة ولكنه أكد ما كان يُعرف بالفعل عن الظروف القاسية لمقتل بن مهيدي، ما عزز المطالب الجزائرية بمزيد من الاعترافات والاعتذارات الرسمية.
حسب أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة الجزائر رضوان بوهيدل، فإن "ماكرون اختار الفاتح من نوفمبر لاستفزاز مشاعر الجزائريين لذلك تجاهلت السلطات الرسمية تصريحه".
"هو اعتراف وليس اعتذار عن ارتكاب جريمة حرب" يضيف المتحدث قبل أن يسترسل موضحًا "لا يعدو أن يكون ما فعله ماكرون امتدادًا لاستفزازات هذا المراهق السياسي التي ما فتئ يمارسها ضد الجزائر إرضاءً لأطراف أخرى باتت معروفة".
حسب بوهيدل، فإن ما قاله ماكرون: "لن يقدم ولن يؤخر، لأن الجميع كان يعرف منذ نحو سبعين سنة أن المقاوم العربي بن مهيدي سقط شهيدًا في ميدان الشرف تحت تأثير التعذيب، وهو أمر أقر به الجنرال أوساريس في مذكراته سنة 2001 حين اعترف بارتكابه الجريمة هو وجنوده".
يضيف المتحدث: "ماكرون استغل السياق العام واحتفال الجزائر بذكرى الثورة الجزائرية التي تمكنت من خلالها من إخراج المستعمر الفرنسي، الأمر الذي مازال إلى اليوم يزعج فرنسا التي فقدت كثيرًا من نفوذها بل كل نفوذها في الجزائر وفي الساحل الأفريقي".
من جهة أخرى، يرى بوهيدل أن "كل رؤساء فرنسا بمن فيهم إيمانويل ماكرون كانوا يتهربون من الاعتراف بالجرائم المختلفة في الجزائر طيلة 132 سنة إضافة إلى الثروات التي نهبت والموجودة في بعض متاحف فرنسا".
وأكد المتحدث أن "الجزائريون يطالبون بالاعتذار عن هذه الجرائم وليس الاعتراف فقط، وكذلك الحصول على تعويضات نظير ما تم ارتكابه. هذا إن لم تتخذ منظمات حقوقية إجراءات قانونية على المستوى الدولي لمحاسبة فرنسا باعتبارها مرتكبة حرب طيلة سنوات".
ويخلص المتحدث إلى أن "الجزائر ترفض فكرة اعتبار ما حدث جزءًا من الماضي، وتطالب باعتذار واضح ومباشر"، ثم يستدرك "لكن يجب ألا ننسى أن في فرنسا دولة عميقة لها تأثير كبير على الرؤساء، بمن فيهم ماكرون الذي لا يمكنه اتخاذ أي قرارات تتعارض مع نهجها، خاصة وأنها قادرة على إيقاف الحياة السياسية لو اقتضى الأمر".
لماذا ترفض فرنسا الاعتذار؟
طالما تجنبت فرنسا تقديم اعتذار رسمي للجزائر عن الجرائم المرتكبة إبان فترة الاستعمار، والسبب يرجع إلى ما قد يترتب عنه، وفي مقدمتها تلك المرتبطة بالجانب القانوني والمالي، إذ أن أي اعتذار رسمي قد يفتح الباب لمطالبات بالتعويض المالي من الجزائر أو حتى من الأفراد الذين تضرروا مباشرة من الانتهاكات، أو عائلاتهم.
هذه المطالبات قد تكون مكلفة لفرنسا على المستوى المالي، وقد تخلق سوابق قانونية تتطلب من فرنسا التعويض في سياقات استعمارية أخرى. ناهيك عن ذلك، يعد موضوع الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية ملفًا مثيرًا للجدل داخل فرنسا.
إذ إن هناك انقسامات عميقة بين اليمين واليسار حول هذا الموضوع. في حين أن اليسار الفرنسي يميل عمومًا إلى الاعتراف بأخطاء الماضي والدعوة للاعتذار، فإن اليمين (واليمين المتطرف خصوصًا) يعارضون أي اعتذار رسمي، معتبرين أنه تقويض لهيبة الدولة الفرنسية.
بدلاً من ذلك، اختارت باريس نهج الاعترافات الرمزية ولعل تصريح الرئيس ماكرون بكون الاستعمار "جريمة ضد الإنسانية" واعترافه بمسؤولية فرنسا عن مقتل بعض رموز الثورة الجزائرية، يمثل خطوات تصالحية لا ترقى إلى اعتذار رسمي يُلزم الدولة الفرنسية قانونيًا وأخلاقيًا.
حسب مختصين، فإن الاعتذار الرسمي قد يفتح الباب لمطالبات من دول متعددة، لذلك تفضل الدولة الفرنسية التحكم في العلاقة بشكل فردي مع كل دولة عبر الاعترافات الرمزية أو التعاون الاقتصادي والثقافي دون التزام مباشر.
مبادرة ماكرون، تبقى وإن كانت تحمل معاني رمزية قوية، خطوة متواضعة بالمقارنة مع المطالب الجزائرية بضرورة تقديم اعتذار كامل عن حقبة الاستعمار وتعويض الضحايا وأسرهم، الأمر الذي يعكس تعقيد العلاقات الفرنسية الجزائرية وحساسية ملف الذاكرة.