"استمر إضرابهم شهرًا كاملًا، فما كان من قوات الأمن إلا إلقاء القبض على 8 منهم، بينهم ثلاث سيدات، وإدراج اسم عاملتين أخريين، لم تكونا في منازلهما أثناء قيام قوات الأمن بمداهمة بيوتهم، فيما شهدت وقائع القبض عددًا من الانتهاكات، من بينها قيام قوات الأمن بإجبار النساء على النزول بملابس النوم".. هكذا انتهى حال العاملات والعمال بمصنع "وبريات سمنود" بمصر عند محاولتهم الحصول على الحد الأدنى للأجور المعلن عنه رسميًا في مصر.
بدأ ما يقرب من 900 عامل في مصنع "وبريات سمنود" بمصر من أصل ما يقارب الألف عامل جلهم نساء، إضرابًا عن العمل لمدة شهر انتهى باعتقال بعضهم، بسبب رفض رفع الحد الأدنى للأجور إلى 6 آلاف جنيه.
ولم تكن أحداث مصنع سمنود سوى واحدة من موجات غضب داخل عمال المصانع في مصر، فخلال شهر أغسطس/آب 2024، دخل عمال شركة "سيراميكا فينيسيا" في إضراب عن العمل لمدة أسبوع احتجاجًا على رفض الإدارة تطبيق الحد الأدنى للأجور، وتدني الحافز، وعدم صرف الأرباح بحجة مرور الشركة بأزمة مالية.
كما طالب عمال شركة النصر للغزل والنسيج والتريكو "الشوربجي" سابقًا بتطبيق الحد الأدنى للأجور، خصوصًا في ظل الارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات، وصرف البدلات "المخاطر، العدوى، والانتقال"، وصرف الحافز بنسبة 100% على أساس الأجر، وزيادة الأرباح السنوية من 5 أشهر لتصل إلى 12 شهرًا.
وفي السياق ذاته، تقدم عمال شركة الصلب للمناجم والمحاجر، والتي تضم محجر الواحات البحرية ومحجر بني خالد بالمنيا ومحجر الأدبية بالسويس، بطلبات لصرف ثلاث وجبات غذائية متكاملة، أسوة بباقي الشركات، وكما نص عليه قانون المناجم والمحاجر رقم 27 لسنة 1981 في المادة (23).
وأزمات العمال ليست قاصرة على هذا العام، فقد شهد العام الماضي 2023 عددًا من الاحتجاجات بالتزامن مع تصاعد الأزمة الاقتصادية وزيادة الأسعار وأزمة الدولار، حيث دخل العشرات من عمال مصنع سكر كوم أمبو في أسوان في إضراب مفتوح عن العمل، للمطالبة بزيادة أجورهم، وكذلك فعل عمال مصنع سكر أرمنت في الأقصر في اليوم التالي.
وبحسب ما رصدته دار الخدمات النقابية والعمالية، فقد تلخصت شكاوى العمال في المصنعين في مضاعفة المرتبات التي تتدنى إلى حدود 300 و500 جنيه في بعض الحالات، والزيادة السنوية التي اقتصرت على العلاوة السنوية وقيمتها التي تتراوح بين 21 و150 جنيهًا في حدها الأقصى للعامل.
وتشمل مطالبهم 20 بندًا، أبرزها: رفع البدل النقدي، والوجبة، والحافز، وضم العلاوات إلى أساسي الراتب، وزيادة شهور الأرباح، وتحريك سلفة غلاء المعيشة المتوقفة منذ سنوات.
بالإضافة إلى توقيع عقود مؤقتة للعمالة الموسمية، وتجديد مستجدات الحالة الاجتماعية للعمال، والنظر في التعاقدات الطبية، وتوفير العلاج للأمراض المزمنة، وتعديل بند إصابة العمل، وفترة نهاية الخدمة حسب المدة الفعلية للعمل، وعدم خصم 45% من المكافأة.
إذا على من يُطبق القانون؟
ولكن يبدو أن قرار الحد الأدنى للأجور لم يتم تطبيقه بشكل كلي في مصر، وذلك بحسب ما ذكره الدكتور شريف المصري رئيس الاتحاد المصري للنقابات العمالية في حديثه مع "عربي بوست".
وقال المتحدث "أولا حين النظر إلى الحد الأدنى للأجور المعلن وهو 6 آلاف جنيه – والمطبق بطريقة ارتجالية – نجد أنه فيما يخص القطاع الخاص فالقرار الذي صدر من المجلس القومي للأجور، وهو القرار رقم 27 لسنة 2024، فقد تم تفرغه من مضمونه".
وأوضح المصري فأن القرار يقول إننا نستثني المنشآت الصغيرة التي يعمل بها أقل من 10 أفراد، وبحسب بيانات جهاز الإحصاء بمصر، فإن عدد المنشآت المستثناة تمثل 92% من العاملين في مصر، وهذا يعني أنني أخرجت 92% من العاملين في القطاع الخاص الرسمي من الحد الأدنى للأجور.
وأضاف: "الأمر الثاني، فالقرار سمح للشركات أن تقدم طلب استثناء، ووضع مجموعة من الضوابط لها، وتقدمت بالفعل 1800 شركة بالفعل للاستثناء من الحد الأدنى للأجور، وذلك بحسب تصريح وزير العمل، وهو ما يعني أن العاملين في تلك الشركات خارج الحد الأدنى للأجور، والمتبقي من القطاع الخاص الرسمي داخل الحد الأدنى للأجور لم يطبق القرار إلا مجموعة صغيرة جدًا".
العدالة الاجتماعية حلم المصريين
ويشكل تحقيق العدالة الاجتماعية حلمًا رئيسيًا يسعى الشعب المصري إلى تحقيقه منذ سنوات بغية تطوير وتحسين مستوى الأحوال المعيشية، خصوصًا في ظل ظروف شهدتها مصر، تفاقم معها مستويات الفقر.
وارتفع مستوى الفقر عام 2022 إلى 32.5% بعد أن كانت 29.7% عام 2020، وذلك بحسب بيانات البنك الدولي المعلنة، وفقا لنتائج بحوث الإنفاق والدخل التي أجراها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن العامين 2021 و2022، وأفصحت عنها مصر للبنك الدولي.
وكذلك تشهد مصر انعدام المساواة في الدخل بين المواطنين، وارتفاع في معدلات البطالة، وتزايد العاملين في القطاع غير الرسمي؛ والإقصاء الاجتماعي لشرائح واسعة من المجتمع.
بالإضافة إلى الآثار المترتبة عن تغير المناخ وحروب دول الجوار، وجائحة كورونا، مع عدم الاستقرار السياسي، وتلك التحديات أدت إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وتفاقم الفقر واللامساواة.
وبحسب خبراء الاقتصاد، فإن الأجور تعتبر المساهم الرئيسي في تحديد مستوى معيشي معين للعاملين بأجر، وبمعنى آخر هي قيمة الاستهلاك الضروري الذي يسمح للعامل بأجر تأمين متطلبات العيش الكريم له ولأسرته، لذا فإن سياسة الأجور هي من أكثر السياسات ارتباطًا بقضايا العدالة الاجتماعية، وركيزة من ركائز توفير العمل اللائق والحد من الفقر.
الأزمة في واقع الأجور بمصر
ويقول إلهامي الميرغني الباحث الاقتصادي ونائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، إن سوق العمل المصري يضم ثلاثة قطاعات تشغيل، كل قطاع منها له سياسات أجور خاصة به. أول هذه القطاعات، الحكومي العام (قطاع الأعمال)، والذي له سياسة أجور خاصة به، وينظم بواسطة قانون الخدمة المدنية، وفيه يتم الحديث الواسع حول الحد الأدنى للأجور.
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست": "أما القطاع الثاني فهو الخاص المنظم والخاضع للقانون 12 لسنة 2003، وله نظام مرتبط بالأجور مثل: العلاوة السنوية بنسبة 7%، ووجود الحد الأدنى للأجور، والمجلس الأعلى للأجور الذي يبحث موضوع الحد الأدنى".
وأشار إلى أن "باب الاستثناءات الخاص بالحد الأدنى للقطاع الخاص متسع جدًا، مما يجعل الحد الأدنى الذي نتكلم عنه لا يُطبق على نطاق واسع رغم أن هذا القطاع يتمتع بأنه منظم بشكل جيد".
"القطاع الثالث هو القطاع الخاص غير المنظم، وهؤلاء لديهم مشكلة أنهم مدرجون بأعمال غير دائمة، وأنشطتهم موسمية مؤقتة، وهم خارج نطاق الحماية الاجتماعية ومنظومة الأجر العادل".
ويوضح الميرغني لـ"عربي بوست"، أن هذا التشعب في القطاعات يجعلنا لا نتحدث عن سياسة موحدة للأجور، بل عددًا من السياسات المختلفة، ولذلك أرى تفاوتًا كبيرًا في الأجور بمصر، وعلى سبيل المثال عمال النظافة في وزارة التربية والتعليم رواتبهم 500 جنيه شهريًا، وإذا تغيب أحدهم يتعرض لخصم يومين عن كل يوم غياب، وفي إجازة الصيف ليس لهم راتب.
وأضاف المتحدث أن هناك قوائم كبيرة مثلهم، كعمال التشغيل ومدرسي الحصة – أعلى سقف لا يتخطى 1200 جنيه – وعدد كبير آخر في ظروف عمل قاسية وأجور ضئيلة، تصل إلى 300 جنيه.
وهو ما يثبت أن تطبيق الحد الأدنى للأجور بقيمة 6000 جنيه غير مُفعل في قطاعات عديدة، وبالتالي، فإن التحول إلى المعاشات بالنسبة لهذه الفئات يدخلها في أوضاع أقل ما يقال عنها إنها كارثية.
ويضيف: "ما نراه على أرض الواقع هو جزء رئيسي من الخلل في سياسات الأجور بمصر، ونحن نعاني منه. وببساطة، يمكن توصيف الوضع الراهن بأنه "ترقيع لثوب ممزق"، وليست محاولة لإصلاح حقيقي لسياسات الأجور بمصر. وبقول قاطع، مصر ليس لديها سياسات واضحة وحقيقية لتلك السياسات".
فخ النظرية والتطبيق
ويقول المحامي الحقوقي مالك عدلي إنه رغم إيجابيات رفع الحد الأدنى للأجور، لكن هنا نسقط في فخ النظرية والتطبيق خاصة وأن القرار لم يُطبق رسميًا إلا على العاملين المُعينين في القطاع العام، بينما لم يشمل العاملين بالعقد مثل معلمو الحصة وعمال الأمن وعمال النظافة والمساعدين وغيرهم.
ويضيف عدلي في تصريحات خاصة لـ"عربي بوست"، أن القرار ترك مئات الآلاف في القطاع العام من العمال المؤقتين دون تدخل، أما بالنسبة للقطاع الخاص فيشير عدلي إلى أنه ليس هناك رقابة أو سيطرة على ذلك القطاع، لا سيما وأن الشريحة الأكبر في القطاع الخاص تتقاضى شهريًا أقل من 6000 جنيه، بينما القليل من المسؤولين والمدراء هم من يحصلون على الحد الأدنى وأكثر.
وشدد عدلي على ضرورة أن تشكل الحكومة جهة مراقبة ومتابعة لأي قرار أو قانون خاصة المتلاعبين بالتأمينات منوهًا إلى أنه بالإضافة إلى عدم الالتزام بقانون الحد الأدنى للأجور،
وتابع: "يُضاف إلى أزمة التطبيق، أن العمل غير المنظم أو غير المهيكل يشكل أكثر من 62% وفق ما ذكره البنك الدولي، وذلك من مجمل العمالة بمصر، مما يحد من فعالية سياسة تحديد حد أدنى للأجور، نظرًا لمحدودية تغطيتها، ويتطلب تدعيم هذه السياسة بسياسات أخرى تكميلية لا سيما في مجال الحماية الاجتماعية وتوفير الخدمات العامة".
ويعتبر المحامي الحقوقي أن حساب الحد الأدنى في الأساس يحتاج إلى إعادة المراجعة لا سيما وأن مبلغ الـ 6000 جنيه لا يتماشى مع معدلات التضخم ونسبة ارتفاع أسعار السلع الأساسية، خاصة مع التخفيض المنتظر لقيمة الجنيه، وما سينتج عنه من تراجع في القدرة الشرائية لتلك الأجور.
مطلوب حوافز أخرى
ويرى أستاذ التمويل بجامعة القاهرة الدكتور حسن الصادي، أنه من الضروري أن يتزامن تطبيق الحد الأدنى من الأجور مع تطبيق إعفاءات لمن يتقاضى هذا الحد، مثل الإعفاءات الضريبية وتقديم تأمين صحي شامل دون عراقيل، خاصة وأن رواتبهم تكاد تكفي توفير الغذاء فقط.
وقال الصادي في تصريحات خاصة لـ"عربي بوست"، إن الحد الأدنى للأجر هو أحد أدوات توزيع أكثر عدل للدخول، وضمانة أن يكون الدخل يغطي الاحتياجات الضرورية والأساسية لحياة المواطن طوال الفترة التي تبدأ من حصوله على الأجر حتى التقاضي الثاني.
ويذكر، أن تطبيق الحد الأدنى للأجور خطوة للأمام وإن كانت منقوصة وغير مكتملة، وهي تمنح الإدارات المستقبلية الفرصة لتحسين نظامها ومستواها تدريجيًا، مشددًا على ضرورة التخلص من الأجور الفلكية التي تأتي تحت بند الحوافز والبدل التي تُصرف لمستشاري الوزارات الدائمين دون أن تستفيد الدولة منهم.
ويؤكد الصادي أن الحد الأدنى للأجور حتى الآن لا يواكب حالة السعار في الغلاء وزيادة الأسعار المستمرة والمتواصلة والتي تكاد تكون بشكل يومي، مشيرًا إلى أن الحل يكمن في كبح التضخم.
ويقول القيادي العمالي صلاح الأنصاري إنه على الرغم من عدم ملائمة الحد الأدنى للأجور الحالي للظروف المعيشية لأي أسرة مصرية، إلا أن هناك الكثير من العمال المصريين لا يتقاضون الحد الأدنى مما يؤثر بالسلب على حياتهم.
وتساءل الأنصاري: "كيف تعيش أسرة مكونة من 3 أفراد على الأقل بـ 6000 جنيه شهريًا مع خصم الإيجار وفواتير المياه والغاز والكهرباء والمصروفات الاضطرارية مثل العلاج بخلاف التعليم"، مشيرًا إلى أن العامل مجبر على العمل بساعات إضافية لزيادة دخله.
ورفض الأنصاري التعامل الأمني مع عمال سمنود قائلًا: "هم ليسوا مخربين أو مثيري شغب لكنهم يطلبون حقهم بصوت عالٍ وفقًا للقانون والدستور"، لافتًا إلى أن الأصح الوقوف على مشاكلهم لإيجاد حل لها وإنهاء أزمة رواتبهم.
ويضيف القيادي العمالي أن شركة وبريات سمنود يعاني منذ 10 سنوات من معضلة الحد الأدنى للأجور والتي لم تتعد مرتباتهم الشهرية 3500 جنيه، ما يعني أنهم تحت خط الفقر بمراحل، ولهم الحق في تطبيق قرار رئيس الجمهورية الخاص بالحد الأدنى للأجور بأثر رجعي.