ضخ إسرائيل مياه البحر في أنفاق قطاع غزة يمثل جريمة ذات أبعاد إنسانية وبيئية خطيرة، بحسب ما أعلنته روسيا في مجلس الأمن الدولي، فمتى يحاسب الاحتلال على جرائمه؟
كانت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية قد نقلت، الثلاثاء 12 ديسمبر/كانون الأول، عن مسؤولين أمريكيين لم تذكر أسماءهم أن جيش الاحتلال الإسرائيلي بدأ بالفعل ضخ مياه البحر فيما وصفته بأنه "مجمع أنفاق" حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة.
وبعد أكثر من شهرين من عدوان الجيش الإسرائيلي، المدعوم أمريكياً وغربياً، على قطاع غزة بهدف القضاء على حماس، لا يزال عاجزاً عن تحرير الأسرى أو تحقيق انتصار، بأي شكل من أشكال الانتصار العسكري؛ للتغطية على هزيمته المستمرة منذ عملية "طوفان الأقصى" يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
خطة إسرائيل لضخ "مياه البحر" في الأنفاق
"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي لفلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة وإما تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
وبعد أكثر من 66 يوماً من القصف جواً وبراً وبحراً واستهداف البشر والحجر دون أن يحقق جيش الاحتلال، الذي يصف نفسه بأنه "أقوى جيوش المنطقة"، أياً من أهدافه العسكرية أمام صمود المقاومة التي تكبده خسائر فادحة كل يوم، ظهر الحديث عن ضخ مياه البحر في تربة القطاع الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم.
وطبقاً لتقرير وول ستريت جورنال، فإن عملية إغراق الأنفاق بمياه البحر ستستغرق أسابيع على الأرجح، فيما قد يكون محاولة أخرى لشراء الوقت من جانب نتنياهو، الذي بات محاصراً بالضغوط من جميع الاتجاهات، وبخاصة من حليفه الأبرز الرئيس الأمريكي جو بايدن.
فبحسب تقرير صحيفة وول ستريت جورنال، يرى بعض مسؤولي إدارة بايدن أن العملية قد تساعد في تدمير الأنفاق التي تزعم إسرائيل أن الحركة الفلسطينية تُخفي أسرى ومقاتلين وذخائر بداخلها، بينما أبدى مسؤولون آخرون مخاوفهم من أن مياه البحر قد تُعرض إمدادات المياه العذبة في غزة للخطر. أما جيش الاحتلال الإسرائيلي فلم يعلق على الفور على التقرير. وكانت الصحيفة ذاتها قد سبق أن نقلت عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن إسرائيل أقامت نظاماً كبيراً من المضخات قد يستخدم لغمر الأنفاق بالمياه.
وذكر التقرير أنه في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني تقريباً، أكمل الجيش الإسرائيلي وضع ما لا يقل عن خمس مضخات على بُعد ميل تقريباً إلى الشمال من مخيم الشاطئ للاجئين، يمكنها نقل آلاف الأمتار المكعبة من المياه في الساعة وإغراق الأنفاق في غضون أسابيع.
ما الخطر الذي يمثله غمر غزة بمياه البحر؟
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ترتكب إسرائيل انتهاكات صارخة لجميع المعاهدات والمواثيق الدولية، سواء تلك الخاصة بالحروب والصراعات أو الخاصة بالاحتلال، بداية من "العقاب الجماعي" لأكثر من 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة، من خلال حرمانهم من جميع مقومات الحياة الأساسية؛ مأكل ومشرب وطاقة وهدم للمنازل واستهداف للمدنيين ومنع دخول المساعدات.
وفي هذا الإطار، تمثل عملية ضخ مياه البحر في أنفاق القطاع جريمة أخرى لها تداعيات إنسانية وبيئية خطيرة وطويلة الأمد، بحسب بيان روسي حذر من هذه الخطوة.
جاء ذلك على لسان نائب المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة ديمتري بوليانسكي، الذي أصدر، السبت 9 ديسمبر/كانون الأول، بياناً تم توزيعه في الأمم المتحدة حذَّرت فيه روسيا من أن "هذا الغمر بمياه البحر يمكن اعتباره مرادفاً لقتل جميع سكان القطاع، لكن خطورة الأمر لا تتوقف فقط عند حدود قتل المدنيين الذين ربما يتواجدون في تلك الأنفاق"، مضيفاً أنه بالتأكيد قد يكون هناك مدنيون، "وإلا أين سيذهبون للهروب من القصف (الإسرائيلي) الذي لا يسلم منه أحد ولا مكان في القطاع".
وأكد البيان أن هذا (ضخ مياه البحر) "يمثل جريمة حرب في حال تنفيذه"، محذراً من التداعيات الخطيرة على البيئة الزراعية في القطاع، حيث إن تلويث الأرض بمياه البحر ستكون له تداعيات خطيرة على المياه الجوفية في منطقة تعاني من مشكلة كبيرة في توفر المياه الصالحة للشرب أو للزراعة.
ويعاني قطاع غزة من شح في مياه الشرب حتى قبل العدوان الحالي، حيث تتبع إسرائيل منذ عقود أساليب تهدف إلى إما لسرقة المياه الجوفية للقطاع أو تلويثها، بحسب مئات من التقارير الأممية في هذا الشأن.
ولم تكن روسيا الوحيدة التي حذرت من خطورة الخطوة الإسرائيلية، حيث أظهرت تقارير أمريكية أن هناك مسؤولين كباراً في إدارة بايدن عبَّروا أيضاً عن مخاوفهم من التداعيات طويلة المدى على الأوضاع الغذائية والبيئية في القطاع، الذي يعاني بالأساس من نقص حاد في المياه الصالحة للشرب.
ماذا يريد نتنياهو من هذه الخطوة؟
تشير التقارير الأمريكية والإسرائيلية إلى أن حكومة نتنياهو عرضت فكرة ضخ مياه البحر في الأنفاق على إدارة جو بايدن منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني، لكن لم يتم حتى الآن البت في بدء تنفيذ الخطة من عدمه، وربما يكون السبب في التردد هو الخوف من أن تؤدي هذه الخطوة إلى قتل الأسرى الموجودين لدى فصائل المقاومة الفلسطينية في القطاع، وبالتأكيد لا ينبع التردد من حقيقة أن هذا الإجراء يعتبر "جريمة حرب"، كما وصفتها روسيا.
لكن يمكن القول هنا إن مزاعم إسرائيل بشأن الأنفاق في غزة لم تعد تجِد آذاناً مصغية حتى داخل إسرائيل نفسها أو هناك في واشنطن، بعد أكثر من شهرين من ترديد قيادات الاحتلال السياسية والعسكرية لروايات لم تقدم أي أدلة فعلية على صحتها.
وربما يكون ما حدث في مجمع الشفاء الطبي أبرز مثال على انكشاف الروايات والمزاعم الإسرائيلية بشأن وجود مراكز السيطرة والقيادة لحركة حماس في شبكة أنفاق تحت المجمع الطبي، حيث ظل جيش الاحتلال وحكومته يرددون تلك المزاعم على مدى أسابيع ويتخذونها ذريعة لقصف وتدمير ثم اقتحام المجمع، وهي جريمة حرب طبقاً للقانون الدولي والإنساني.
وقدم جيش الاحتلال عرضاً وصفته أغلب وسائل الإعلام الغربية بأنه "مسرحية هزلية"، تم خلاله استعراض قطع سلاح على أنها كانت موجودة في إحدى غرف مستشفى الشفاء وهو ما شكَّك فيه مراسلون أمريكيون وغربيون، ناهيك عن غياب أي أثر أو دليل على وجود عسكري للمقاومة داخل المجمع.
جيش الاحتلال زعم أيضاً أنه أنهى المرحلة الأولى من هجومه البري على شمال قطاع غزة وبدأ المرحلتين الثانية والثالثة في وسط وجنوب القطاع، لكن جاءت هدنة تبادل الأسرى (من 24 نوفمبر/تشرين الثاني وحتى 1 ديسمبر/كانون الأول) لتكشف زيف مزاعمه، حيث تمت عملية تسليم أسرى من قلب مدينة غزة شمال القطاع، في تأكيد على أن المقاومة لا تزال تسيطر على الوضع الميداني ولم يتمكن جيش الاحتلال من كسرها في الشمال، كما زعم.
والآن وسط الخسائر الفادحة التي يتكبدها جيش الاحتلال بشرياً وفي العتاد والمركبات في جميع أنحاء القطاع، يبدو أن التوجه نحو ارتكاب جريمة ضخ مياه البحر في الأنفاق تمثل غطاءً جديداً للفشل العسكري الذي يعاني منه، ومحاولة أخرى من جانب نتنياهو لإطالة أمد العدوان تفادياً للحظة الحساب العسير التي تنتظره.
إذ يواجه نتنياهو، الذي يُحاكم بتهم فساد وتلقّي رشوة وخيانة الأمانة، ضغوطاً متزايدة من الداخل الإسرائيلي ومن حليفه الأبرز جو بايدن كي يوقف العدوان على غزة ويعود إلى طاولة المفاوضات مع المقاومة، وهو المسار الوحيد المتاح لتحرير الأسرى من خلال صفقة تبادل يفرج بموجبها عن الأسرى الفلسطينيين في معتقلات الاحتلال، بحسب بيان لحماس.
ففي الوقت الذي يواصل فيه جيش الاحتلال عدوانه على قطاع غزة للشهر الثالث دون أن يبدو قادراً على تحقيق أي من أهدافه، تتعالى الأصوات في إسرائيل مطالبة بإبعاد بنيامين نتنياهو الآن. "لا بد من تدمير نتنياهو سياسياً وإلا انهارت إسرائيل"، تحت هذا العنوان نشرت صحيفة هآرتس تحليلاً يرصد أسباب هذا الانقلاب المتصاعد ضد الرجل الأطول بقاءً في منصب رئيس الوزراء منذ تأسيس دولة الاحتلال في فلسطين قبل 75 عاماً.