نشر جيش الاحتلال مقاطع فيديو وصوراً لمعتقلين فلسطينيين في قطاع غزة مجردين من ملابسهم، بينما يواصل قصف المناطق "الأمنة"، فمتى تتم معاقبة إسرائيل على جرائمها؟
كانت وسائل الإعلام الإسرائيلية قد نشرت، الخميس 7 ديسمبر/كانون الأول، صوراً لرجال معصوبي العينين ومقيدين ومجردين من ملابسهم، زعمت أنهم "مقاتلون" تابعون لحركة المقاومة الإسلامية حماس في غزة، وهو ما أكده متحدث باسم جيش الاحتلال، لكن تحقيقات أجرتها وسائل إعلام غربية وحقائق تتعلق بشخصيات بعض من ظهروا في الصور أكدت كذب الرواية الإسرائيلية، في دليل آخر على ارتكاب جيش الاحتلال لما يرقى إلى جرائم حرب.
تأتي هذه الانتهاكات الإسرائيلية للمواثيق الدولية والقوانين الإنسانية والأخلاقية في وقت تصر فيه قيادات إسرائيل العسكرية والسياسية على أن جيش الاحتلال هو "أكثر جيش أخلاقي في العالم".
ما حقيقة هؤلاء المعتقلين في غزة؟
نشرت وسائل إعلام إسرائيلية صوراً لرجال فلسطينيين معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي ومجردين من ملابسهم، وزعم موقع واللا العبري أنهم "استسلموا" لكتيبة من جيش الاحتلال، بحسب تقرير لصحيفة تليغراف البريطانية. وتفاخرت وسائل الإعلام العبرية بتلك المشاهد، زاعمة أن "هؤلاء ينتمون لفصائل المقاومة" في غزة.
لكن تحقيقاً أجرته شبكة CNN الأمريكية نسف المزاعم الإسرائيلية وكشف زيفها، إذ إن الرجال والشباب الذين تعرضوا لهذه المعاملة غير الإنسانية ليسوا إلا مدنيين لا علاقة لهم بأي من فصائل المقاومة الفلسطينية. ويبدو واضحاً أن ما أقدم عليه جيش الاحتلال ما هو إلا استمرار لمحاولاته الرامية إلى التغطية على فشله العسكري في مواجهة المقاومة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
إذ "استعرض" جيش الاحتلال قوته من خلال تلك الممارسات بحق مدنيين تحت الاحتلال في أحد ميادين مدينة غزة الواقعة في شمال القطاع، الذي كانت قيادات إسرائيل قد زعمت أنها سيطرت عليه قبل هدنة الأسبوع، لكن المقاومة قامت بتسليم أسرى في ميادين وشوارع مدينة غزة في "استعراض" للقوة. لكن شتان بين ما أقدم عليه جيش الاحتلال من "استقواء" على المدنيين العزل وبين المعاملة الإنسانية التي انتهجتها المقاومة بحق الأسرى الإسرائيليين، والتي شهد عليها الأسرى المفرج عنهم ضمن صفقة التبادل بأنفسهم.
وكشف تحقيق استقصائي أجرته الشبكة الأمريكية، المنحازة لإسرائيل شأنها شأن الإعلام الغربي بشكل عام، أن كثيراً من الشباب والرجال الذين يظهرون في تلك الصور "لا علاقة لهم بأي شكل من الأشكال بأي من الفصائل المسلحة في قطاع غزة".
ونشر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان تقريراً عن تلك الصور جاء فيه أن "الجيش الإسرائيلي يعتقل وينتهك بشكل حاد أبسط حقوق العشرات من المدنيين الفلسطينيين".
وأضاف تقرير المرصد: "وصلتنا تقارير تفيد بأن القوات الإسرائيلية شنت حملات اعتقال عشوائية بحق النازحين، وشملت تلك الحملات أطباء وأكاديميين وصحفيين ورجالاً كباراً في السن".
وتواصلت شبكة CNN مع جيش الاحتلال للتعليق على تلك الانتهاكات لكنه رفض الرد، بينما أكدت الشبكة أن تحقيقها أفاد بأن بعضاً من تلك الوقائع حدث في بيت لاهيا شمالي مدينة غزة.
وتُسقط هذه الممارسات الوحشية بحق المدنيين ورقة التوت عن جيش الاحتلال، رغم إصرار رئيس الوزراء نتنياهو وقيادات الجيش، ومن خلفهم بايدن وبعض مسؤولي إدارته، على ترديد عبارات من قبيل "أكثر الجيوش إنسانية"، فإسرائيل المهزومة والفاشلة تبدو عاجزة عن تبرير ما ترتكبه في غزة من استهداف متعمّد للمدنيين وحتى للمستشفيات والطواقم الطبية وعربات الإسعاف التي تنقل المصابين، وهو ما يرقى إلى "جريمة حرب" موثقة بالصوت والصورة.
انتهاكات جيش الاحتلال
وفي السياق نفسه، أظهرت نتائج تحقيقات أن دبابة إسرائيلية استهدفت وقتلت صحفياً يعمل في وكالة رويترز للأنباء في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، رغم نفي جيش الاحتلال للواقعة ومحاولة التنصل منها، بحسب تقرير لشبكة CNN عنوانه "التحقيقات تؤكد أن قذيفة أطلقتها دبابة إسرائيلية قتلت صحفي رويترز في أكتوبر".
هذه التحقيقات التي تنسف المزاعم الإسرائيلية بشأن اتباع قواعد الحرب تؤكد الاتهامات التي تطول جيش الاحتلال من جانب الفلسطينيين والمنظمات الحقوقية والإنسانية، وبات واضحاً أن الدعاية الإسرائيلية لم تعد تجد آذاناً مصغية كما اعتادت.
وفيما يخص مزاعم إسرائيل بعدم استهداف المدنيين، أثبت القصف العشوائي الذي طال جميع أنحاء القطاع أنه لا توجد "مناطق أو ممرات آمنة" لهؤلاء المدنيين، بل إن جيش الاحتلال قصف مدنيين نزحوا باتجاه "مناطق آمنة" حددها لهم، بحسب تحقيقات أجرتها جهات غربية وليست عربية أو فلسطينية.
فلا أحد يصدق ما يردده قادة الاحتلال من أكاذيب، ولا مكان آمناً في القطاع، والرد على أكاذيب جيش الاحتلال جاء من شبكة CNN الأمريكية، التي نشرت تحقيقاً استقصائياً قامت به، عنوانه "صدقوا أوامر الإخلاء.. ضربة جوية إسرائيلية قتلتهم في اليوم التالي"، رصد كيف أن بعض الفلسطينيين في شمال غزة، الذين صدقوا أوامر الإخلاء التي صدرت عن الجيش الإسرائيلي، ظنوا أنهم سيكونون آمنين.
"بعض الإسرائيليين الذين نفذوا أوامر الإخلاء وهربوا من بيوتهم في شمال غزة، باحثين عن الأمن والسلامة، تعرّضوا للمصير ذاته الذي هربوا منه: قتلتهم ضربات جوية إسرائيلية في منطقة الإخلاء"، هذا ما خلصت إليه الشبكة الأمريكية، التي تعمل، شأنها شأن باقي المؤسسات الإعلامية الغربية، على الترويج للرواية الإسرائيلية طوال الوقت، والواضح هنا أن وجود شهود كثر على الكذب المفضوح أجبر الجميع هذه المرة على الإقرار بالحقيقة.
وكانت الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، والتي يترأسها بنيامين نتنياهو، قد أعلنت منذ عملية "طوفان الأقصى"، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة هو الهدف الرئيسي من عدوانها على القطاع، واجتاح جيشها القطاع برياً لتنفيذ هذا الهدف.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي لفلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة وإما تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
طوفان الأقصى لم تحدث من فراغ، وهي الحقيقة التي ليست محل جدال ويقر بها حتى الإعلام الغربي الموالي تماماً لإسرائيل والمتبني لروايتها، لكن نتنياهو وحكومته، التي يصفها الفلسطينيون بأنها فاشية وتسعى لإبادتهم بشكل جماعي، أرادت منذ اللحظة الأولى أن تغطي فشلها الأمني والعسكري الذريع في ذلك اليوم من خلال رفع سقف أهدافها من العدوان على غزة بصورة وصفها مراقبون بأنها "خيالية"، وبعد مرور شهرين من هذا العدوان بدأ ذلك الوصف يتأكد على أرض الواقع، فلا الأسرى تم تحريرهم، ولا المقاومة رفعت الراية البيضاء.
هل تتم معاقبة إسرائيل على جرائمها؟
أثارت الانتهاكات والجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق الفلسطينيين مطالبات إقليمية ودولية بضرورة محاكمة قادة الاحتلال بتهم "الإبادة الجماعية" وارتكاب "جرائم حرب"، ويظل السؤال هنا قائماً: متى يحدث ذلك؟
فإمعان إسرائيل في ارتكاب المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، وجّه الأنظار لكشف ما تنضوي عليه من مخالفات فادحة وواضحة للقانون الدولي، خاصة لجهة تصنيف أفعالها في إطار "الإبادة الجماعية"، وما يترتب على ذلك من محاسبة.
ووفق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، مما تشمله الإبادة الجماعية: قتل أعضاء بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، أو إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بهم، أو إخضاع الجماعة عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
وفي هذا الإطار، أكدت المحامية والناشطة الحقوقية الأمريكية، من أصل فلسطيني، لارا البورنو، في مقابلة مع وكالة الأناضول التركية، أن ما يشهده قطاع غزة هو "إبادة جماعية" وفقاً للقانون الدولي، وهو ما رصده أكثر من 800 أكاديمي يعملون في مجال دراسات الإبادة الجماعية، لتصريحات مسؤولين إسرائيليين تؤكد نية ارتكاب جرائم حرب.
ولا شك هنا أن الموقف الأمريكي يمثل حجر عثرة أمام مساءلة إسرائيل؛ إذ كان واضحاً تماماً منذ اللحظة الأولى أن بايدن وإدارته متماهون تماماً مع موقف حكومة نتنياهو، وأقدمت إدارة بايدن على ما يصفه الفلسطينيون بأنه "مشاركة فعالة" في العدوان على قطاع غزة، الذي يقطنه أكثر من 2.3 مليون فلسطيني. لكن يبدو أن العدوان المستمر على غزة والجرائم التي ترتكب ليل نهار قد بدأت تحدث "تغييراً" في موقف بايدن وإدارته.
فمع إجبار أكثر من 1.7 مليون فلسطيني على النزوح من الشمال إلى الجنوب داخل القطاع، تواصل إسرائيل جرائم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين بالتزامن مع تكثيف هجماتها على المنطقة الجنوبية في القطاع.
وفي هذا الإطار شددت البورنو على أهمية تحميل إسرائيل مسؤولية جرائم الحرب التي ارتكبتها هذه المرة. وقالت: "إذا لم تتم محاسبة إسرائيل، فما الفائدة من القانون الدولي، الذي تم تطويره لغرض تعزيز المساءلة ومنع ارتكاب جرائم إبادة جماعية ومعاقبة المرتكبين بعد الحرب العالمية الثانية!".
وأشارت البورنو إلى ضرورة محاسبة إسرائيل على جرائمها، قائلة: إذا لم يتم اتخاذ إجراء الآن، فهذا يعني أن (القانون الدولي والمؤسسات الدولية) عبارة عن هياكل غير فعّالة على الإطلاق، ويجب إلغاؤها لعدم جدواها".