في تطورٍ محوري يجري في أمريكا اللاتينية جاء توقيته متعمداً بين الأزمتين الجاريتين في أوكرانيا وإسرائيل، لتجنب الأضواء الدولية، أعطت الجمعية الوطنية الفنزويلية الضوء الأخضر لإجراء استفتاء وطني في 3 ديسمبر/كانون الأول 2023 من أجل تحديد وضعية إقليم إسيكيبو.
لكن المشكلة الوحيدة تكمُن في أن إقليم إسيكيبو ليس جزءاً من فنزويلا، ولم يكن كذلك منذ أيام الإمبراطورية الإسبانية. إذ تُشكل المنطقة نحو ثلثي مساحة دولة غيانا المجاورة الغنية بالنفط، وقد تم الاعتراف بها دولياً كجزءٍ من أراضي غيانا، فضلاً عن احتوائها على ثروةٍ نفطية مهولة.
ورغم النزاع القائم منذ زمن بعيد حول إقليم إسيكيبو، لم تكن هناك أي مؤشرات مسبقة على أن فنزويلا تسعى لتغيير وضعيته بشكلٍ نشط. ولا شك أن توقيت الاستفتاء يُشير ضمنياً وبقوة إلى أن قرار الرئيس نيكولاس مادورو يأتي مدفوعاً بمزيج من السياسات المحلية وإمكانية إثراء الوطن أكثر، من خلال توسيع أراضي البلاد.
ومع ذلك، من المستبعد أن يفيد أي نفط إضافي فنزويلا (التي تمتلك أكبر احتياطي نفط في العالم بالفعل)، نظراً للصعوبات التي فرضتها على نفسها في ما يتعلّق بتصدير نفطها الحالي، بحسب تقرير لمجلة Forbes
وقد أدت الحرب في أوكرانيا إلى إخراج النفط الروسي من الأسواق الغربية، كما جاء تصاعد التوترات في الشرق الأوسط ليدفع بالولايات المتحدة إلى إعادة تعاملاتها الدبلوماسية مع فنزويلا. حيث أعادت الولايات المتحدة النفط الفنزويلي إلى الأسواق العالمية بهدوء، بالتزامن مع خفضها التدريجي للعقوبات المفروضة على النظام التشافيزي اليساري في كاراكاس.
ما هي مكاسب فنزويلا؟
ومع ذلك، تمتلك الإدارة الأمريكية قناعةً خاطئة بأن الاتفاق بين البلدين على تقليل العقوبات قد يؤدي إلى انتخابات حرة. إذ لن يتخلى مادورو-المدعوم من روسيا والصين- عن السلطة طواعية على الإطلاق.
إذ يسعى مادورو، المدعوم بإيرادات النفط الجديدة، إلى تشتيت انتباه الجمهور بعيداً عن الانتخابات المقبلة كذلك. ويخدم الاستفتاء هذا الغرض بكل أريحية؛ لأنه سيؤجج النزعة القومية ويُحسن فرص مادورو الانتخابية، بالنظر إلى شعبية موقف الحكومة حتى في أوساط المعارضة المناهضة للتشافيزية.
ويأمل مادورو أن تؤدي تلك الخطوة إلى حالة "احتشاد حول العلم" في فنزويلا، بحيث يدعم الجمهور موقف الحكومة في القضية بشكلٍ كبير، على الرغم من الاستياء واسع النطاق من بقية سياسات الحكومة المدمرة. ومن المحتمل استغلال تلك الحالة لتصوير قادة المعارضة على أنهم خونة يتحالفون مع الولايات المتحدة ضد مصالح الوطن.
ولا خلاف على أن الجدل الأخير بشأن وضعية إسيكيبو له علاقة باكتشاف احتياطيات ضخمة من النفط في المنطقة. إذ كشفت شركات نفطية مثل ExxonMobil النقاب عن 46 حقلاً نفطياً في غيانا منذ عام 2015، منها أربعة حقول تم اكتشافها في العام الجاري وآخرها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وهذا يعني أن غيانا لديها احتياطيات نفطية تتجاوز الـ11 مليار برميل. وفي حال استغلال تلك الاحتياطيات؛ سيُصبح الشعب الغياني أكثر ثراءً من شعوب الكويت والإمارات.
وربما يستهدف مادورو استغلال أزمة الحدود والعدوان المحتمل ضد غيانا لتعزيز شرعية النظام السياسية. لكن يبدو أن مادورو يستهين بتداعيات ضم الأراضي.
ومن المتوقع ألا تتساهل مع اندلاع صراع آخر، خاصةً في باحتها الخلفية، بالتزامن مع المخاوف والأزمات الأمنية العالمية داخل أوكرانيا والشرق الأوسط ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ. وقد أعربت واشنطن عن دعمها لغيانا بالفعل، من خلال مشاركة الشركات الأمريكية الكبرى في اسكتشاف حقول النفط. بينما اعتبرت مجموعة الكاريبي ومنظمة الدول الأمريكية أن الاستفتاء الفنزويلي المُنتظر ليس قانونياً. في ما تدعو البرازيل، التي تمتلك حدوداً مشتركة مع فنزويلا وغيانا، إلى حل النزاع سلمياً.
وبحسب فوربس، فمن المؤكد أن المضي قدماً في ضم الإقليم سيكون خطأ فادحاً، ولن يجلب أي فائدة على الاقتصاد الفنزويلي الذي أنهكته العقوبات والهجرة الجماعية بالفعل. حيث إن موارد النفط الإضافية لن تنقذ البلاد، ومن المرجح أن يعجز النظام الاشتراكي الفاسد وعديم الكفاءة عن تصديرها. ومن المحتمل أن تكون القيادة الفنزويلية على علمٍ بذلك، لكنها تريد استغلال الاستفتاء لكسب رأس مال سياسي، ووصم المعارضين بأنهم خونة قُبيل الانتخابات الحاسمة التي ستحدد مستقبل فنزويلا.
كيف تنظر غيانا للاستفتاء؟
وترى غيانا في الاستفتاء حالة ضمٍ فعلية لأراضيها، لهذا طلبت من محكمة العدل الدولية تعطيل بعض أجزاء الاستفتاء في يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني. ولم تُصدر المحكمة قرارها بعد، لكن حكومة مادورو تعتزم عقد الاستفتاء في يوم الأحد الثالث من ديسمبر/كانون الأول، حتى لو حكمت المحكمة لصالح غيانا.
وقد أثار الفصل الأخير من النزاع غضب بعض سكان المنطقة على حكومة غيانا، حيث يُعد غالبيتهم من السكان الأصليين. إذ وصلتهم غالبية المعلومات بشأن الاستفتاء من خلال منشورات الشبكات الاجتماعية غير الدقيقة، ما أسفر عن خلق حالة ارتباك بين سكان غيانا، بحسب وكالة Associated Press الأمريكية.
وقال زعيم قرية أناي في إقليم إسيكيبو مايكل ويليامز، أحد السكان الأصليين: "نشعر بالتجاهل باعتبارنا الشعب الذي يقطن هذه الأرض. ولم تفعل [الحكومة] شيئاً من أجلنا حتى الآن".
يُذكر أن الحدود المتنازع عليها قد سبق تحديدها بواسطة مُحكِّمين من بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة في عام 1899. ومثّلت الولايات المتحدة دولة فنزويلا في تلك اللجنة لأسبابٍ منها أن حكومة فنزويلا كانت قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع بريطانيا.
بينما يزعم مسؤولو فنزويلا أن الأمريكيين والأوروبيين تآمروا لخداع بلادهم وسحب المنطقة منها، ويجادلون بأن الاتفاق الذي أبرموه لحل النزاع عام 1966 يعني إبطال التحكيم الأصلي فعلياً. في ما تؤكد غيانا -الدولة الوحيدة الناطقة بالإنجليزية في أمريكا الجنوبية- أن الاتفاق الأول قانوني ومُلزم، ولهذا طلبت من المحكمة الدولية إصدار حكمٍ بذلك عام 2018.
وسيجيب الناخبون الفنزويليون في يوم الأحد عن سؤال حول ما إذا كانوا "موافقين على رفض حدود عام 1899 بكل السبل وبما يتوافق مع القانون" أم لا، وسؤال حول ما إذا كانوا يدعمون اتفاق عام 1966 "باعتباره الوسيلة القانونية الوحيدة والشرعية" للتوصل إلى حل أم لا.
وعقدت حكومة مادورو استفتاء صورياً في 19 نوفمبر/تشرين الثاني لتعريف الناخبين بالقضية، لكنها لم تذكر عدد الناخبين المشاركين فيه أو نتائجه. ولم يقدم المسؤولون كذلك أي جدول زمني أو خطوات محددة للكيفية التي سيحولون بها إقليم اسيكيبو إلى ولاية فنزويلية، وكيفية منح مواطني المنطقة الجنسية في حال موافقة الناخبين على ذلك.
ومن المتوقع أن تُصدر محكمة العدل الدولية قراراً في الأسبوع الجاري بشأن طلب غيانا تعطيل بعض أجزاء الاستفتاء. لكن المحكمة لا يزال أمامها سنوات قبل أن تفصل في قضية غيانا التي طالبت باعتبار قرار الحدود عام 1899 سارياً ومُلزماً. حيث قبل القضاة هذه القضية في أبريل/نيسان الماضي بالرغم من معارضة فنزويلا لذلك.