رصد تقرير أمريكي أحد أبرز تداعيات الدعم الأمريكي المطلق لعدوان إسرائيل على قطاع غزة، وبخاصة على توازن القوى في المنطقة، فكيف تصب كراهية أمريكا المتزايدة في صالح إيران؟
موقع The Intercept الأمريكي نشر تقريراً يرصد كيف يغذي الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل "محور المقاومة" المدعوم إيرانياً، وألقى الضوء على التداعيات السياسية الآنية للعدوان على غزة، إضافة إلى التداعيات على المديين المتوسط والطويل.
وعلى الرغم من أن ما يوصف بـ"وحدة الساحات" لم يتحقق، إلا أن المناوشات بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي في منطقة الحدود لم تتوقف تقريباً منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كما أن الحوثيين في اليمن وميليشيات الحشد الشعبي في العراق شنت هجمات ضد القواعد الأمريكية في المنطقة وإسرائيل أيضاً.
"محور المقاومة" في مواجهة إسرائيل وأمريكا
ومصطلح "وحدة الساحات" يقصد به أن تشارك الأحزاب والجماعات المسلحة في المنطقة في مقاومة العدوان الإسرائيلي على غزة. وفي اليوم الذي كان يهدف إلى تكريم شهداء حزب الله، خصص الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، جزءاً كبيراً من خطابه للمقاتلين في أماكن أخرى في المنطقة.
ففي خطاب متلفز يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني، أشاد نصر الله ليس فقط بضربات حزب الله على إسرائيل التي انطلقت من جنوب لبنان، بل وأيضاً "الجبهات الداعمة" في العراق وسوريا، حيث نفذت الجماعات المسلحة أكثر من 60 هجوماً على القوات الأمريكية في الشهر الماضي، على الرغم من عدم انخراط باقي أذرع إيران بقوة في هذه الحرب.
وتسبب العدوان الإسرائيلي المستمر على المدنيين في قطاع غزة المحاصر في تمتع المقاومة بتعاطف جارف خارج نطاق أعضاء هذا المحور، الذين تعتبر الولايات المتحدة العديد منهم منظمات إرهابية. فحتى في الدوائر التي تصفها واشنطن بأنها "أكثر اعتدالاً"، أدى الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إلى تأجيج المشاعر المعادية لأمريكا في منطقة يرى فيها الكثيرون أن القصف الإسرائيلي المستمر على غزة هو امتداد لعقود من السياسة الأمريكية الظالمة في الشرق الأوسط.
كانت إسرائيل قد أعلنت منذ عملية "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة هو الهدف الرئيسي، واجتاح جيشها القطاع برياً، مروِّجة لرواياتٍ كاذبة رددها زعماء الغرب، وعلى رأسهم جو بايدن.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
وأعادت الصور المؤلمة لضحايا القصف في غزة إلى الأذهان ذكريات الصراعات الدموية التي شنتها الولايات المتحدة أو دعمتها في أماكن مثل العراق واليمن، مع إحجام الغرب عن إدانة إسرائيل بسبب الخسائر البشرية الفادحة في صفوف الفلسطينيين، ما يذكر العرب والمسلمين بمدى ضآلة أهمية حياتهم كعاملٍ في اتخاذ القرار الغربي.
موقف باهت من "محور الاعتدال"
الرد الباهت من الدول العربية على العدوان الإسرائيلي سمح للجماعات المسلحة بالاستفادة من الغضب الشعبي وتعزيز أوراق اعتمادها في المقاومة من خلال وضع نفسها على أنها الوحيدة المستعدة للوقوف في وجه إسرائيل ومؤيديها.
وفي العراق، أعادت الحرب الإسرائيلية على فلسطين تحفيز الفصائل المسلحة التي تشكلت في أعقاب الغزو الأمريكي عام 2003، وهي قضية مناهضة للاحتلال يرون أنها مرتبطة بشكل مباشر بالنضال الفلسطيني من أجل الحرية. وفي الساعات الـ24 الماضية فقط، كانت هناك عدة اشتباكات بين المسلحين العراقيين والقوات الأمريكية.
إلى مكتبه ببغداد، وصل المتحدث العسكري باسم كتائب حزب الله، جعفر الحسيني، في نهاية أكتوبر/تشرين الأول، وأوضح موقفه للموقع الأمريكي قائلاً: "على النقيض من ذلك، هذه هي أسهل الأوقات. هذه معركة واضحة. فلسطين هي القضية الأساسية".
وكتائب حزب الله هي الأقوى والأكثر سرية بين فصائل الحشد الشعبي العراقية المدعومة إيرانياً والمعارضة للوجود الأمريكي. ورغم دمجها جزئياً في الأجهزة الأمنية الحكومية كجزء مما يصفه المسؤولون العراقيون بالتسريح التدريجي -ويطلق عليه المنتقدون استيلاء الدولة على أيدي وكلاء إيران- ترتد الكتائب إلى العنف خلال أوقات التدخل الغربي. واعتُبِرَ قرار البنتاغون الأخير بنشر حاملات طائرات وأفراد في الشرق الأوسط دليلاً على تورط الولايات المتحدة المباشر في العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية المحتلة.
قال الحسيني: "أمريكا شريك في هذه المعركة وفي قتل الفلسطينيين، ولذلك عليهم أن يدفعوا الثمن. ما يحدث الآن من استهداف القواعد الأمريكية هو رد طبيعي من المقاومين".
نحَّت فصائل "المقاومة" في العراق الخصومات جانباً للحظات لتعلن مسؤوليتها بشكل مشترك، عبر قناة على منصة تليغرام أُنشِئت حديثاً، عن عشرات الهجمات الصاروخية وهجمات الطائرات المسيَّرة على القوات الأمريكية المتمركزة في العراق وسوريا لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وقال البنتاغون إن تلك الهجمات أسفرت عن عدة إصابات طفيفة.
يرى تحليل الموقع الأمريكي أن هذه التأثيرات المتتابعة كانت جزءاً من حسابات حماس للمساعدة في تحطيم ما اعتبرته حركة المقاومة الفلسطينية وضعاً راهناً لا يمكن الدفاع عنه في الأراضي المحتلة. وقد تضاءلت احتمالية التوصل إلى حل سياسي في السنوات الأخيرة وسط تزايد أعمال العنف والطرد من قِبَلِ الإسرائيليين، وخاصة في الضفة الغربية المحتلة، تحت إشراف الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل.
وقال أسامة حمدان، عضو المكتب السياسي لحماس، لموقع The Intercept الأمريكي في مقابلةٍ أُجرِيَت في بيروت الأسبوع الماضي: "قدمت الإدارة الأمريكية الغطاء الكامل لحكومة نتنياهو للعمل على تهويد القدس والاعتداء على المسجد الأقصى وتوسيع الاستيطان ومواصلة الحصار على غزة وإنهاء القضية الفلسطينية".
وفي هذا الإطار، جاءت عملية طوفان الأقصى لتعيد القضية الفلسطينية إلى الطاولة الجيوسياسية، كما ولدت قدراً أعظم من الوحدة بين الحلفاء في منطقة مستقطبة بفعل عقود من الصراع والصراع العرقي والطائفي.
وفي حين تصور الولايات المتحدة "المقاومة" على أنها وكيل إيراني يعمل بناءً على طلب طهران، فإن القرارات في التحالف لا تُفرض مركزياً، كما قال حمدان ومسؤولون آخرون في المقاومة. وفي المقابل، يعمل كل طرف على الموازنة بين القضايا الإقليمية والمحلية.
موقف حزب الله في لبنان
يُعَد حزب الله اللبناني هو الطرف غير الحكومي الأقوى في "محور المقاومة". وتأسَّس الحزب عام 1982 بمساعدة الحرس الثوري الإسلامي الإيراني لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان في ذلك الوقت. خاض حزب الله حرباً ثانية ضد إسرائيل في عام 2006، وهو الآن منخرط في تبادل محدود لإطلاق النار عبر الحدود الجنوبية للبنان، بضربات محسوبة بعناية تهدف إلى تحويل الموارد العسكرية الإسرائيلية، مع تجنب حرب واسعة النطاق.
وكان تصوير نصر الله لجبهة موحدة مصحوباً بمستوى معين من التنسيق العملياتي في جنوب لبنان، مع السماح لحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين باستخدام مناطق سيطرة حزب الله لمهاجمة إسرائيل، وسط تقارير تفيد بإنشاء غرفة عمليات لهذا الغرض.
هذا جزء من تكتيك حزب الله القتالي. وهو يبعث رسائل لإسرائيل مفادها أن فتح الجبهة ممكن في أي لحظة. وقال عزام الأيوبي، الأمين العام السابق للحزب الإسلامي السني اللبناني، الجماعة الإسلامية، الذي شارك جناحه العسكري الخامل سابقاً في النزاع، وأعلن مسؤوليته عن عدة هجمات على إسرائيل: "إن وجود الجماعات غير الشيعية هو جزء من هذه الرسالة، ما يعني أن المعركة ستكون واسعة النطاق".
أنهى العدوان الإسرائيلي على غزة فترة من الهدوء النسبي كانت الولايات المتحدة تأمل خلالها في إعادة توجيه اهتمامها ومواردها إلى أجزاء أخرى من العالم، وخاصة الصين. وتهدد الاضطرابات الجديدة بتقويض سنوات من الجهود الدبلوماسية لإصلاح العلاقات المتوترة مع الدول العربية مثل العراق، وقد أوقفت مساعي الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية. وعلاوة على ذلك، جددت الدعوات لانسحاب القوات الأمريكية المتمركزة في المنطقة.
كما تمثل العمليات في العراق نهاية هدنة أحادية الجانب توقفت خلالها الفصائل عن مهاجمة القوات الأمريكية في العراق للسماح للحكومة، التي جلبها أتباعها السياسيون إلى السلطة، بإدارة العلاقة من خلال الدبلوماسية. وكجزء من هذه الانتكاسة الأخيرة في العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق، تجددت المطالبات بتنفيذ التصويت البرلماني في يناير/كانون الثاني 2020 لطرد القوات الأجنبية. وأكد الحسيني أن "هذه العمليات لن تتوقف حتى إخراج آخر جندي أمريكي (من المنطقة)".
كانت القوات الأمريكية قد عادت إلى العراق في عام 2014 لمساعدة الحكومة في محاربة تنظيم الدولة "داعش"، وقد حاولت الولايات المتحدة منذ ذلك الحين التخلص من إرثها كقوة احتلال، وتصوير نفسها كشريك استراتيجي. وخرجت هذه الجهود عن مسارها عندما اغتالت أمريكا الجنرال الإيراني قاسم سليماني والقائد شبه العسكري العراقي أبو مهدي المهندس في يناير/كانون الثاني 2020، وهو عمل اعتبره العراق انتهاكاً لسيادته. ومنذ ذلك الحين، تهدف سلسلة من المفاوضات الثنائية إلى تخفيف التوترات وضمان استمرارية وجود القوات الأمريكية رغم قرار البرلمان بطردهم.
ورغم أن الفصائل العراقية هددت بالمزيد من التصعيد، فهي، مثل حزب الله اللبناني، مقيدة بالمصالح المحلية، ولا تريد حرباً أوسع نطاقاً. وقال مسؤول أمني عراقي طلب عدم الكشف عن هويته للتحدث علناً عن مسألة حساسة: "إنهم لا يريدون التورط في هذا الصراع. لديهم الكثير ليخسروه"، في إشارة إلى المصالح السياسية والاقتصادية التي ساهمت في تخفيف سلوك بعض الجماعات المسلحة في السنوات الأخيرة.
المأزق الأمريكي يصب في صالح إيران
في محاولة واضحة لتجنب تكرار ما حدث عام 2020 الذي أعقب اغتيال سليماني والمهندس، تجنبت إدارة بايدن في البداية الرد على الفصائل داخل العراق، ولم تنفذ سوى ضربات محدودة داخل سوريا، حيث تعمل جماعات عراقية مسلحة أيضاً. تغير ذلك يوم الثلاثاء، عندما قتلت غارة جوية أمريكية أحد عناصر كتائب حزب الله في بغداد بعد وقت قصير من قيام الجماعة بهجوم صاروخي على قاعدة عين الأسد في غرب العراق، أعقبتها بعد ساعات ضربة ثانية أكثر فتكاً على معقلٍ لكتائب حزب الله قرب بغداد خلَّفت خمسة قتلى.
وفي بيان له، قال وزير الدفاع لويد أوستن إن الضربات السابقة في سوريا كانت "منفصلة ومتمايزة عن الصراع المستمر بين إسرائيل وحماس"، وحثَّ "جميع الكيانات الحكومية وغير الحكومية على عدم اتخاذ إجراءات من شأنها أن تتصاعد إلى صراع إقليمي أوسع". تغذي مثل هذه التصريحات التصور السائد بين "المقاومة" بأن الولايات المتحدة ترفض الاعتراف بالسبب الجذري للأزمة وإصلاحه، وبدلاً من ذلك تزيد من تأجيج المظالم من خلال محاولة قمع ما تعتبره هذه الجماعات، والعديد من المسلمين، نضالاً مشروعاً.
قوبل قرار الأسبوع الماضي بفرض عقوبات جديدة على سبعة أعضاء من كتائب حزب الله، بما في ذلك الحسيني، بالإضافة إلى مجموعة أخرى، بالتحدي والسخرية. ورفض نصر الله أيضاً النداءات الأمريكية للحكومات في العراق ولبنان لكبح جماح الجماعات شبه العسكرية.
الخلاصة هنا هي أن المأزق الأمريكي في المنطقة بسبب الدعم المطلق من جانب إدارة جو بايدن للعدوان الإسرائيلي الغاشم والممتد على قطاع غزة يصب بشكل مباشر في صالح إيران، التي تصفها واشنطن بأنها الداعم الرئيس وربما الوحيد لمحور المقاومة.