في ظل متابعة العالم لعدوان إسرائيل المتواصل على قطاع غزة، يواصل المستوطنون حملتهم المسعورة ضد الفلسطينيين، فماذا يحدث في الضفة الغربية؟
كانت مدن وبلدات الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين قد شهدت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ما يمكن وصفه بحالة "هستيريا العنف المنفلت" من جانب دولة الاحتلال الإسرائيلي، جيشاً وشرطة ومستوطنين، علماً بأن العنف في الضفة والقدس كان العنوان الأبرز هذا العام، وحتى قبل عملية "طوفان الأقصى" العسكرية في غلاف غزة.
فمنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، يشن الاحتلال حملة اعتقالات واسعة في الضفة الغربية المحتلة طالت نحو 2000 فلسطيني، بحسب مؤسسات معنية بشؤون الأسرى. كما يقوم جيش الاحتلال بمداهمات يومية لمدن ومخيمات الضفة ويشتبك مع التظاهرات السلمية الداعمة لقطاع غزة.
المستوطنون "يستقوون" على أهالي الضفة الغربية
اكتسبت الحملة المسعورة لتوسيع المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية المحتلة زخماً مقلقاً للغاية، وتناول تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية كيف أن المستوطنين الإسرائيليين يستقوون بالحملة الجارية على الفلسطينيين لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة.
فالمستوطن اليهودي حاييم سيلبرشتاين قال للصحيفة البريطانية إنه لا يرى إلا رداً واحداً قد يشفي الغليل بعد هجوم "طوفان الأقصى" الذي شنته المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهو توسيع المستوطنات وتعزيز السيطرة المشددة بالفعل لإسرائيل على الضفة الغربية المحتلة.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
وقال سيلبرشتاين في مقابلة أجرتها معه الصحيفة البريطانية في مستوطنة بيت إيل: "دعونا نستفد مما حدث لتقوية أنفسنا، وتنمية جماعاتنا، وتوطيد جذورنا في وطننا"، فهذا "يجب أن يكون ردنا الأساسي على هذا العدوان".
وسيلبرشتاين واحد من نحو 500 ألف مستوطن يهودي يقيمون في الضفة الغربية المحتلة التي شهدت تصاعداً كبيراً في أعمال العنف منذ أن بدأت إسرائيل عدوانها على غزة في أعقاب هجوم "طوفان الأقصى" الذي شنَّته المقاومة الفلسطينية رداً على انتهاكات الاحتلال في بيت المقدس والأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقالت الأمم المتحدة إن 167 فلسطينياً في الضفة الغربية المحتلة استشهدوا برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ اندلاع الحرب، بينما استشهد ثمانية فلسطينيين آخرين برصاص مستوطنين. وقال مسعفون فلسطينيون ووسائل إعلام محلية إن قوات الاحتلال قتلت ثمانية فلسطينيين يوم الثلاثاء 14 نوفمبر/تشرين الثاني، منهم سبعة استشهدوا في اشتباكات خلال مداهمة جنود الاحتلال مخيم طولكرم. بينما قالت الأمم المتحدة إن هجمات المستوطنين الإسرائيليين أرغمت ما يقرب من 1000 فلسطيني على ترك قراهم.
إسرائيل توسع المستوطنات في الضفة
قالت ديانا بوتو، وهي محامية فلسطينية بارزة، للصحيفة البريطانية: "يرى المستوطنون في هجوم حماس فرصة" سانحة للاستغلال، "إنهم يستخدمون العنف للاستيلاء على الأراضي، ويعلمون أن ذلك لن يلفت انتباه أحد، لأن كل العيون متجهة نحو غزة".
والحقيقة أن بعض المستوطنين، الذين يزعمون أن الضفة الغربية المحتلة جزء من أرض إسرائيل، يرون أن ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول مسوِّغٌ للمضي قدماً في مساعيهم، إذ قالت المستوطنة الإسرائيلية ميري ماعوز عوفاديا، التي تعيش في مستوطنة نيفي تسوف: "إن ما حدث يساعد في ترويج رسالتنا بأن المعركة هنا لا تتعلق فقط بالأرض، بل إنها صراع ديني بين اليهودية والإسلام".
وزعمت المستوطنة: "كان اليسار [الإسرائيلي] يعتقد دائماً أنه ما إن تنسحب إسرائيل من يهودا والسامرة [الاسم الإسرائيلي للضفة الغربية] وتُعطيها الفلسطينيين، فإن ذلك سيحل المشكلة"، "لكن حماس هاجمت إسرائيل. وهذا يُثبت أنهم لا يقبلون وجود اليهود الذين يعيشون في هذه المنطقة، وأن غايتهم النهائية هي القضاء علينا جميعاً".
هذه هي الرواية الإسرائيلية التي تروج لها الحكومة المتطرفة برئاسة بنيامين نتنياهو وزعماء الأحزاب الدينية وأحزاب المستوطنات غير الشرعية، وهي الرواية التي لم تعد تنطلي على أغلب شعوب العالم وأغلب الزعماء حتى الغربيين منهم. فقد كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مع حكومة نتنياهو متوترة للغاية بسبب سياسة الاستيطان غير الشرعي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لكن الآن زادت جرأة بعض المستوطنين حتى إنهم صاروا يطمعون في إعادة المستوطنات داخل قطاع غزة الذي أجبرت إسرائيل على الانسحاب منه في عام 2005. وتحدثت دانييلا فايس، رئيسة منظمة ناشالا الاستيطانية المتطرفة، في مقابلة مع مجلة The New Yorker الأمريكية هذا الشهر عن "الجهود التي تبذلها حركتنا للعودة إلى غزة، و[السيطرة على] غزة بأكملها، وإنشاء المستوطنات".
لكن أوهام السيطرة على غزة لا تحظى بإجماع واسع بين الإسرائيليين. أما في الضفة الغربية، فإن المستوطنات لا تنفك تتوسع، على الرغم من أن معظم أطراف المجتمع الدولي ترى هذا التوسع غير قانوني، ويقول الفلسطينيون إنه يدمر أي أمل في "حل الدولتين".
وتتعدد أوجه تصاعد العنف في الضفة الغربية المحتلة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، فمنها الاشتباكات المتكررة بين قوات الاحتلال ومجموعات المقاومة المسلحة، ومنها المواجهات بين جنود الاحتلال والمتظاهرين، ومنها هجمات المستوطنين على أهالي القرى الفلسطينية.
جيش الاحتلال يطلق يد المستوطنين
كان جنود الاحتلال الإسرائيلي يستخدمون الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي أولاً للرد على المحتجين الفلسطينيين الذين يرشقونهم بالحجارة أثناء اقتحام قوات الاحتلال للأراضي المحتلة، لكن منذ السابع من أكتوبر تغيَّر ذلك إلى إطلاق الرصاص الحي مباشرة وفي الأجزاء العلوية من الجسم في أغلب الأحيان، بحسب تقارير المستشفيات في الضفة.
وأقرَّ قادة المستوطنين بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي زاد من نشاطه في مستوطنات الضفة الغربية المحتلة، إلا أنهم يزعمون أن ذلك بسبب تزايد التهديدات. وقال عوديد ريفيفي، عمدة بلدة إفرات الاستيطانية: "لا أحد يريد المخاطرة بوقوع المزيد" من التهديدات.
واقع الأمر أن الضفة الغربية المحتلة منذ عام 1967 كانت تشهد قبل وقوع الهجمات في 7 أكتوبر/تشرين الأول أشد أعمال العنف وطأة منذ نهاية الانتفاضة الفلسطينية الثانية في عام 2005، فقد كانت قوات الاحتلال تشن هجمات شبه يومية على المنطقة.
وقد زادت قوات الاحتلال الآن من حضورها في الضفة الغربية المحتلة، وهو ما يعني تفاقم خطر الاشتباكات. وقال أوهاد تال، وهو مستوطن ونائب في الكنيست عن حزب "الصهيونية الدينية" اليميني المتطرف: "لا شك أن تزايد الانتشار العسكري يُسهم في تصاعد التوتر الذي تشهده المنطقة"، "لكنه يبث الردع كذلك".
واستدل تال على الردع الذي تُحدثه قوات الاحتلال بالغارة الذي شنتها قوات إسرائيلية خاصة في الضفة الغربية المحتلة هذا الشهر، وزعم جيش الاحتلال أنه قتل فيها أربعة فلسطينيين ينتمون إلى خلية مسلحة كانت تخطط لتنفيذ هجمات بأوامر من حركة حماس، وهي مزاعم لا يمكن التحقق منها بطبيعة الحال.
ومع ذلك، فإن أعمال العنف الأخيرة لا ترجع فقط إلى تزايد انتشار الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، فالأمم المتحدة وجهات حقوقية أخرى تقول إن كثيراً من هذه الأعمال يتسبب فيها المستوطنون الإسرائيليون المتطرفون.
وقال دبلوماسي غربي للصحيفة البريطانية: "كانوا يشعرون في السابق بأن هناك إطاراً قانونياً يُقيِّدهم، أما الآن فقد بدأ هذا الإطار يتقوَّض"، إضافة إلى ذلك، فإننا "نشهد اختلاطاً في الخط الفاصل بين الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، فقد باتت كثير من هجمات المستوطنين يرافقها جنود من الجيش يرتدون الزي الرسمي ويشهدون أعمال العنف" التي يرتكبها هؤلاء المستوطنون.
وزاد من شوكة المستوطنين أن لهم ومؤيديهم حضوراً قائماً في الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهي التي يشيع وصفها بأنها أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ إسرائيل. ومن هؤلاء وزير المالية بتسلئيل سموتريش، الذي يقيم بإحدى المستوطنات وقال من قبلُ إنه لا وجود لشعب فلسطيني. وقال الدبلوماسي: "منذ أن تولت هذه الحكومة السلطة، بات المستوطنون في حالة إفلات شبه كامل من العقاب".
وقد أبلغت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "بتسيلم" عن هجمات كثيرة شنَّها المستوطنون على الأهالي الفلسطينيين في الشهور الماضية، و"قد هددوهم بالسلاح في بعض هذه الهجمات، أو أطلقوا النار عليهم"، فضلاً عن إتلاف ممتلكات الأهالي، وسرقة الماشية، وقطع الأشجار، وتخريب خزانات المياه.
وجاء في تقرير صدر حديثاً عن منظمة "مشروع بيانات الصراعات المسلحة وأحداثها"، أن "تأييد السياسيين اليمينيين المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية للمستوطنين زاد من جرأتهم، ومن المرجح أن يغتنم المستوطنون فرصة الحرب المستعرة في غزة لتقوية مساعي السيطرة على مزيد من الأراضي في الضفة الغربية المحتلة".
في المقابل، يُلقي قادة المستوطنين اللوم في هذه الهجمات على من يصفونهم بقلةٍ من المتهورين الذين يُبالغ في أثرهم. وقال ريفيفي، رئيس بلدية إفرات: "على الدولة أن تحاسب هؤلاء الأشخاص، وهذا ما يحدث"، "لكن واقع الأمر أننا نميل إلى إعطاء اهتمام زائد لأقليةٍ متطرفة وصاخبة… وهذا لا يزيدهم إلا صخباً".
ومع ذلك، أبدى أقرب حلفاء إسرائيل مخاوفهم من تأثير هؤلاء المستوطنين. وقال وزراء خارجية مجموعة السبع، الأسبوع الماضي، إن تصاعد عنف المستوطنين المتطرفين "غير مقبول، ويقوّض الأمن في الضفة الغربية، ويهدد آفاق السلام الدائم".
ويزعم المستوطنون أنهم هم الذين يُهاجَمون. وقال سيلبرشتاين إنه بات يحمل مسدساً طوال الوقت منذ أن فقدت ابنته جنينها حين أطلق مسلحون فلسطينيون النار عليها في عام 2019. ويعرض لزائريه زجاجة مولوتوف يدعي أنها ألقيت في مستوطنة بيت إيل قُبيل الحرب على غزة. وادعى سيلبرشتاين أن الجيش الإسرائيلي كان يضبط نفسه في التعامل مع هذه الأعمال ، أما الآن فلم يعد يتوانى عن مواجهتها، ولا يتسامح معها.
قالت المحامية الفلسطينية ديانا بوتو إن التشدد الإسرائيلي يزيد من صعوبة الحياة على الفلسطينيين الذين يعيشون وسط المستوطنين، "فقد زاد العنف، والتضييق، وإجبار الناس على الرحيل عن منازلهم، زيادةً غير مسبوقة"، و"المستوطنون يستغلون هذه الفرصة بإبراز سيادتهم" وبسط سيطرتهم.