يركز الموقف الأمريكي على الدعم المطلق والانحياز لإسرائيل في عدوانها المستمر على قطاع غزة، لكنها في الوقت نفسه تسعى لتحقيق عدة أهداف رئيسية، فما هي؟
ويخضع موقف إدارة بايدن من العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول للدراسة من جميع الأطراف حول العالم؛ إذ يشن جيش الاحتلال، بدعم أمريكي وغربي مطلق، حملة من القصف الهمجي على قطاع غزة منذ عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر؛ حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
ما ثوابت أمريكا في الحرب على غزة؟
منصة "أسباب" المعنية بالتحليل السياسي والاستراتيجي نشرت تقريراً يرصد أبعاد الموقف الأمريكي وأهدافه، التي يأتي على رأسها التركيز على مصالح الأمن القومي الأمريكي المعرضة للخطر في الشرق الأوسط وتنفيذ نهج يخدمها على أفضل وجه، والدعم المتواصل من واشنطن وحلفائها الغربيين بشأن ما يصفونه بأنه "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" واتخاذ الإجراءات المناسبة ضد أي تهديدات، وإظهار التزام الولايات المتحدة العميق تجاه حليفتها إسرائيل بما يشمل الدعم المالي والمساعدات العسكرية والأمنية وحشد الدعم العالمي لحرب إسرائيل المستمرة في غزة.
فقد وضعت الإدارة الأمريكية مجموعة من الاعتبارات التي سعت إلى الالتزام بها في إطار دعمها العميق لإسرائيل في الحرب على قطاع غزة، وشملت تلك المحددات احتواء الصراع ومنع تحوله إلى حرب إقليمية واسعة قد تؤدي إلى تورط القوات الأمريكية بشكل مباشر في القتال، وضمان سلامة الرهائن الذين تحتجزهم حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وأولوية تحريرهم، وكذلك ضمان إمكانية وصول إمدادات الإغاثة الإنسانية إلى غزة.
تدرك واشنطن أن السابع من أكتوبر/تشرين الأول يمثل لحظة مفصلية لسياستها في الشرق الأوسط وعلاقتها بحلفائها في المنطقة، فبالرغم من التحديات الاستراتيجية التي تواجهها أمريكا في أكثر من منطقة حول العالم ومواجهتها لكل من الصين وروسيا، ومع ذلك، فإن الشرق الأوسط سيتطلب من واشنطن الاهتمام والتركيز المستمرين، وستتجه واشنطن إلى تعزيز تحركاتها في المنطقة، بعد أن كان الشرق الأوسط يبدو بعيداً عن أولويات إدارة بايدن.
وفي هذا الإطار، ركزت الدبلوماسية الأمريكية منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة على تحقيق عدة أهداف رئيسية، يمكن تلخيصها في عدة محاور:
– الاستمرار في التركيز الواضح على مصالح الأمن القومي الأمريكي المعرضة للخطر في منطقة الشرق الأوسط، وتنفيذ نهج يخدمها على أفضل وجه.
– ضمان أن تظل إسرائيل واثقة من أنها تحظى بدعم قوي من أمريكا وحلفائها الغربيين بشأن "حقها في الدفاع عن نفسها"، واتخاذ الإجراءات المناسبة ضد من يمثل تهديداً لها. وفي هذا الإطار، قدمت أمريكا منذ بدء الحرب دعماً هائلاً لإسرائيل من خلال مواصلة تأكيد رفضها لأي محاولات لوقف إطلاق النار، بالرغم من الأعداد الضخمة من الشهداء المدنيين، وبخاصة الأطفال والنساء، والأوضاع الإنسانية المتدهورة في قطاع غزة، بسبب استهداف المستشفيات وحملة التجويع والعقاب الجماعي.
– قوضت واشنطن أيضاً الجهود الدولية الرامية إلى كبح جماح استخدام إسرائيل للقوة الغاشمة في غزة، بما في ذلك التصويت ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يدعو إلى "هدنة إنسانية" لتوصيل المساعدات. وتسعى واشنطن من وراء الإصرار على عدم وقف إطلاق النار إلى ضمان أن تنهي إسرائيل الحرب وقد استطاعت القضاء على قدرات حماس الهجومية إلى حد كبير، وبمعنى آخر خروج إسرائيل من الحرب وهي صاحبة اليد العليا، وضمان أن واقع ما بعد الحرب يختلف جذرياً عما سبقها.
– إظهار التزام الولايات المتحدة العميق تجاه حليفتها إسرائيل، وذلك عبر تقديم المساعدات المباشرة لإسرائيل لتعزيز قدراتها على تحقيق أهدافها في العدوان على قطاع غزة، مع الاستمرار في تجديد المخزون العسكري الإسرائيلي وضمان عدم افتقار إسرائيل إلى المعدات الحيوية لتحقيق أهدافها العسكرية، خاصة الصواريخ الاعتراضية لمنظومة "القبة الحديدية" والقنابل الموجهة، فضلاً عن إرسال قوات خاصة أمريكية لتقديم المشورة للقوات الإسرائيلية خلال التجهيز للعمليات البرية.
– حشد الدعم الدولي لإسرائيل، وتظهر الصورة الأكثر وضوحاً للجهود الأمريكية لتحقيق هذا الهدف في البيان المشترك الصادر عن رئيسي الولايات المتحدة وفرنسا، والمستشار الألماني، ورئيسي الوزراء البريطاني والإيطالي، والذي تضمن التزاماً صريحاً بضمان حصول إسرائيل على الوسائل اللازمة "للدفاع عن نفسها".
ما نقاط الخلاف بين أمريكا وإسرائيل؟
يعد المدى الزمني للحرب على قطاع غزة هو نقطة الخلاف الرئيسية المتوقعة بين الإدارة الأمريكية وإسرائيل، واتضح ذلك بشكل جلي عندما طلبت إدارة بايدن توضيحات من الحكومة الإسرائيلية بشأن تصريحات بنيامين نتنياهو الأخيرة حول "احتلال إسرائيل للقطاع لأجل غير مسمى".
إذ إن واشنطن لا تريد تحمل مزيد من الضغوط على مواردها المالية والعسكرية واستمرار استنزاف سمعتها الدولية وزيادة الانقسام الداخلي بين الديمقراطيين والجمهوريين، وتريد أمريكا تحقيق مكاسب بأسرع وقت ممكن والانتقال إلى مرحلة أخرى تخفف عليها تلك الضغوط وتتناسب مع سياق حملة الانتخابات الرئاسية في العام القادم. بينما تريد إسرائيل أن تواصل القتال مع استمرار أمريكا قيادتها للحرب حتى تحقق ما تريد من أهداف عسكرية وسياسية، والتي تراها واشنطن أهدافاً غير قابلة للتحقيق بتكلفة مقبولة.
كما أن احتواء الصراع ومنع تحوله إلى حرب إقليمية واسعة يعتبر هدفاَ أمريكياً رئيسياَ، وذلك لتقليل خطر تورط القوات الأمريكية بشكل مباشر في القتال، وما يمكن أن ينتج عنه من مخاطر تهدد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. وكان أحد الأهداف الرئيسية الواضحة وراء إرسال حاملة الطائرات الأكبر والأحدث في البحرية الأمريكية "يو إس إس جيرالد آر فورد" قبالة سواحل إسرائيل، وبعد فترة وجيزة إرسال حاملة الطائرات "يو إس إس دوايت دي أيزنهاور" إلى الخليج العربي؛ هو توجيه رسالة ردع قوية إلى إيران وحزب الله، والضغط عليهما لعدم التدخل وفتح جبهة أخرى مع إسرائيل في الشمال وتوسيع رقعة الصراع في الشرق الأوسط.
وبالتالي فإن إطالة المدى الزمني للحرب في قطاع غزة ربما يؤدي إلى اتساع نطاق الصراع، ومن ثم تدمير أحد أهم أهداف السياسة الأمريكية في هذه المرحلة.
بالإضافة إلى ذلك، يعتبر تأمين إطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم حماس، والذين يقدر عددهم بـ 13 مواطناً أمريكياً، وضمان سلامة المواطنين الأمريكيين المحاصرين في غزة والذي يبلغ عددهم حوالي 600 مواطن أمريكي، هدفا ذا أولوية وأهمية خاصة للإدارة الأمريكية، وفي هذا الإطار تحاول واشنطن إلى حد ما حث إسرائيل على ضبط النفس والحد من الخسائر في صفوف المدنيين.
عامل الوقت المتمثل في المدى الزمني للعملية البرية الإسرائيلية يعد حاسماً إذاً بالنسبة للقرار الأمريكي بشأن الحرب في غزة، ويعد نقطة الخلاف الرئيسية بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية؛ فكلما طال أمد القتال وأصبح أكثر تعقيداً، اتسعت الفجوات بين السياسة الأمريكية والإسرائيلية، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب رئيسية:
– الضغط على الموارد الأمريكية: تتخوف الولايات المتحدة من أن استغراق جهودها في الشرق الأوسط سيؤثر على قدرتها على معالجة التحديات الدولية الأخرى التي تواجهها، إذ إن الاحتفاظ بمجموعتين هجوميتين من حاملات الطائرات وتعزيزات عسكرية أخرى في الشرق الأوسط من شأنه أن يقلل من الموارد التي تحتاجها واشنطن لمواجهة التهديدات في أوروبا وآسيا؛ حيث تحتدم المنافسة مع روسيا والصين. فعلى سبيل المثال، هناك قلق لدى مسؤولي الدفاع الأمريكيين من أن إطالة أمد الحرب أو اتساع نطاقها ليشمل الجبهة الشمالية ضد حزب الله، قد يؤثر على إمدادات الأسلحة الأمريكية إلى أوكرانيا، حيث تستخدم كل من القوات الإسرائيلية والأوكرانية قذيفة مدفعية عيار 155 ملم أمريكية الصنع.
– نزيف المصداقية الأمريكية: تواجه واشنطن تحدياً هائلاً فيما يتعلق بمصداقيتها وقيادتها للنظام الدولي، بعدما وضعت إدارة بايدن في مقدمة استراتيجية الأمن القومي المعلنة في أواخر العام الماضي أن "النظام القائم على القواعد يجب أن يظل الأساس للسلام العالمي". وذكرت الاستراتيجية لاحقاً أن "بناء تحالف شامل" لهذا النظام "يتطلب التمسك بالمبادئ التأسيسية للأمم المتحدة، بما في ذلك القانون الدولي". ومع ذلك فإن الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل يضع القيادة الأمريكية للنظام الدولي على المحك، إذ إن الهجمات الإسرائيلية تنتهك القانون الإنساني الدولي ولا تحمي المدنيين الفلسطينيين، وتتسبب في مقتل آلاف الأطفال وتدمر معظم نظام الرعاية الصحية في غزة. كما أن إسرائيل تمنع تدفقات المساعدات الإنسانية اللازمة والضرورية للقطاع؛ الأمر الذي أدى إلى انتقادات واسعة من قادة وشعوب العالم والدول العربية بشأن ازدواجية المعايير الأمريكية.
ما تأثير الموقف الداخلي على إدارة بايدن؟
– يدرك جو بايدن أن الوقت ضيق فيما يتعلق بمواصلة دعمه لإسرائيل في حرب غزة، إذ إن احتمال مواجهته للرئيس السابق دونالد ترامب في صراع متقارب على الرئاسة، سيلزم بايدن خلال الأشهر المقبلة بإعطاء الأولوية للاعتبارات السياسية الداخلية على حساب ما يتعلق بسياسة الشرق الأوسط بشكل عام والحرب في غزة بشكل خاص.
– كما أن الانقسام السياسي الداخلي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري والذي ستزداد حدته مع بداية الحملة الانتخابية في مطلع العام القادم، سيؤدي إلى تفاقم الصراع حول ربط المساعدات لإسرائيل بالمساعدات لأوكرانيا؛ مما سيصعب على الإدارة الأمريكية المضي قدماً في اتخاذ قرارات سياسية مهمة، مثل التمويل أو الموافقة على مشروع القانون باستخدام القوة.
– وربما تؤدي إطالة أمد المعركة إلى تغير الموقف الأمريكي، إذ تدرك واشنطن أن القضاء على حماس من غير المرجح أن يكون هدفاً قابلاً للتحقيق بتكلفة مقبولة، كما تدرك أيضاً حقيقة أن حماس تحتجز ما يزيد عن 200 أسير تريد الإدارة الأمريكية استعادتهم؛ لذلك فإن تأخير أمريكا لوقف إطلاق النار هدفه في الحقيقة إتاحة الوقت لإسرائيل لتحقيق أكبر قدر من المكاسب وفي مقدمتها استبدال التصورات الإقليمية عن ضعف إسرائيل وهشاشتها بصورة القوة الإسرائيلية التي لا تقهر، وذلك قبل أن تتزايد الضغوط على الإدارة الأمريكية ويتحول الوضع إلى وقف لإطلاق النار والمفاوضات.
– لذلك ربما تحتاج الولايات المتحدة إلى وقف إطلاق النار في أقرب وقت، حيث سيؤدي إنهاء الحرب إلى تقليل مخاطر الصراعات المستقبلية في الشرق الأوسط التي قد تجر الولايات المتحدة مرة أخرى إلى المنطقة. وكذلك فإن وقف التصعيد في الشرق الأوسط يمكن أن يؤدي إلى تخفيف الضغط على الموارد الأمريكية، ووقف نزيف المصداقية الأمريكية، بالإضافة إلى تمكين الحزبين الديمقراطي والجمهوري من الاستعداد لحملة انتخابية يبدو أنها ستكون الأصعب في تاريخ الانتخابات الأمريكية.
– وبشكل عام، فإنه على الرغم من التحديات الاستراتيجية التي تواجهها أمريكا في أكثر من منطقة حول العالم لاسيما في شرق أوروبا والمواجهة الروسية وكذلك جنوب شرق آسيا ومنافسة الصعود الصيني، إلا أن الشرق الأوسط يتطلب من واشنطن الاهتمام والتركيز المستمرين لأسباب ليس أقلها أن موارد المنطقة ومركزيتها الجغرافية تؤثر على المنافسة العالمية طويلة الأمد.
– كما كشفت حرب غزة فشل واشنطن على مدار الإدارات المتعاقبة في إدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ حيث سعت واشنطن على مدى عقود إلى احتكار السيطرة على جهود الوساطة، وقامت بتبرير عدم رغبتها في الانخراط في جهود سلام جادة في العقدين الأخيرين باعتبارها لم تعد واقعية، وتجاهلت الأوضاع المتدهورة في الأراضي الفلسطينية وصعود اليمين الإسرائيلي.
– تدرك واشنطن الآن أن مسار العودة إلى المفاوضات أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى، ورغم استمرار الولايات المتحدة في دعم الجهود العسكرية الإسرائيلية، فإنها لن تتخلى عن الأفق السياسي لحل الدولتين. وستواصل الولايات المتحدة التأكيد على ضرورة تقديم مساعدات إنسانية للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، مع استمرار دعمها للسلطة الفلسطينية بالشكل الذي يسمح للأخيرة بالانخراط في مسار مفاوضات مع إسرائيل. وفي المقابل قد تضغط واشنطن على حكومة نتنياهو والحكومات الإسرائيلية المستقبلية لتغيير سياساتها الاستيطانية، ونهج إسرائيل الداخلي مع الفلسطينيين الذي تسببت في إشعال صراعات لا تخدم بشكل مباشر المصالح الأمريكية.
وبالرغم من أن حرب غزة قد تسببت في تعطيل صفقة تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية التي سعت واشنطن إلى تحقيقها، إلا أن الأخيرة ستواصل جهودها للتوصل إلى اتفاق تطبيع ثنائي بين السعودية وإسرائيل، حيث تدرك واشنطن أن الحفاظ على اتفاقيات أبراهام وتوسيعها، فضلاً عن استقرار علاقات إسرائيل مع مصر والأردن، يشكل جزءاً حاسماً من أي بنية أمنية مستقرة في الشرق الأوسط في المستقبل، الأمر الذي سيقوض التهديدات الإيرانية لحلفاء أمريكا في المنطقة، وكذلك سيعمل على مواجهة تزايد النفوذ الصيني والتركي في الشرق الأوسط.