تجاهل جو بايدن الشرق الأوسط ليركز على "احتواء" الصين، واندلعت حرب أوكرانيا لتقدم أمريكا دعماً غير محدود، والآن تفعل الشيء نفسه مع إسرائيل، فكم وعداً تستطيع واشنطن الوفاء به لحلفائها؟
هذا السؤال الذي يتردد الآن بين حلفاء أمريكا رصدته صحيفة New York Times الأمريكية في تقرير لها يرصد التخبط الذي تواجهه السياسة الخارجية لإدارة الرئيس جو بايدن، في ظل انقسام داخلي يزداد عمقاً واستقطاباً في كل ساعة.
فمنذ تولى السلطة في البيت الأبيض قدم وعوداً لحلفاء الولايات المتحدة حول العالم بأن "أمريكا عادت لمقعد قيادة العالم الحر"، وركز سياسته الخارجية على مواجهة الزحف الصيني نحو مزاحمة أمريكا على قيادة النظام العالمي أو حتى استبدالها. ولم يكن للشرق الأوسط وجود تقريباً في أولويات سياسة بايدن الخارجية من الأساس.
حلفاء أمريكا في آسيا أولوية لبايدن
كان الاتجاه الأمريكي نحو آسيا قد بدأ في اكتساب بعض الزخم أخيراً بعد طول انتظار، حيث أبرمت الولايات المتحدة اتفاقات أمنية جديدة مع الفلبين والهند، ونفذت مناورات عسكرية موسعة، ووضعت خططاً مع حلفائها من أجل الاحتفاظ بأفضليتها على التقنيات الصينية.
لكن الشرق الأوسط عاد مرة أخرى ليحتل قمة الأولويات الأمريكية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حين شن جيش الاحتلال، بدعم أمريكي وغربي مطلق، حملة من القصف الهمجي على قطاع غزة منذ عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر؛ حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
لكن الدعم الأمريكي المطلق والانحياز الأعمى لإسرائيل في عدوانها على قطاع غزة يبدو كأنه خسارة تؤخّر التقدم على صعيد بعض التحديات الأكثر إلحاحاً، وذلك بالنسبة لشركاء الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، الذين كانوا قلقين بالفعل من عدم تحرك واشنطن بالسرعة الكافية لمواجهة بكين.
إذ قال النائب أكيشيا ناغاشيما، مستشار الأمن القومي السابق في اليابان، خلال منتدى استراتيجي بأستراليا الأسبوع الماضي: "إن أكثر ما يُثير قلقنا هو تحويل الموارد العسكرية الأمريكية من شرق آسيا إلى أوروبا، ثم إلى الشرق الأوسط. ونأمل بصدقٍ أن ينتهي هذا الصراع تماماً في أقرب وقتٍ ممكن".
فيما قال القادة العسكريون الأمريكيون إنه ليست هناك أية معدات غادرت منطقة المحيطين الهندي والهادئ. كما يستعد وزير الدفاع لويد أوستن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن لجولة في آسيا خلال الأسبوع الجاري من أجل نقل رسائل الطمأنة. حيث سيزور كلا الوزيرين الهند، واليابان، وكوريا الجنوبية، وإندونيسيا، سواء معاً أو بشكلٍ منفصل.
أمريكا "تسبب قلقاً" لحلفائها
وخلال تلك الجولة، سيستمع كلا الوزيرين على الأرجح إلى مزيجٍ متداخل من الآراء بشأن غزة. إذ تُعد الهند أكثر دعماً لإسرائيل، بينما تسعى اليابان إلى نهج أكثر توازناً. فيما تشعر إندونيسيا، الدولة ذات أكبر تعداد من المسلمين في العالم، بغضب متزايد حيال آلاف الوفيات من المدنيين بسبب محاولة الغزو الإسرائيلي المتعثر.
لكن جميع تلك الدول تشترك في تساؤلاتها حول الكيفية التي ستوازن بها واشنطن بين تورطها في حرب نائيةٍ أخرى -إلى جانب الحرب الأوكرانية- وبين احتياجات منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ويتساءل الكثيرون قائلين: كم وعداً بالدعم تستطيع الولايات المتحدة تقديمه لمختلف الدول والوفاء به، بينما تعاني هي من إنهاك قوتها في الخارج والانقسام السياسي في الداخل؟
تُعَدُّ الأسلحة واحدة من مجالات القلق المشتركة. إذ عانت صناعة الأسلحة الأمريكية من نقص الذخائر التي توفرها البلاد لكل من أوكرانيا وإسرائيل، بما فيها قذائف المدفعية عيار 155 ملم. كما يجري إرسال الذخائر الموجهة والأنظمة الأمريكية الأكثر تعقيداً إلى كلا الصراعين، حتى بالتزامن مع انتظار الشركاء الأمريكيين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لاستلام شحنات أسلحتهم الخاصة. ولا يبدو بطبيعة الحال أن بايدن يشغل نفسه بالتناقض الصارخ بين الموقفين، بل إنه دافع عن هذا التناقض بين دعم الاحتلال الإسرائيلي في غزة وتبرير دعم أوكرانيا بأنها تتعرض لغزو روسي.
ربما تعاني دول اليابان، وتايوان، وأستراليا من تأخير شحنات معداتها العسكرية التي تعاقدت عليها، وحصلت على وعود من الولايات المتحدة باستلامها، بحسب تقرير نيويورك تايمز. وقال أندرو نين-دزو يانغ، وزير الدفاع التايواني الأسبق: "لا يتعلق الأمر بالعتاد فحسب. بل يجب تعليم وتدريب الناس على كيفية تشغيل تلك الأنظمة. ويتمثل مصدر القلق في أن الولايات المتحدة لن تتمتع بقدرات أكثر فعالية ووفرة من أجل ردع الصين".
وقد تختلف تأثيرات العدوان الإسرائيلي على غزة إذا طال أمدها، فربما يؤدي الصراع المطول إلى استنزاف الترسانات الأمريكية أكثر، لكنه قد يُخبر الصين بمدى الصعوبة الاستثنائية لحرب المدن، وقد يردعها ذلك عن المضي قدماً في تهديداتها بالاستيلاء على جزيرة تايوان المكتظة بالسكان.
في الوقت الراهن، يبدو أن بكين تُفضل مواصلة سياسة حافة الهاوية، فبعد أسبوعين من العدوان الإسرائيلي على غزة، اصطدمت سفينة خفر سواحل وسفينة ميليشيا بحرية صينية بمراكب فلبينية عند جزيرة توماس شول الثاني. وتُعَدُّ هذه الواقعة إحدى أخطر المواجهات بين البلدين خلال تاريخ نزاعهما على المنطقة منذ أكثر من 20 عاماً.
وبعدها بأيام، حلقت مقاتلة نفاثة صينية على بعد ثلاثة أمتار فقط من قاذفة قنابل أمريكية طراز بي-52، وذلك خلال مناورتها المسائية فوق بحر الصين الجنوبي، وكادت تصطدم بها في الواقع. وقد وصف الجيش الأمريكي تلك الوقائع بأنها تمثل "نمطاً خطيراً من سلوكيات التشغيل القسرية والمُهددة".
هل سقطت "ورقة التوت" عن أمريكا أمام الحلفاء؟
يرى الأدميرال جون أكويلينو، قائد القوات الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، أن هدف الصين يتمثل في "إجبار الولايات المتحدة على مغادرة المنطقة". بينما أكّد مسؤولو البنتاغون على أن ذلك لن يحدث.
لكن المشككين في مدى التزام أمريكا يرون أن التقلبات الشديدة في دائرة انتباه واشنطن هي جزء لا يتجزأ من تاريخها. إذ قال جورج بوش الابن خلال حملته الانتخابية عام 2000: "عندما أصبح رئيساً، لن يكون لدى الصين شك في قوتنا وأهدافنا داخل المنطقة، وكذلك في التزامنا تجاه حلفائنا الديمقراطيين بجميع أنحاء آسيا".
لكن بعد شهرٍ واحد من هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول عام 2001، سافر بوش إلى بكين للقاء الزعيم الصيني حينها جيانغ زيمين. وأكد بوش خلال الزيارة على أهمية التجارة والحاجة لمحاربة الإرهاب معاً، متناسياً كل حديثه السابق عن اعتبار العملاق الصاعد بمثابة "منافس استراتيجي".
ولم تنس الهند ذلك التقلب، حيث أدت الحرب في أفغانستان إلى تقارب الولايات المتحدة مع باكستان، العدوة اللدودة لنيودلهي. وفي ظل الاجتماع المقرر بين بايدن وشي جين بينغ خلال قمة في سان فرانسيسكو الشهر الجاري، يتساءل بعض المعلقين الهنود عما إذا كانت واشنطن ستعود بتركيزها إلى الشرق الأوسط من جديد.
إذ قال راجا موهان، الزميل الأقدم في Asia Society Policy Institute بنيودلهي لنيويورك تايمز: "إذا تقررت العودة إلى علاقة التجارة القديمة وفكرة 'أننا سنتوصل إلى تسويةٍ في آسيا'، فسيؤثر ذلك على تايوان واليابان والهند وكافة جيراننا. لكنني لا أعتقد أننا وصلنا إلى تلك المرحلة بعد".
وبالنسبة لبعض الدول، سنجد أن تجديد الصراع بشأن القضية الفلسطينية أثار القناعات القديمة بأن الولايات المتحدة هي دولة مناهضة للمسلمين، أو شديدة التحيز لإسرائيل على أقل تقدير. إذ لم يعد البعض يثق في الولايات المتحدة باعتبارها وسيطاً عادلاً، خاصةً بعد مشاهدة واشنطن لسنوات وهي تتفادى مواجهة ما يتعرض له الفلسطينيون على يد الحكومة الإسرائيلية ومستوطنيها المتطرفين.
ومن المرجح أن يواجه وزير الدفاع أوستن جمهوراً غاضباً أو حتى احتجاجات مناهضة للولايات المتحدة عند وصوله إلى إندونيسيا، على الرغم من تصريحاته بأنه "أوصى الجيش الإسرائيلي بتجنب وقوع إصابات مدنية في غزة". حيث قال تشونغ جا إيان، الأستاذ المساعد في العلوم السياسية بجامعة سنغافورة الوطنية: "هناك استهزاء كبير بالدعوات الأمريكية التي تطالب الإسرائيليين بضبط النفس".
وأردف تشونغ أن جهود بلينكن للقاء زعماء العرب ومحاولة التوسط في هدنة لأغراض إنسانية "قد تخفف من الانطباع القائل بأن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل بغض النظر عن تصرفاتها".
لكن اليابان والعديد من شركاء الولايات المتحدة في آسيا يرون أن الحرب في غزة تُهدد بتعطيل إمدادات النفط والتقدم المُحرز على صعيد الأمن، لهذا فإن سرعة انتهاء الحرب ستساعد في تسريع العودة إلى ما تعتبره واشنطن أهم تحدياتها: ردع الصين والتنافس معها داخل عالم مترابط.
وبسؤال بلينكن يوم الأربعاء، الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني، عما إذا كانت الولايات المتحدة منشغلة بصراعي غزة وأوكرانيا لدرجةٍ تمنعها من مواصلة اتجاهها نحو آسيا؛ أجاب وزير الخارجية موضحاً: "أستطيع القول إننا نتمتع بالعزيمة، ونركض ونحن نلوك العلكة في الوقت ذاته كما يقولون. إن منطقة المحيطين الهندي والهادئ هي منطقة حيوية لمستقبلنا".
ثم أردف بلينكن: "حتى أثناء التعامل مع أزمة حقيقية في غزة، سنظل قادرين على متابعة جميع مصالحنا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والتفاعل معها بشكلٍ كامل".
لكن مسألة أن الحلفاء يصدقون ذلك بالفعل أم لا تظل محل شك بطبيعة الحال/ خصوصا وأن بايدن تولى المسؤولية بعد دونالد ترامب الذي تسببت رئاسته (2016-2020) في فقدان حلفاء واشنطن الثقة فيها بشكل كبير، وها هو بايدن يبدو وكأنه يكرر الأمر ذاته.