دخلت حرب إسرائيل على غزة شهرها الثاني، فما تأثير الحرب الإسرائيلية على القطاع على اقتصاد دولة الاحتلال؟
تناول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية عنوانه "اقتصاد إسرائيل في زمن الحرب لن يستطيع الصمود للأبد"، تأثير العدوان على جميع قطاعات الاقتصاد، سواء على المدى القصير والمتوسط أو حتى على المدى البعيد.
كانت إسرائيل قد شنت، بدعم أمريكي وغربي مطلق، حملة من القصف الهمجي على قطاع غزة منذ عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
تراجع عملة إسرائيل بعد الحرب على غزة
كان الشيكل، العملة الإسرائيلية، قد تراجع إلى أدنى مستوى له منذ 14 عاماً، والثلاثاء 7 نوفمبر/تشرين الثاني، قال بنك إسرائيل المركزي إنه باع 8.2 مليار دولار من النقد الأجنبي في أكتوبر/تشرين الأول، مما أدى إلى تراجع الاحتياطي إلى 191.235 مليار دولار.
وأطلق المركزي برنامجاً بقيمة 30 مليار دولار لبيع النقد الأجنبي مع بداية الحرب على قطاع غزة لمنع حدوث تدهور حاد في سعر صرف الشيكل، وهذه هي المرة الأولى على الإطلاق التي يبيع فيها النقد الأجنبي. وكانت الاحتياطيات الأجنبية لدى البنك في سبتمبر/أيلول تبلغ 198.553 مليار دولار.
لكن الخبراء يقولون إن الصراع المستمر سيُكلف الاقتصاد الإسرائيلي مليارات إضافية، وسيستغرق التعافي منه فترة أطول مما كان معتاداً في الماضي. ويعمل المتطوعون في الداخل والخارج على توفير عمالةٍ إضافية وتقديم المساعدات الاقتصادية؛ لكنها بادرةٌ لن تكفي لتعويض العجز الاقتصادي.
ميشيل ستراوزينسكي، خبير الاقتصاد بالجامعة العبرية في القدس ومدير قسم الأبحاث السابق في بنك إسرائيل المركزي، قال لفورين بوليسي إن تكلفة المواجهتين السابقتين (حرب لبنان عام 2005 والحرب على غزة عام 2014) بلغت 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي وأثرت على قطاع السياحة بشكلٍ أساسي. لكن "التقديرات تُشير هذه المرة إلى تراجع يتراوح بين 3.5% و15% على أساسٍ سنوي" خلال الربع الأخير من العام الجاري.
إذ تعرضت بلدات كاملة للتهجير وأُغلقت العديد من المحال التجارية بالتزامن مع نزوح 250 ألف شخص، واضطرارهم للبحث عن ملجأ في فنادق البلاد أو لدى الأقارب القاطنين في أماكن أخرى. علاوةً على أن استدعاء 360 ألف جندي احتياط كانوا يشغلون مختلف الوظائف في وقت السلم قد أنهك الشركات، مما يُعرّض استمرارية نموذجها الربحي للخطر. وأردف ستراوزينسكي: "إذا طال أمد الحرب، فسوف يؤدي نقص الموارد البشرية إلى تكلفةٍ باهظةٍ على الاقتصاد الإسرائيلي".
الزراعة والسياحة.. فاتورة باهظة
فرّ قرابة الـ7,000 مواطن تايلاندي من إسرائيل بعد أن كانوا يشكلون الجزء الأكبر من العمالة المُزارعة، وذلك عقب عملية طوفان الأقصى. وكان لذلك تأثير مباشر على المزارع في مستوطنات غلاف غزة، إذ تحولت مزارع المنطقة إلى نقطة تجمعات ضخمة للجيش، وانتشرت فيها الخيام والدبابات ذات اللون الأخضر الزيتوني، بينما لا يظهر أثر لأي مزارعين في الأنحاء.
وصارت الدفيئة الزراعية للبلاد اليوم مُعتمدةً على المتطوعين من الجامعات. وقد حاول هؤلاء إنقاذ الموقف وقطف الثمار قبل أن تتعفن، لكن جهودهم باءت بالفشل، ما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى الشروع في استيراد بعض العناصر الغذائية بالفعل.
ويتفاخر الإسرائيليون بابتكاراتهم التقنية في مجال الزراعة وبقدرتهم على تنمية المحاصيل في منطقة قاحلةٍ بدرجةٍ كبيرة، من أجل توفير الطعام، لكن قطاع الزراعة اليوم صار على رأس المجالات التي تعاني من وطأة العدوان على غزة، وذلك إلى جانب قطاعات مثل النفط والغاز والسياحة والرعاية الصحية والبيع بالتجزئة.
إذ قالت سيندي، مقدمة الرعاية من الفلبين، أثناء حديثها داخل سوقٍ في القدس: "لقد غادر الكثير من زملائي. وسنفعل ذلك أيضاً إذا ازدادت الأوضاع سوءاً".
وتوقفت العديد من شركات الطيران عن تسيير رحلاتها الجوية إلى إسرائيل، بينما طلبت الحكومة وقف أنشطة أحد حقول الغاز لتقليل مخاطر الهجمات المُستهدفة. وتراجعت قيمة الشيكل الإسرائيلي إلى أدنى مستوياتها منذ 14 عاماً، كما خفض البنك المركزي توقعاته لمعدل النمو في العام الجاري من 3% إلى 2.3%، وتواجه الصناعات البارزة في البلاد العديد من الاضطرابات.
أما قطاع السياحة الذي يُشكل 3% من إجمالي الناتج المحلي الإسرائيلي، ويوفر 6% من إجمالي الوظائف بصورةٍ غير مباشرة، فقد تعرض لضربة موجعةٍ أيضاً؛ حيث صارت شواطئ تل أبيب وأرصفة المدينة القديمة في القدس شاغرةً اليوم رغم اعتبارها من وجهات الجذب السياحي الرئيسية.
وتُعد الفترة الحالية ذروة موسم السياحة، لكن المطاعم والحانات في الأحياء التاريخية ليافا لا تخدم اليوم سوى قلة من الزوار، وغالبيتهم من الصحفيين. بينما غاب السياح الذين اعتادوا التوافد على هذه المنطقة من العالم للاستمتاع بأشعة الشمس، والاستحمام في الماء وسط أجواء تمزج بين الروح الشرق أوسطية ونظيرتها الغربية. فيما تستضيف الفنادق النازحين داخلياً بدعمٍ حكومي بسيط، لكنها تتكبد خسارة فادحة رغم ذلك.
السياحة والطيران.. توقف شبه تام
وقال محمد، مالك متجر للحلوى من عرب الداخل في تل أبيب: "نحن في موسم الذروة ولا يوجد سياح". بينما رفع صديقه أحمد حسونة يده في الهواء ونظر إلى السماء عند سؤاله عن أحوال تجارته وقال: "لا يوجد شيء، الوضع صعب للغاية"، ثم أشار إلى عدة متاجر لم تفتح أبوابها منذ بدأت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ويشترك رواد الأعمال العرب واليهود من سكان إسرائيل في شعور اليأس الذي يجمعهم، بينما يجلسون لارتشاف القهوة والتحديق بلا أملٍ في الشوارع الفارغة؛ حيث كان العربي علاء مرشاجي يجلس في قسم الاستقبال داخل فندق Market House Hotel القريب، وقال إن نسبة الإشغال الحالية لا تتجاوز الـ10% من المعتاد في هذا الوقت خلال السنوات السابقة. وأردف أن "جميع النزلاء من الصحفيين".
وأوضح زميله اليهودي آفي كوهين أن غالبية الغرف يشغلها أشخاص نزحوا من الجنوب ويحصلون على خصومات كبيرة. ثم أضاف لمجلة Foreign Policy الأمريكية: "نحن نستضيفهم بخصمٍ قدره 50%، بالإضافة إلى الوجبات المجانية. وتساعدنا الحكومة الآن، لكن هذا الأمر سينتهي في الـ22 من نوفمبر/تشرين الثاني".
أما صناعة الشركات الناشئة في إسرائيل فقد شهدت نجاحاً كبيراً، وقد لا تعاني هذه الصناعة بقدر الصناعات الأخرى، لكنها تعرضت بالفعل لضغوط نتيجة انسحاب المستثمرين من الدولة التي ضربتها احتجاجات حاشدة بسبب الإصلاحات القضائية. وقد تراجعت الاستثمارات في هذا القطاع بمقدار النصف في العام الماضي بسبب مشاعر عدم الاستقرار الناجمة عن ذلك.
هبّت مجموعة من مستثمري رأس المال المخاطر العالميين للمساعدة في دعم الشركات الناشئة الإسرائيلية، وحاولوا جمع ملايين الدولارات لإنقاذ تلك الشركات من الإفلاس. ودشّن هؤلاء المستثمرون مبادرةً تُدعى "الأمة الحديدية" لحماية تلك الشركات واقتصاد البلاد من الانهيار تحت وطأة الضغط. يُذكر أن نسبة جنود الاحتياط الذين يعملون كموظفين في صناعة التقنية تصل إلى 20%.
وقد ذكرت دراسة للجامعة العبرية بعنوان "تفاعل المجتمع المدني في إسرائيل خلال حرب السيوف الحديدية" أن قرابة نصف سكان إسرائيل تطوعوا بطريقةٍ أو بأخرى لمساعدة مواطنيهم، الذين يعانون بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة نتيجة الحرب على غزة؛ إذ قالت مؤلفة الدراسة، الأستاذة ميشال ألموغ-بار، لوسائل إعلام إسرائيلية إن المنظمات الخيرية والجمعيات الأهلية المحلية تبرعت "بعشرات الملايين من الدولارات"، بينما وصل إجمالي تبرعات يهود أمريكا الشمالية إلى مئات الملايين من الدولارات، بحسب التقديرات.
وفي هذه الأثناء، يضغط خبراء الاقتصاد على الحكومة لإعادة ترتيب أولويات الميزانية من أجل تغطية تكاليف جهود الحرب، التي من المتوقع أن تصل إلى مليارات الشواكل؛ حيث كتب 300 خبير اقتصادي إسرائيلي خطاباً مفتوحاً للحكومة، وطالبوا خلاله رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش بتطبيق مجموعة تدابير قد لا تكون مستساغةً لدى بعض ناخبيهم؛ حيث طلبوا إعادة تخصيص الأموال الخاصة بالبرامج التعليمية لأتباع اليهودية الحريدية، وتوجيهها إلى الإنفاق العسكري.
وقدمت الحكومة الإسرائيلية خطة مساعدات اقتصادية لمساعدة الشركات بقيمة مليار دولار، كما وعد وزير المالية "بتعليق أي نفقات لا تتعلق بالجهود الحربية وصمود الدولة". لكن اليمين المتطرف لا يزال عازماً على عدم السماح بالتعامل مع الفلسطينيين كجزءٍ من الحل.
إذ تواجه الصناعة الزراعية عجزاً يُقدر بـ10 آلاف مزارع، وقد اقترحت وزارة الزراعة الإسرائيلية خطة لتوظيف 8,000 شخص من الضفة الغربية -بحيث تتألف المجموعة من النساء الفلسطينيات بمختلف أعمارهن والرجال الأكبر من 60 عاماً. لكن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير رفض ذلك محذراً من الخطر الأمني، وهو الزعم الذي يؤيده البعض بالتزامن مع تعمُّق مشاعر عدم الثقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ومع ذلك، يجد البعض الآخر في تلك المزاعم تحيزاً لأن العرب يشكلون بالفعل 2% من مواطني إسرائيل، وهم متعاطفون مع القضية الفلسطينية لكنهم ليسوا بالضرورة متعاطفين مع حماس.
وعلى الرغم من انخفاض قيمة الشيكل، قررت لجنة بنك إسرائيل المُكلفة بالإشراف على السياسة النقدية الحفاظ على سعر الفائدة عند 4.75%، فيما أكّد محافظ البنك المركزي حجم مرونة الاقتصاد.
إسرائيل ليست جديدةً على الحروب لكن من المتوقع أن يكون العدوان هذه المرة أطول زمناً، وقد يتحول إلى مواجهةٍ إقليمية. لهذا اقترح ستراوزينسكي أن طول مدة الصراع سيكون عاملاً حاسماً في هذا الصدد.