عندما سمّم عملاء الموساد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الأردن عام 1997 في محاولة لاغتياله، طالب ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتوفير الترياق اللازم لعلاج قائد حماس، وأخبرهم أنه في حال عدم الحصول على الترياق؛ ستكون معاهدة السلام الموقعة بين إسرائيل والأردن عام 1994 عرضةً للخطر، مع تقديم عملاء الموساد الذين حاولوا تسميم الرجل للمحاكمة.
واليوم، تتزايد الضغوط على ملك الأردن الحالي المدعوم من الولايات المتحدة، الملك عبد الله الثاني، حتى يتحرك ضد إسرائيل التي تبيد غزة، مثلما فعل والده الملك حسين في "قضية خالد مشعل"، كما يقول موقع Middle East Eye البريطاني.
إذ قال قائد عسكري كبير سابق في الجيش الأردني لموقع Middle East Eye البريطاني: "تفرض إسرائيل حصاراً على غزة، واضعةً يدها على الزناد استعداداً لطرد جميع الفلسطينيين. فماذا نحتاج بعد ذلك؟ يريد الجميع تمزيق معاهدة السلام".
ويُمكن القول إن الدعوات التي تطالب الملك عبد الله الثاني بقطع العلاقات مع إسرائيل -من الشارع والحكومة- تُسلط الضوء على "العار" التي عَلِقَ الملك فيه، بالتزامن مع دخول الحرب الفلسطينية-الإسرائيلية أسبوعها الثالث وازدياد المخاوف من توسّع الصراع إقليمياً.
حيث صرّح بروس ريدل، محلل شؤون الشرق الأوسط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية، قائلاً: "أشعر بالقلق حيال ما يحدث في الأردن. يتعرض الملك عبد الله لضغوط هائلة، وليست أمامه أية خيارات جيدة".
الخوف من انفجار الغضب الشعبي
يقول موقع MEE البريطاني إن عمّان تُعَدُّ واحدةً من أكثر العواصم وديةً تجاه الولايات المتحدة في المنطقة، وهي الوجهة المختارة للمنظمات الأهلية الغربية ودارسي اللغة العربية على حدٍ سواء.
لكن دبلوماسيي البلاد الذين يتحدثون بهدوءٍ في المعتاد بدأوا مؤخراً في مهاجمة إسرائيل علناً، ويحذرونها من اتخاذ أية خطوات قد ترقى لاعتبارها "إعلان حرب". بينما اتهم الملك إسرائيل -شريكته في السلام- بارتكاب "جريمة حرب" في حصارها لقطاع غزة.
ويحاول المسؤولون الأردنيون مواكبة حجم الغضب الشعبي؛ إذ صرّح مسؤول أردني سابق للموقع البريطاني بأنه في حال شنّت إسرائيل هجوماً برياً على قطاع غزة؛ فسيكون الأمر بمثابة "سيناريو من الكوابيس" بالنسبة للملك الذي يُعَدُّ "موالياً للغرب أكثر من نصف قادة أوروبا"، وذلك بحسب ما وصل إلى المسؤول من عدة وزراء في الحكومة.
فيما قال مسؤول غربي كبير سابق يقيم في الأردن: "إن الانطباع بأن الولايات المتحدة أعطت إسرائيل تفويضاً مطلقاً -لارتكاب ما يمكن اعتباره جرائم حرب- يؤدي إلى صب غضب شعبي كبير على أي زعيم عربي يُنظر إليه باعتباره ينام في سرير واحد مع الأمريكيين".
وتجلّت تلك المخاوف الأسبوع الماضي بعد القصف المميت لمستشفى في غزة، وهو القصف الذي حمّل العالم العربي -وعبد الله- مسؤوليته لإسرائيل.
واضطر الأردن بسبب القصف لأن يُلغي قمةً بحضور الملك، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والرئيس الأمريكي جو بايدن.
وقد أعلن الأردن القرار بصفةٍ أحادية، لكن مسؤولين أمريكيين حاليين وسابقين أخبروا الموقع البريطاني بأن القرار جاء بعد تنسيق وثيق مع واشنطن، في ظل المخاوف من أن زيارة بايدن لعمان بعد إسرائيل قد تؤدي لانفجار المحتجين.
وأوضح أستاذ الجامعة الأمريكية في بيروت، طارق التل، الذي ينحدر من إحدى العائلات السياسية البارزة في الأردن: "لقد كان إلغاء القمة حدثاً استثنائياً. لا تحدث هذه الأشياء في الأردن عادةً. ويجب أن تعود إلى عام 1991 وأيام حرب الخليج الأولى حتى تعثر على حالة توشّح فيها ملك الأردن بالقومية العربية لهذه الدرجة".
"صديق مخلص" لبايدن
لا شك أن دعم بايدن غير المشروط لإسرائيل في الحرب يُصيب الملك عبد الله بالحنق؛ إذ رحب عبد الله بانتخاب الرئيس الأمريكي على اعتباره سيؤدي لانفراجة في العلاقات التي اضطربت مع دونالد ترامب.
وكان عبد الله أول زعيم عربي يزور بايدن في البيت الأبيض. كما سارع بايدن للاتصال بالملك عام 2021، عندما اهتز الأردن بسبب مؤامرة الانقلاب التي تتعلق بأخيه غير الشقيق. وحينها، طلب بايدن من "صديقه المخلص والمحترم" أن "يظل قوياً".
لكن الأردن يحذر الولايات المتحدة من مخاطر العنف في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة منذ عودة نتنياهو إلى السلطة.
حيث قال عامر السبايلة، المحلل السياسي الأردني، للموقع البريطاني: "توقَّع الأردن أن تكون هذه الإدارة أكثر تفهماً لمخاوفه. لكن من الواضح أن الأمريكيين لا يريدون الاستماع. وينصب تركيزهم اليوم على الضوء الأخضر الذي أعطوه للإسرائيليين من أجل فرض الحصار على غزة".
بينما قالت ميريسا خورما، مديرة برنامج الشرق الأوسط في مركز Wilson Center، إن هناك "خيبة أمل في عمان لأن تحذيراتها من انفجار الوضع في الأراضي المحتلة ذهبت أدراج الرياح". لكن ميريسا أردفت أن العلاقة الأمريكية الأردنية لا تزال "قويةً واستراتيجية".
ويرى التل أن الأحداث الأخيرة أبرزت افتقار الأردن للوكالة بالتزامن مع دعم حليفته الرئيسية لإسرائيل. وأوضح التل أن "الملك يلعب دور الطرف المتلقي في هذه الحرب. وهذا يعني أنه سيتلقى نتيجة الصراع أياً كانت طبيعتها، وذلك أملاً في التلاعب بالوضع داخل بلاده قدر الإمكان".
"أصعب تحدٍ يواجهه الملك خلال 20 عاماً قضاها في السلطة"
خرج الناس ضد إسرائيل في جميع أنحاء العالم العربي. لكن الأردن لا يتميز عن الدول الأخرى بالعلاقات الوطيدة بين الأمريكيين وبين الأسرة الهاشمية الحاكمة فحسب، بل يتميز بتركيبته السكانية أيضاً.
إذ ينحدر نصف سكان الأردن على الأقل من أصول فلسطينية. وقد وصل الفلسطينيون الأوائل في عام 1948 بعد إنشاء كيان إسرائيل إثر تهجيرهم قسرياً خلال أحداث النكبة.
ويقول ريدل إن إدارة تداعيات الحرب بين صفوف الشعب "ستكون أصعب تحدٍ يواجهه عبد الله خلال نحو 20 عاماً قضاها في السلطة".
وأردف ريدل أن "القوى المحركة للصراع جميعها خارج سيطرته، بما في ذلك حماس وإسرائيل وإيران والولايات المتحدة".
يُذكر أن الأردن تخلى عن مطالبته بأراضي الضفة الغربية المحتلة عام 1988 التي كانت تحت سيطرته بعد النكبة، وبعدها بست سنوات، أبرم الملك الحسين معاهدة سلام مع إسرائيل ودعم إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
لكن المسؤولين الأردنيين لطالما شعروا بالقلق من عزم إسرائيل على ضم كامل أراضي الضفة الغربية المحتلة، وطرد الفلسطينيين الموجودين هناك إلى شرق نهر الأردن.
ولامست تلك المخاوف الواقع عندما طالبت إسرائيل بالتهجير القسري لـ1.1 مليون فلسطيني من شمال غزة الأسبوع الماضي، وذلك قبيل الغزو البري المتوقع.
بينما قال الملك عبد الله إن التهجير القسري للفلسطينيين إلى مصر أو الأردن هو بمثابة "خط أحمر"، فيما وصف وزير خارجيته أيمن الصفدي الأمر بأنه سيكون "إعلان حرب".
من ناحيته قال المسؤول الغربي الكبير السابق للموقع البريطاني: "يشعر الأردنيون بالخوف من فكرة أن الإسرائيليين يستخدمون غزة كتجربةٍ لما يمكن أن يفعلوه في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية".
كابوس الوطن البديل
بعيداً عن السكان الفلسطينيين في الأردن، يواجه عبد الله استياءً من إسرائيل وسط سكان الضفة الشرقية، أو أحفاد القبائل التي ساعدت في تأسيس الأردن بعد الحرب العالمية الأولى، كما يقول الموقع البريطاني. إذ امتزجت الآن فكرة التضامن مع الفلسطينيين ومخاوف تدفق دفعةٍ جديدة من اللاجئين، الذين سيضغطون على الموارد المالية للحكومة المتداعية.
وأوضح التل: "صارت منطقة شرق الأردن في البلاد راديكاليةً ضد إسرائيل أكثر من الفلسطينيين. وصار سكانها أكثر رفضاً. ويُدرك الفلسطينيون وأبناء شرق الأردن أن معاهدة السلام عام 1994 لم تقدم حلاً لقضية اللاجئين. ولهذا يتمثل الاستنتاج المنطقي في أن الفلسطينيين سيتم توطينهم داخل الأردن بشكل دائم".
وذكر المسؤول الأردني السابق، الذي ينحدر من الضفة الشرقية، نقلاً عن عدة وزراء "أنهم يشعرون بالاستياء لاضطرارهم أن يدافعوا عن موقفهم داخل الحكومة بالتزامن مع قصف إسرائيل لقطاع غزة".
"لا تهديد على حكم الملك عبد الله"
لكن لا يرى المسؤولون الغربيون الحاليون والسابقون أن هناك تهديداً على حكم عبد الله بحسب تصريحاتهم للموقع البريطاني. حيث قال المسؤول الغربي الكبير السابق: "تريد النخبة الفلسطينية الثرية وأجهزة أمن الضفة الشرقية الحفاظ على تماسك البلاد، وهذا يعني دعم عبد الله".
ويعتقد المسؤولون أن عبد الله يستطيع الصمود في مواجهة دعوات الشارع والحكومة لتعليق أو إلغاء اتفاقية السلام مع إسرائيل. لكن التل قال إن تهميش عبد الله للجيش وقبائل الضفة الشرقية يجعله عرضةً للضغوط أيضاً.
وأردف التل: "يُعتبر الرجال الموجودون على رأس المؤسسة الأمنية بمثابة تابعين للاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية. لكن مشكلة الملك تتمثل في الرتب الوسطى، فتلك الرتب ليست متحمسةً لإسرائيل والغرب على الإطلاق".
الملك يسمح بمساحة للتنفيس، ولكل دون تعدي الخطوط الحمراء
قال مسؤول أمريكي كبير سابق إن قرار السماح بالاحتجاجات هو قرار مدروس بعناية. وأردف: "يمنح عبد الله الناس مساحةً للتنفيس عن غضبهم، لكنه يرسم خطاً أحمر يمنع المحتجين من الوصول إلى الحدود".
بينما قالت ميريسا إن الوجود الأمني القوي يستهدف منع وقوع اشتباك محتمل بين الجنود الإسرائيليين وبين المواطنين الأردنيين. وأضافت: "ليست الحدود سهلة الاختراق لحسن الحظ، لكن تبادل إطلاق النار هناك سيمثل تهديداً أمنياً خطيراً".
وتتمثل إحدى مخاوف الأردن الرئيسية في امتداد القتال من غزة وصولاً إلى الضفة الغربية المحتلة. إذ صرح مسؤولون أردنيون وغربيون للموقع البريطاني بأن تلك المخاوف تحيي ذكريات الحرب الأهلية القصيرة في البلاد، والتي تُعرف باسم حرب أيلول الأسود، عندما طردت المملكة الهاشمية المقاتلين الفلسطينيين إلى لبنان. لكن المسؤولين يقولون إن اندلاع القتال يظل احتمالاً بعيداً على الرغم من تصاعد التوترات.
الملك عبد الله يخشى "النصر الكبير لحماس"
يرى الخبراء الغربيون أن الشكاوى التي برزت ضد الملك عبد الله أثناء أزمة الأمير حمزة قد تعاود الظهور اليوم. إذ يحظى الملك بقبولٍ جيد لدى مراكز الأبحاث وفي حفلات الاستقبال بالغرب، لكنه لا يحظى بالقبول نفسه بين القبائل الأردنية المحافظة.
وأوضح المسؤول الغربي الكبير السابق لموقع MEE: "يجب على الملك أن يجلس لشرب القهوة مع هؤلاء الناس، وأن يشرح لهم الضغوط التي يتعرض لها. لكنه سيختار التشاور مع وسطائه الأمريكيين المفضلين في وكالة الاستخبارات المركزية على الأرجح، مع إرسال أحد أفراد عائلته لمجالسة القبائل".
كما أن المعارك في قطاع غزة تفرض تحديات على شرعية المملكة الهاشمية، التي تعتمد جزئياً على دورها كراعيةٍ للأماكن المقدسة المسلمة والمسيحية في القدس.
وقال التل للموقع البريطاني: "لقد حققت حماس نصراً كبيراً للإسلاميين بغض النظر عن نتيجة الحرب الدائرة في غزة. ويخدم ذلك النصر سياق الشرق الأوسط الراديكالي الجديد، وهذا هو ما يُقلق عبد الله حقاً"، حسب تعبيره.
لم يكن الملك الحسين صديقاً لحماس، لكنه سمح للحركة بتنفيذ بعض أنشطتها على استحياء كما يتجلى في قضية مشعل. بينما فرض ابنه عبد الله حظراً شديداً على الحركة بمجرد صعوده إلى السلطة.
ولا شك أن إسرائيل ستقدم معروفاً كبيراً لعبد الله إذا نجحت في القضاء على حماس، بحسب المسؤول الأمريكي الكبير السابق، لكن تداعيات الغزو الدموي لغزة قد تزيد الضغط على المملكة أكثر.
وأوضح التل: "من المؤكد أن تصاعد موجة السخط الاجتماعي، والفجوة المهولة في المساواة، وازدياد جرأة المقاومة الإسلامية ستشكل معاً مزيجاً سريع الاشتعال بالنسبة للأردن".