في موقف يعد تخلياً عن إرث السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط التي أسسها شارل ديغول وعززها فرانسوا ميتران وجاك شيراك، تبنى الرئيس الفرنسي إيمانول ماكرون موقفاً ضد حركة حماس أكثر تطرفاً حتى من الرئيس الأمريكي جو بايدن بمطالبته خلال زيارته لإسرائيل بأن يوسع التحالف الدولي ضد الإرهاب الذي يحارب داعش أهدافه لتشمل الحركة الفلسطينية.
بل إن حتى إسرائيل لم تتبنّ خطاباً مشابهاً، إلا مؤخراً، وبدا بشكل غير جدي، علماً بأن ماكرون يهدد بهذا التصريح بتفكيك هذا التحالف في ظل نظر أغلب الدول العربية لحماس باعتبارها حركة تحرر وطني.
كما أن فرنسا عكس المواجهات السابقة المماثلة في المنطقة لا تدعو لوقف إطلاق النار، بل تشجع إسرائيل على الحرب، مع الدعوة لتقليل الخسائر بين المدنيين لذرّ الرماد في العيون.
ماكرون أسد على العرب نعامة مع روسيا
في المقابل، فإن خطاب الرئيس الفرنسي كان ضعيفاً ومتهاوناً مع روسيا التي تمثل الخطر الأكبر على أوروبا، بل بدا أحياناً ذليلاً أمام رئيسها فلاديمير بوتين، كما ظهر في زيارته لموسكو قبيل الغزو الروسي لأوكرانيا، ولكنه مستأسداً على المسلمين في بلاده، رغم أنهم أحد أسباب نجاحه في الانتخابات الرئاسية التي خاضها عام 2017، وخلق أزمة بلا سبب بدعوى محاربة الانفصالية الإسلامية، ثم اختلق أزمة مع المسلمين في العالم كله عندما قال إن الإسلام دين في أزمة، كما اختلق أزمات مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحاول جعل تركيا العضو في الناتو خصماً لأوروبا.
فماكرون كان يتحدث بعصبية عن السيادة الأوروبية عند تناوله الخلافات اليونانية التركية الحدودية وأرسل سفناً وطائرات حربية لدعم اليونان، بينما كان متهاوناً في الحديث عن الخطر الروسي على أوروبا، بل إن بلاده من أقل الدول الرئيسية في أوروبا دعماً لكييف من الناحية العسكرية حتى إن الدعم البولندي لها يفوق دعم باريس عدة مرات.
يبدو ماكرون نعامة مع روسيا والصين (التي ينتقد السياسات الأمريكية المتشددة ضدها)، وأسداً فقط مع المسلمين، وبينما العداء العلماني مع الإسلام الفرنسي في الداخل معروف وقديم الجذور فإن مواقف فرنسا من الصراع العربي الإسرائيلي كانت عادة أقل انحيازاً عن بقية دول الغرب ولا سيما الأنغلو ساكسونية.
سياسة فرنسا بين الحروب الصليبية والاستعمار إلى تزويد إسرائيل والعرب بالطائرات
تاريخياً كانت سياسة فرنسا تجاه العالم العربي والإسلام متقلبة بين نزعتها الاستعمارية ذات الجذور الصليبية (معظم الصليبيين كانوا من فرنسا) وهي النزعة التي استغلت المسيحية في العصر الحديث لأغراض استعمارية رغم علمانية البلاد، وبين منافستها مع الدول الكبرى لا سيما إنجلترا وأمريكا التي تدفعها للتقارب مع العرب.
فبعد أن افتتحت فرنسا موجة الاستعمار الأوروبي الحديث للعالم العربي باحتلالها لمصر في نهاية القرن الثامن عشر، انتقمت باريس من بريطانيا التي ساهمت في طردها من مصر، بتأييد تجربة محمد علي مؤسس مصر الحديثة ثم تخلت عنه عندما تحالفت ضده الدول الأوروبية، وفي نفس التوقيت بدأت فرنسا استعمارها الوحشي للجزائر، وبينما أيدت الزعيم المصري مصطفى كامل المطالب بجلاء الاستعمار البريطاني عن مصر، فإنها سارعت بالتخلي عنه فور عقدها الاتفاق الودي مع بريطانيا عام 1904 الذي قسم مناطق النفوذ بينهما وأطلق يدها في المغرب (مراكش في ذلك الوقت).
وعندما نشأت إسرائيل، كانت فرنسا من أول داعميها، وتآمرت معها ومع بريطانيا مع مصر خلال العدوان الثلاثي عام 1956، انتقاماً من دعم مصر للثورة الجزائرية.
وأمدت فرنسا إسرائيل بطائرات ميراج الشهيرة التي دمرت مطارات مصر وسوريا في حرب 1967، ولكن منذ ذلك العهد غيّر شارل ديغول زعيم الاستقلال الفرنسي صاحب قرار الانسحاب من الجزائر السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط، فامتنع عن تزويد إسرائيل بالسلاح لأنها البادئة بالعدوان، بل أمدّ ليبيا بطائرات ميراج والتي وصلت لمصر خلال حرب 1973، وإن كانت المخابرات الفرنسية قد ساعدت إسرائيل على تطوير مفاعلها النووي سراً ويقال إن ذلك تم دون علم ديغول.
ساهمت في بناء المفاعل النووي العراقي ورفضت العنف الإسرائيلي
في السبعينات والثمانينات، حافظت فرنسا على علاقة وثيقة مع العرب، بل إنها ساعدت على بناء المفاعل النووي العراقي (الذي دمرته إسرائيل عام 1980)، وأمدت بغداد بالأسلحة خلال الحرب العراقية الإيرانية، كما زودت العديد من الدول العربية بالأسلحة.
وظلت سياسة فرنسا تجاه الصراع العربي الإسرائيلي أقل انحيازاً لإسرائيل مقارنة بأمريكا وبريطانيا، وظهر ذلك بشكل خاص في عهدي الرئيسين الاشتراكي فرانسوا ميتران، واليميني الديغولي جاك شيراك رغم صعود النزعات الاضطهادية للعرب والإسلام في الداخل الفرنسي في ذلك الوقت خاصة القيود على الحجاب وعلى اللغة العربية.
وظهر الموقف الفرنسي الإيجابي واضحاً خلال حرب إسرائيل على لبنان عام 1996 والتي عرفت بعناقيد الغضب، والعدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006.
ماكرون يلتقي بممثل حزب الله بينما يطالب بمعاملة حماس مثل داعش
واللافت أنه خلال محاولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحل الأزمة اللبنانية أنه التقى مع محمد رعد رئيس كتلة حزب الله في البرلمان اللبناني رغم أن الحزب مصنف إرهابياً في الغرب، ويتناقض ذلك تماماً مع حملة ماكرون في الداخل الفرنسي ضد الإسلام السياسي السني بما فيه المجموعات المحسوبة على الإخوان المسلمين، والتي ساهمت في فوز ماكرون بانتخابات 2017.
ورغم أن فرنسا لم تشهد عمليات إرهابية تذكر منذ سنوات، ولا صعوداً في العنف (قبل أحداث الضواحي الأخيرة) ولكن ماكرون نصب من التدين الإسلامي خصماً، واختلق معارك مع مسلمي بلاده الذين باتوا محاصرين بعدما كان قد وعد في حملته الرئاسية عام 2017 بإنهاء التمييز ضد المسلمين وغازلهم في خطابه الانتخابي.
باريس تهاجم المتعاطفين مع غزة
الآن يصل ماكرون بخطابه العدائي ضد الإسلام والعرب للذروة، ويتخلى عن إرث ديغول وميتران وشيراك ويقرر منع التظاهرات المؤيدة لغزة، أو رفع علم فلسطين، قبل أن ترفع محكمة فرنسية القرار، وهو القرار الذي لم تتخذ الولايات المتحدة الداعم الأكبر لإسرائيل.
بل إن وزير داخلية فرنسا جيرالد دارمانان يمارس الإرهاب الفكري ويتهم اللاعب الفرنسي الجزائري الأصل كريم بنزيما بأنه على صلة بالإخوان المسلمين لمجرد إبدائه التعاطف مع قطاع غزة
ثم يزايد ماكرون على مواقف أمريكا، فيدعو لمعاملة حماس مثل داعش، وينضم لتحالف من عدة دول غربية بقيادة أمريكا لدعم إسرائيل والتعهد بمنع توسع الحرب ضدها دون محاولة وقف الحرب ضد غزة، في تهديد واضح لإيران وحلفائها بالمنطقة وفيما يبدو أنه حرب جديدة على المنطقة تشبه الحروب الاستعمارية أو الصليبية التي قادتها فرنسا.
يتعمد استفزاز مواطنيه المسلمين
نصب ماكرون نفسه وفرنسا بلا داعٍ خصماً للعرب وللمسلمين، رغم وجود أقلية مسلمة عربية كبيرة في بلاده، لم يراعِ مشاعرها يوماً بل يبدو أنه يتعمد استفزازها، لاجتذاب أصوات اليمين المتطرف، واثقاً أنه في الجولة الثانية من الانتخابات سيصوت له المسلمون مرغمين خوفاً من وصول اليمينية المتطرفة ماريان لوبان.
ثم عندما تحدث عمليات إرهابية أو عنف في الضواحي يتساءل ماكرون عن السبب، ويتجاهل الاحتقان الذي يسببه والأهم أن بلاده لديها مصالح في العالم العربي وأفريقيا ذات الغالبية المسلمة مصالح أكبر من أي دولة غربية، وها هي بالفعل تفقد نفوذها في غرب أفريقيا، بعدما باتت الكراهية لفرنسا شائعة في أفريقيا والعالم العربي بشكل غير مسبوق.
ولإبقاء نفوذ فرنسا بالمنطقة، يراهن ماكرون على مبيعات الأسلحة والتعاون الاستخباراتي مع دول المنطقة العربية والذي تعزز منذ فشل الربيع العربي، ولكن في المقابل، أصبحت سمعة باريس أسوأ من واشنطن في المنطقة بل إن تأثير ماكرون السلبي على سمعة فرنسا قد يفوق تأثير ترامب على سمعة أمريكا بالمنطقة.
كل هذا بلا مكاسب مقابلة لفرنسا، بل على الأغلب خسائر متوقعة، خاصة على المدى البعيد.
ولكن هذا جزء من إرث ماكرون القائم على خوض معارك في غير محلها، ولكن إرث ماكرون بشأن علاقته مع العرب والمسلمين ليس منبث الجذور وليس بعيداً عما يختمر في فرنسا اجتماعياً وسياسياً.
السياسيون يتبارون في الانتقاص من حقوق المسلمين وأقصى اليسار فقط من يدافع عنهم
إذ باتت العلمانية المتطرفة والتحفز ضد الإسلام ولا سيما أي من مظاهر التدين مسألة شبه مجمع عليها في فرنسا ولم يعد هناك اليمين الديغولي المحافظ المنفتح على المسلمين والداعي لتعزيز العلاقة مع الدول العربية، واختفى التيار الاشتراكي المعتدل البراغماتي الذي كان يقوده فرانسوا ميتران.
كما أن أقصى اليسار المتعاطف مع العرب والمسلمين والقضية الفلسطينية بات ممثلاً في حزب هامشي هو حزب فرنسا الأبية، بل يوصف هذا الحزب الذي ينتقد التمييز ضد المسلمين بشدة بالراديكالي والمتطرف.
فلقد بات التقرب ومحاولة إبداء الود للعرب والمسلمين في فرنسا مسألة تسيء لسمعة السياسيين الذين يتبارون كما ظهر في الانتخابات الأخيرة في الوعيد بإجراءت تقييدية جديدة بحق المسلمين.
هل غير ماكرون فرنسا للأبد؟
كانت هذه العنصرية تمثل جزءاً كبيراً من سياسة فرنسا تاريخياً، ولكن ليست كل سياستها.
فهذا الاستعلاء ضد كل ما هو غريب خاصة إذا كان عربياً ومسلماً جزء من ثقافة فرنسا، إلى جانب جزء آخر كان يعتبر فرنسا دوماً دولة تولي عناية خاصة بالشرق وأكثر دول أوروبا فهماً للعرب الذين يمثلون جزءاً كبيراً من سكانها وساهموا في تحريرها من الألمان ثم ساهموا في بنائها بعد الحرب العالمية الثانية، كما أن علاقة فرنسا الجيدة مع العرب ومواقفها الأقل إنحيازاً لإسرائيل من أمريكا، كانت جزءاً من مفاتيح القوة الناعمة الفرنسية في المنطقة في منافستها مع النفوذ الأمريكي الجبار.
ولكن اليوم في ظل حكم ماكرون تحول العداء للعرب والمسلمين للتيار الرئيسي شبه الوحيد في السياسة الفرنسية، وعلى عكس أمريكا حيث ظهرت مراجعات بعد فترتي بوش الابن وترامب، فإنه في فرنسا يبدو أن ماكرون يمهد لأن يأتي بعده من هو أسوأ منه في الأغلب، وهو ما سيمهد لانحسار نفوذ باريس في المنطقة فهي لا تمتلك نفس قوة أمريكا وقدراتها التي ترسخ نفوذها بالمنطقة، ولكن باتت الآن تحظى بنفس مستوى الغضب العربي الذي تناله واشنطن، دون أن يكون لديها نفس القوة.