سعت إسرائيل إلى تبديد حلم دولة فلسطين المستقلة، الذي راود الجميع منذ أوسلو، حتى جاء طوفان الأقصى ليضخ الدماء في أوصال الحلم وأهله، فهل انتهت الاتفاقيات ومعها السلطة الفلسطينية؟
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته "حماس" على العملية العسكرية الشاملة، ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
أين السلطة الفلسطينية؟
ومع شن جيش الاحتلال قصفه الهمجي على قطاع غزة، بدا أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لا وجود له في المشهد. وبعد 10 أيام، توجّه عباس إلى الأردن استعداداً لحضور قمة رباعية تضمه وملك الأردن ورئيس مصر ورئيس أمريكا جو بايدن.
لكن في غضون ساعات من قصف إسرائيل للمستشفى الأهلي المعمداني في غزة يوم الثلاثاء، 17 أكتوبر/تشرين الأول، سارع عباس لإلغاء اجتماعه مع بايدن وعاد إلى أرض الوطن. وألقى عباس خطاباً اتهم فيه قوات الاحتلال الإسرائيلية بالوقوف وراء مجزرة المستشفى، التي أثارت غضباً عارماً في المنطقة وحول العالم.
لكن عندما احتشد الفلسطينيون في الضفة الغربية المحتلة تلك الليلة للتعبير عن غضبهم بسبب المذبحة، انصب جام ذلك الغضب على عباس لدرجة أن المتظاهرين طالبوا بـ"إسقاط الرئيس"، خصوصاً بعد أن استخدمت قوات الأمن التابعة للسلطة القوة لتفريق المتظاهرين.
ورصد تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية حالة الغضب تجاه السلطة ورئيسها عباس، بعد تحول الرئيس الفلسطيني إلى نقطة اتصال رئيسية للمسؤولين الغربيين والعرب الذين يحاولون منع امتداد الصراع، بعد أن أعادت عملية طوفان الأقصى القضية الفلسطينية لدائرة الضوء.
لكن زيادة التفاعل الدولي مع الزعيم المهمّش منذ وقتٍ طويل، تأتي في وقت هبطت خلاله شرعية الرجل صاحب الـ87 عاماً إلى أدنى مستوياتها، بينما تبدو شرعية سلطته هشةً على نحوٍ متزايد. ولعب عباس دور الوسيط الفلسطيني الرئيسي لدى المجتمع الدولي منذ أن خلف الراحل ياسر عرفات عام 2004. وخلال تلك الفترة، واصل عباس سعيه إلى حل سلمي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، على الرغم من استمرار الاحتلال في انتهاك اتفاقيات أوسلو وغيرها، مما تسبب في عدة حروب بين إسرائيل وفصائل المقاومة الوطنية المسلحة، وبخاصة حماس.
لكن نفوذ السلطة الفلسطينية بدأ يتضاءل بالتزامن مع تبدد حلم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة خلال العقدين الأخيرين. وأصبح العديد من الفلسطينيين ينظرون إلى السلطة، إما باعتبارها عاجزة في أفضل الأحوال، أو متعاونةً مع احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية في أسوئها.
ديانا بطو، المحامية الفلسطينية التي سبق لها العمل مع رئيس السلطة الفلسطينية عباس، قالت لفايننشيال تايمز: "يجب على عباس أن يختار. فهل سيكون زعيماً للشعب الفلسطيني؟ أم سيصبح زعيماً للسلطة الفلسطينية؟".
ويرى الكثيرون أن تفاقم الإحباط تجاه عباس ينبع من رد فعله الباهت حيال الحصار الإسرائيلي الشرس على غزة، وذلك منذ عملية طوفان الأقصى. وقالت ديانا: "السلطة الفلسطينية وعباس لا يفعلون شيئاً لحمايتنا. ويدرك جميع الفلسطينيين أننا لا نملك جيشاً، وليست لدينا طريقة لإسقاط مقاتلات إف-16 الإسرائيلية. لكن الرئيس لديه القدرة على التحدث… ومع ذلك لم يفعل شيئاً تقريباً منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول".
أين عباس مما تقوم به إسرائيل في الضفة؟
يقول المحللون إن أكبر سبب لفقدان الجمهور ثقته في السلطة الفلسطينية هو الضغط المتواصل من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لتوسيع المستوطنات اليهودية داخل الضفة والانتهاكات التي لا تتوقف بحق المسجد الأقصى، وغيرها من ممارسات الاحتلال دون أن يكون للسلطة موقف يُذكر.
إذ تأسست السلطة الفلسطينية كخطوةٍ من أجل إقامة الدولة الفلسطينية التي سيقع قلبها النابض في الضفة. لكن السنوات الأخيرة شهدت نمو المستوطنات الإسرائيلية التي تستوعب أكثر من 500 ألف شخص. كما تصاعدت وتيرة عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين بحسب الأمم المتحدة. بينما زادت حكومة بنيامين نتنياهو المتشددة الجديدة ضغطها على الموارد المالية للسلطة الفلسطينية، وحجبت الأموال التي كانت تجمعها نيابةً عنها.
لكن السلطة الفلسطينية صنعت جزءاً من مشكلاتها بنفسها أيضاً؛ إذ يُنظر إليها على نطاقٍ واسع باعتبارها فاسدة، بينما يتعطل عمل المدارس وغيرها من الخدمات في الضفة الغربية باستمرار نتيجة الإضرابات. وزاد الإحباط الشعبي نتيجة إخفاق السلطة في عقد أي انتخابات رئاسية أو تشريعية منذ عام 2006. في ما اكتشف استطلاع للرأي العام الجاري أن غالبية الفلسطينيين يرون أن حل السلطة الفلسطينية سيفيد مصالحهم.
حيث قال غسان الخطيب، المحاضر في جامعة بيرزيت قرب رام الله: "لقد كان أداء الحكومة ضعيفاً للغاية. وقد زاد هذا من تراجع شعبيتها".
وتصادف تراجع شعبية السلطة الفلسطينية مع ارتفاع وتيرة سعي الاحتلال إلى تهويد القدس وضم الغربية رسميا، وخصوصا منذ تولي حكومة نتنياهو الحالية السلطة، إذ أصبح العام الجاري هو الأكثر دموية في تاريخ الضفة الغربية المحتلة منذ بدأت الأمم المتحدة في جمع البيانات عام 2005، حيث استشهد نحو 300 فلسطينياً، منهم 38 طفلاً، برصاص قوات الاحتلال والمستوطنين.
ورغم هذا المشهد المأساوي، يتهافت الزعماء الغربيون على التواصل مع السلطة لدعمها، أملاً في أن تتمكن من لعب دور ما يريدونه، وهو أن تكون القوة الفارضة للاستقرار بين الفلسطينيين. وقال مسؤول للصحيفة البريطانية: "لو لم تكن السلطة الفلسطينية موجودة، فمن سيتولى المهمة؟ قد تتولاها نسخة ثانية من حماس. وما قلناه عن اقتلاع جذور حماس قد لا يكون واقعياً لأن حماس أيديولوجية. والحل الوحيد لمواجهة هذه الأيديولوجية هو منح الفلسطينيين بديلاً يحمل الأمل. وإذا لم يتوفر ذلك البديل، فسينتهي بنا المطاف إلى أزمة مشابهة في غضون عامٍ أو عامين".
وأردف المسؤول أن الخوف الرئيسي يتمثل في تصعيد صراع غزة إلى الضفة الغربية، "الأمر الذي قد يكون شرارةً تُشعل النار في المنطقة بالكامل".
بينما قال مسؤول غربي آخر إن الأمر لا يقتصر على دعم السلطة الفلسطينية داخل الضفة الغربية فحسب، بل يبدو أن البعض في إسرائيل يدرسون منحها دوراً في السلطة داخل غزة أيضاً -إذا نجحت إسرائيل في هدفها بالقضاء على وجود حماس داخل القطاع، وهو ما تمني به إسرائيل وداعميها النفس بطبيعة الحال، لكن الأماني شيء والواقع شيء آخر.
إذ يشكك المحللون في نجاح أي محاولة لإعادة السلطة الفلسطينية إلى مكانتها في غزة، بالنظر إلى ضعف السلطة الفلسطينية وانعدام شعبيتها، وقال الخطيب: "لا مجال لأن تستعيد السلطة الفلسطينية السيطرة على غزة عبر مدافع الدبابات الإسرائيلية. لن ينجح ذلك… وحتى لو لم تعد هناك حماس، فسوف تظهر جماعات أخرى لأن واقع الاحتلال شديد الوحشية سيؤدي لردود أفعال من الجماعات الأخرى".
ماذا يقول الفلسطينيون؟
صحيفة الغارديان البريطانية تناولت الأمر ذاته في تقرير عنوانه "ادعموا شعبنا"، رصد ما يقوله الفلسطينيون في الضفة الغربية حيث توجد السلطة. جلس محمد الطريفي مع صديقٍ له في زواية شارع مهجور كان يمتلئ في المعتاد بحشود تأتي للجلوس في مقاهيه الشهيرة، والتوقف عند باعة المثلجات والعصير.
وقال الطريفي للغارديان، بعد ليلة الاشتباكات بين المحتجين وقوات أمن السلطة الفلسطينية: "لم أحضر المظاهرة، ولكنني شاهدتها على تيك توك -لقد كانت رام الله ساحة حرب". وأردف الطريفي، الذي يبلغ من العمر 20 عاماً: "أنا أحمل السلطة الفلسطينية المسؤولية. كان عليهم السماح بالمظاهرة بدلاً من التصدي لها. يجب أن ندعم شعبنا في غزة، وأنا غاضب بشدة مما حدث".
يُذكر أن محمود عباس، الملقب بأبو مازن، يحتل السلطة منذ عقدين وقد رفض مراراً عقد أي انتخابات في الأراضي التي تديرها السلطة تحت الاحتلال الإسرائيلي للضفة. وأدى ذلك إلى زيادة خيبة الأمل في الرئيس الذي فقد منذ وقتٍ طويل اتصاله بمزاج شعبه، ما عزز الدور الذي تلعبه فصائل المقاومة.
ويتهم المنتقدون عباس المسن والمنعزل بالإخفاق في تأدية مهام وظيفته والرضوخ بسهولةٍ لمطالب السلطات الإسرائيلية، بينما لا يملك الفلسطينيون سوى حقوق محدودة وسيطرة مقيدةٍ على حياتهم.
النقطة الأبرز هنا هي أن عملية "طوفان الأقصى" أدت إلى توحيد الفلسطينيين على مختلف الخطوط السياسية والجغرافية، تاركاً قادة السلطة في الضفة الغربية يعانون من أجل الاحتفاظ بسيطرتهم واحتواء الدعوات للمقاومة المسلحة.
وداخل زقاق ضيق ومتهدم في مخيم بلاطة المكتظ باللاجئين يوم الثلاثاء، جلس زوفي، الذي يقود وحدةً محلية تابعة لكتائب شهداء الأقصى على أريكة باهتة وسط مقاتلين آخرين وعدد من المراهقين -بعضهم يحمل بنادق إم-16.
وقال القائد البالغ 38 عاماً، وهو أب لثلاثة أطفال: "الأسوأ لم يأتِ بعد". وقد تحدث زوفي، بشرط عدم الكشف عن هويته لحماية نفسه، وفضّل استخدام لقبه في الطفولة بدلاً من ذلك.
وتحلّت وحدة زوفي وغيرها من الجماعات المشابهة بالهدوء النسبي حتى الآن، لكنه يقول إن هذا الهدوء لن يدوم: "نحن جزء من هذه الحرب".
وأردف زوفي أن جميع فصائل المقاومة، حماس وفتح والجهاد الإسلامي، لديهم "خلايا نائمة" بطول الضفة الغربية المحتلة، وتلك الخلايا "تراقب وتستعد" في انتظار أن يصبح جيش الاحتلال الإسرائيلي في الضفة منهكاً. وأضاف: "سوف تدفع إسرائيل الثمن. وسيأتي ذلك الثمن من هنا. وعندما يخرج الناس إلى الشوارع، لن تكون لدى السلطة الفلسطينية أي سيطرة. وإذا لم تدعم السلطة المقاومة، فستكون هذه هي نهايتها".