تواصل إسرائيل قصفها الوحشي على قطاع غزة لليوم الثالث عشر، بغطاء سياسي أمريكي وغربي ودعم عسكري لا يتوقف، فما أسباب تأخير جيش الاحتلال للاجتياح البري على القطاع؟
فتحت عنوان "فرض الحصار على غزة ليس حلاً"، كانت مجلة فورين بوليسي الأمريكية قد نشرت الأسبوع الماضي تحليلاً يرصد السيناريوهات المحتملة لما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي من قصف غير مسبوق لقطاع غزة منذ عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته "حماس" على العملية العسكرية الشاملة، ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
لماذا تؤخر إسرائيل الاجتياح البري؟
استدعت إسرائيل 360 ألفاً من قوات الاحتياط لديها ودفعت بالغالبية منهم نحو غلاف قطاع غزة، حيث حشدت عدداً هائلاً من الدبابات والمدرعات استعداداً للاجتياح البري للقطاع، إذ أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن "القضاء على حماس" بشكل نهائي هو الهدف الرئيسي لدولة الاحتلال. لكن الأسبوع الثاني اقترب من نهايته دون أن يبدأ هذا الاجتياح البري، الذي أعلنت المقاومة في القطاع انتظاره والاستعداد له.
صحيفة The Telegraph البريطانية نشرت تقريراً يرصد الأسباب الثلاثة التي دفعت إسرائيل إلى تأخير اجتياحها البري لقطاع غزة، من خلال تتبع الموقف الإسرائيلي الذي لا يزال واقعا في غياهب الارتياب والشكوك. فقد زعمت إسرائيل منذ نحو 10 أيام أنها سيطرت على مستوطناتها في غلاف غزة، وهو ما كان يمثل المرحلة الأولى قبل بدء الاجتياح البري، في ظل قصف قواتها الجوية المتواصل لأراضي القطاع المحاصر. وحشدت 300 ألف جندي احتياطي، واستدعت الدبابات والمروحيات تأهباً للاجتياح البري. ومع ذلك كله، فإن الحملة البرية لم تبدأ، ولم تقدم قوات الاحتلال الإسرائيلي تفسيراً لذلك.
قال ريتشارد هيشت، وهو أحد المتحدثين باسم الجيش الإسرائيلي، للصحفيين يوم الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول، إن خطط العملية لا تزال قيد الإعداد، و"لن أتطرق للحديث عن خططنا في المرحلة المقبلة"، لكن هذه العملية "مختلفة"، فنحن "عازمون على الإقلاع عن سياسة (العين بالعين) التي كنا نتبعها منذ وقت طويل في غزة. الأمر مختلف هذه المرة، وسيستغرق وقتاً أطول، إلا أن الأمور ستختلف تماماً"، و"الخطط قيد التطوير، وسنتخذ القرار بشأنها ونقدمها إلى القيادة السياسية".
وسياسة العين بالعين التي أشار إليها المتحدث باسم جيش الاحتلال على أنها سياسة إسرائيل توحي بطبيعة الحال وكأن المقاومة الفلسطينية هي الطرف الذي يبدأ بالاعتداء على المحتل الذي لا يكف عن قمع وقتل وتهجير الشعب الفلسطيني على مدى 7 عقود ونصف دون توقف، وهو ما يناقض الحقائق المجردة على الأرض. صحيح أن عملية طوفان الأقصى عملية عسكرية هجومية شنتها المقاومة وباغتت بها جيش الاحتلال، إلا أنها لم تحدث من فراغ، بحسب وسائل الإعلام الغربية نفسها.
فقد جاءت طوفان الأقصى بعد نحو عقدين من تجاهل الولايات المتحدة وزعماء العالم لأكثر من 2 مليون فلسطيني يعيشون في غزة، في ظل كابوس إنساني، حيث تسيطر إسرائيل بشكل كامل على أجواء القطاع وشواطئه وحدوده البرية، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي، عنوانه "هجوم حماس لم يأتِ من فراغ". رصد هذا التقرير كيف أن "طوفان الأقصى" لم تكن سوى الخطوة المنطقية الوحيدة في ظل الفشل المستمر للتعامل مع الموقف الخطير الذي وضع فيه الاحتلال الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس المحتلتين وقطاع غزة المحاصر، حيث صعدت الحكومة اليمينة المتطرفة- منذ توليها المسؤولية في تل أبيب أواخر العام الماضي – من "الآلام اليومية والوحشية التي يعيش الفلسطينيون في ظلها يومياً بسبب الاحتلال".
الأسرى لدى المقاومة
حقيقة الأمر الآن هي أن الاجتياح البري لقطاع غزة قد تأخر لعدة أسباب، أبرزها: الحسابات المعقدة بشأن الأسرى؛ والضغوط التي يمارسها حلفاء إسرائيل للتقليل من الضحايا المدنيين؛ والمخاوف من تدخل حزب الله في الحرب، بحسب تقرير التلغراف.
إذ تذهب التقديرات الإسرائيلية إلى أن حركة حماس تحتجز 203 أشخاص على الأقل أسرتهم خلال العملية العسكرية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وإذا سألت أي متحدث رسمي إسرائيلي عن المفاوضات الرامية إلى إطلاق سراحهم، فسيقول لك إن إسرائيل يستحيل أن تُفاوض حماس بعد الهجوم.
إلا أن مصير هؤلاء الأسرى من أبرز العوامل السياسية التي لها اعتبار في الوضع الحالي وفي الاجتياح المتوقع لقطاع غزة، فبعض الأسرى من المجندين والمجندات وبعضهم من المستوطنين والمستوطنات. وترجِّح إسرائيل والدول الغربية ألا ينجو أحد من هؤلاء الأسرى إذا وقع الاجتياح البري، وإن كُتبت النجاة لبعضهم، فسيكونون قلة قليلة على الأغلب.
وقد أعلنت المقاومة أن القصف الجوي الإسرائيلي على القطاع قد تسبب في مقتل 22 من الأسرى الإسرائيليين، لكن المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي أنكر الأمر، ووصف الإعلان بأنه "حرب نفسية من حماس"، وكأن الأسرى في قبضة إسرائيل وتعرف مصيرهم وليس العكس.
وفي أعقاب طوفان الأقصى، أصبح كثير من الإسرائيليين يقولون إن الحرب البرية لا بد منها، إلا أن كثيراً من الإسرائيليين غاضبون من حكومتهم والمؤسسة الأمنية لعجزهما عن حمايتهم، ومن ثم فهم ليسوا مستعدين للتضحية بالمزيد في هذه الحرب.
واحتشدت مجموعة من عائلات الأسرى يوم السبت 14 أكتوبر/تشرين الأول أمام مقر جيش الاحتلال الإسرائيلي في تل أبيب للمطالبة بإعادة أحبائهم إلى بيوتهم أحياء، وفي أسرع وقت ممكن. وقالوا إنهم عازمون على عدم السماح للحكومة بأن تضحي بذويهم باسم الضرورة العسكرية.
ولذلك يبدو أن هناك محادثات تجري. وقد ذكرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" الإسرائيلية يوم الإثنين 16 أكتوبر/تشرين الأول أن قضية الإفراج عن الأسرى كانت في صدارة جدول أعمال أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، خلال جولته السريعة في العواصم الإقليمية هذا الأسبوع.
ومن الواضح أن حماس حريصة على إبقاء قضية الأسرى في صدارة الاهتمام. فقد نشرت مساء الإثنين 14 أكتوبر/تشرين الأول مقطع فيديو يثبت أن مايا شيم (21 عاماً)، التي أُسرت من مهرجان نوفا الموسيقي، لا تزال حية. وطالبت الحركة بأن تفرج إسرائيل عن 6 آلاف معتقل فلسطيني مقابل عودة الأسرى سالمين. وعلى الرغم من أن أي صفقة لتبادل الأسرى ستمثل نصراً للمقاومة بطبيعة الحال، إلا أنه وبغض النظر عما يقوله المتشددون في إسرائيل، فإن الحكومة الإسرائيلية، الواقعة بالفعل تحت الضغط بسبب فشلها الأمني والعسكري، على الأرجح تمنح المحادثات فرصة.
الضغوط السياسية
أما السبب الثاني في تأخير الاجتياح البري، فهو سياسي ودبلوماسي في آن معاً. فعلى الرغم من أن حلفاء إسرائيل التقليديين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا، أعلنوا التأييد لما وصفوه بحقِّها في الدفاع عن نفسها، فإن هذا الدعم ليس دعماً غير مشروط. وقال وزير الخارجية البريطاني الأسبوع الماضي، إن حلفاء إسرائيل يتوقعون أيضاً من الجيش الإسرائيلي أن يُظهر قدراً من "ضبط النفس".
في الوقت نفسه، تدرك الحكومات الغربية، وحكومة الحرب الإسرائيلية، أن كارثة إنسانية في قطاع غزة لن تؤدي إلا إلى تعزيز دائرة العنف والرغبة في الثأر بين الفلسطينيين. علاوة على أنها ستزيد من نار الغضب الشعبي في الدول العربية المحيطة بإسرائيل، وتقوض الجهود المبذولة لتطبيع العلاقات، كما يمكن أن تشعل حرباً إقليمية. وقد تبلور بالفعل هذا الموقف المعادي لإسرائيل في المنطقة وحول العالم مساء الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول بعد قصف المستشفى الأهلي المعمداني، رغم محاولات تملص جيش الاحتلال من ارتكابها كعادته.
وبدأ الرأي العام الغربي في الانقلاب على إسرائيل بالفعل بعدما فرضته من عقوبات جماعية واسعة النطاق على قطاع غزة. وهذا الحصار الشامل لغزة، وقطع إمدادات المياه والكهرباء والوقود، وحملة القصف العنيفة التي أسفرت عن استشهاد ما يقرب من أربعة آلاف شخص حتى الآن، غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء، وهو ما يبدد بالفعل التعاطف الشعبي مع إسرائيل.
وغالب الظن أن الاجتياح البري سيكون أكثر عنفاً. ولهذا السبب، يبذل وزير الخارجية الأمريكي جهوداً كبيرة لإقناع إسرائيل ومصر بالتوصل إلى اتفاق يؤدي إلى فتح ممر لمغادرة المدنيين وتسليم المساعدات. وهي المهمة التي فشلت حتى بعد زيارة بايدن إلى إسرائيل وسعيه لعقد قمة رباعية في الأردن مع زعماء مصر والسلطة الفلسطينية والعاهل الأردني، وهي القمة التي ألغيت بعد مجزرة المستشفى.
ولا تقتصر أسباب تأجيل الاجتياح البري على ذلك، فهناك خطر سياسي كبير آخر، وهو صعوبة البحث عن استراتيجية الخروج. إذ لم يتبين بعد ما إذا كانت إسرائيل لديها تصور واضح عما ستفعله إذا حققت هدفها واستطاعت تدمير فصائل المقاومة، وبخاصة حماس، كما أعلنت. والاختلاف الداخلي الإسرائيلي واضح في هذا الشأن، فبعض المتشددين يريدون احتلال القطاع بالكامل، والعودة إلى المستوطنات التي انسحبوا منها في عام 2005. ويرغب آخرون في الاجتياح ثم الاكتفاء بتنصيب حكومة متعاونة بعد إزاحة لحماس.
لكن الواقع أن الخيارين كليهما محفوف بأخطار سياسية وأخلاقية وعسكرية. وكلاهما يستدعي من حلفاء إسرائيل البريطانيين والأمريكيين أن يضغطوا على رئيس الوزراء الإسرائيلي، ومجلس وزراء الحرب التابع له، كيلا يكرروا أخطاء ما كانت توصف بأنها "الحرب على الإرهاب"، لكنها قتلت ملايين الأبرياء في أفغانستان والعراق وعشرات الدول الأخرى دون أن تحقق شيئاً.
مخاوف عسكرية
خلاصة القول أن اجتياحاً واسع النطاق لغزة -يسعى إلى تحرير الأسرى وتدمير حماس في آن واحد- لهو أمر بالغ الصعوبة، لا سيما أن التقديرات تذهب إلى أن حماس أمضت أكثر من عام في التخطيط لهجماتها، ولا شك أنها تأهبت لرد إسرائيلي قوي وأحكمت الاستعداد له.
ومدينة غزة بيئة حضرية كثيفة السكان، فهي تضاهي ما يُسمى في العلوم العسكرية بساحة معركة "من جميع الجهات (360 درجة)". وستخوض حماس معركة الدفاع في أرض هي خبيرة بها، أما إسرائيل فستفتقر إلى الأفضلية التي يكفلها لها سلاح المدرعات. فضلاً عن فرق القناصة، والعبوات الناسفة، وأفخاخ الفتك المجهزة، التي ستكون في انتظار الجنود الإسرائيليين ما إن يطأوا أرض القطاع.
ويردد المسؤولون الإسرائيليون أن العملية ستكون طويلة ومكلفة، وإن نجحت، فإن التدمير الذي سيلحق غزة سيشبه التدمير الذي تعرضت له غروزني الشيشانية على يد روسيا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لكن من جهة أخرى، فإن إسرائيل لديها خطر آخر تتحسب منه، وهو ميليشيا حزب الله اللبناني، الذي قد يدخل الحرب إذا طال أمد الهجوم البري على غزة. وقد بدأت المناوشات تتكثف بالفعل بين مقاتلي الحزب وجنود الاحتلال على الحدود الشمالية.
على الرغم من ذلك، شدد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي على أن إسرائيل قادرة على أن تخوض حرباً على جبهتين في وقت واحد، ومستعدة لذلك. ولكن حقيقة الأمر أن هذا السبيل سيكون شديد الوعورة على إسرائيل، فمعظم قوات الاحتياط الإسرائيلية (البالغ عددها 300 ألف جندي) وأغلب دبابات الجيش محتشدة حول غزة. وترسانة الصواريخ الهائلة، التي يُقال إن حزب الله يملكها، يمكن أن تُلحق أضراراً جسيمة بمستوطنات الشمال في إسرائيل.
لذا فإن جنرالات إسرائيل يسعون إلى احتواء التهديد الشمالي قبل المضي قدماً في عملية غزة ـ لكن لا يُعرف بعدُ كيف سيتمكنون من ذلك. في المقابل، أشار موقع walla! الإخباري الإسرائيلي إلى أن تأجيل الحملة البرية على غزة قد ينال من معنويات القوات الإسرائيلية المحتشدة على تخوم غزة، ويُقال إن معسكرات التدريب بدأت في تسريح بعض جنود الاحتياط، وإن لم يُعرف عدد الجنود الذين سُرحوا في هذه المرحلة. لكن مسؤولاً أمنياً كبيراً قال إن "جنود الاحتياط لديهم أعمال ووظائف، والاقتصاد يعاني بسبب غيابهم عن أعمالهم".
وقال الموقع الإسرائيلي إن الجيش بدأ في تسريح بعض جنود الاحتياط بالزي الرسمي، على أن يكونوا جاهزين للانتشار فور استدعائهم. وانتقد كثير من الجنود هذا القرار لأنه يعني تأخير العملية البرية، فضلاً عن الغموض المحيط بتدابير الاستدعاء للخدمة، إذ قال أحد الجنود: "طلبوا منا أن نكون جاهزين للاتصال بنا في أي دقيقة، وإذا استُدعينا، فعلينا أن نصل إلى المعسكر في اليوم نفسه، أو اليوم التالي على الأكثر"، لكن "هل هذا قانوني؟ كيف يمكنني العودة إلى العمل وأنا أعرف أنهم قد يستدعونني في أي لحظة".
الخلاصة هنا هي أن نظرة داخلية على جيش الاحتلال تكشف مدى حالة الارتباك والشك التي تنتابه في أعقاب الإذلال والمهانة التي أحدثتهما عملية طوفان الأقصى، مما يشير إلى أن الاجتياح البري لقطاع غزة، إن وقع من الأساس، ربما لا يحدث قريباً وعلى الأرجح لن تكون نتائجه كما يتمنى قادة الاحتلال.