أعلنت وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية تخفيضاً جديداً لمصر، بعد وضع البورصة المصرية على "قوائم المراقبة" حتى مارس/آذار 2024، فماذا تعني تلك الخطوات للاقتصاد المكبّل بالديون وللمواطنين الذين يعانون من التضخم؟
وقبل أسابيع من الانتخابات الرئاسية المقررة في ديسمبر/كانون الأول المقبل، أعلنت وكالة موديز، الخميس 5 أكتوبر/تشرين الأول، عن تخفيض التصنيف الائتماني لمصر من B3 إلى Caa1، مرجعة أسباب القرار إلى تدهور قدرة القاهرة على تحمل التكلفة الباهظة لديونها الخارجية المتراكمة.
كانت هيئة الانتخابات في مصر قد أعلنت، يوم 25 سبتمبر/أيلول الماضي، إجراء انتخابات رئاسية قبل الموعد المقرر لها. وبدلاً من التصويت في ربيع 2024، سيتوجه المصريون إلى صناديق الاقتراع في العاشر من ديسمبر/كانون الأول. لكن خطوة التعجيل بالانتخابات لم تكن غير متوقعة، حيث يحرص السيسي على الانتهاء من الانتخابات قبل أن يتخذ قرارات اقتصادية مؤلمة، مثل خفض قيمة العملة، بحسب تقرير لصحيفة الإيكونوميست البريطانية.
موديز تخفض تصنيف مصر
في ظل أزمة اقتصادية خانقة وتضخم قياسي ونقص حاد في العملة الأجنبية، جاء تخفيض وكالة موديز التصنيف الائتماني الجديد لمصر ليضع مزيداً من الأعباء على الاقتصاد المنهك، إذ جعل توسع الحكومة المصرية في الاقتراض الخارجي على مدى السنوات الثماني الماضية سداد الديون الخارجية عبئاً مرهقاً بشكل متزايد.
وتنقسم درجات التصنيف الائتماني إلى ثلاثة قطاعات (A وB وC)، وكل قطاع منها مقسم إلى ثلاث درجات (A1 وA2… وهكذا)، وتستخدم هذه التصنيفات في الحكم على وضع الاقتصاد في الدولة وكذلك تصنيف مدى قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها تجاه سداد ديونها، وكانت درجة مصر السابقة في هذا التصنيف تعني أن الالتزامات المصنفة بها "مضاربة وتخضع لمخاطر ائتمانية عالية"، بينما التصنيف الجديد بعد التخفيض الأخير يعني أن الالتزامات المصنفة بها "مضاربة ذات وضع ضعيف وتخضع لمخاطر ائتمانية عالية جداً".
وبصورة مبسطة، كلما كانت درجة التصنيف الائتماني منخفضة؛ انعكس ذلك بشكل مباشر على ارتفاع تكلفة الحصول على قروض من الخارج، وصعوبة الوصول إلى الأسواق الدولية، حيث إن المخاطرة هنا تكون عالية جداً، وفي تفسيرها لأسباب التخفيض الأخيرة، أرجعت موديز القرار بالأساس إلى "تدهور قدرة الحكومة المصرية على تحمل الديون واستمرار نقص العملات الأجنبية في ظل زيادة مطردة في مدفوعات خدمة الدين الخارجية على مدى العامين المقبلين".
وبلغة الأرقام، تبلغ ديون مصر الخارجية (حتى مارس/آذار 2023) 165.4، وذلك ارتفاعاً من 46.3 مليار دولار عام 2013، وخلال عام 2024 الحكومة المصرية مطالبة بسداد ما يقرب من 30 مليار دولار لخدمة ديونها الخارجية، أي معظم احتياطي البلاد من النقد الأجنبي، والذي يبلغ 34.93 مليار دولار (بحسب البنك المركزي).
البورصة المصرية "تحت المراقبة"
وفي الإطار نفسه، أعلنت شركة "فوتسي راسل FTSE Russell" لمؤشرات الأسهم العالمية أنها ستضيف مصر إلى "قوائم المراقبة" حتى مارس/آذار 2024، ما يعني احتمال خفض درجتها في مجموعات مؤشرات الأسهم الخاصة بها في الأسواق الناشئة الثانوية، بحسب تقرير لرويترز.
ويعرّض هذا الإجراء مصر لأن تصبح خارج التصنيف أو غير مصنفة، ويرجع السبب وراء هذا التهديد إلى المشكلات التي يواجهها المستثمرون الدوليون في إعادة رؤوس أموالهم إلى بلدانهم، بحسب فوتسي راسل. وفي هذا السياق، قالت عالية المهدي أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة لشبكة CNN الأمريكية، إن وضع السوق المصرية تحت الترقب "يعد مؤشراً شديد الخطورة، ويدل على اضطراب كبير في المشهد الاقتصادي في مصر، إذ إن أصحاب رؤوس الأموال يجدون صعوبة شديدة في الحصول على الدولار الأمريكي لتحويل أرباحهم إلى خارج مصر".
وتمثل هذه الخطوات استمراراً لسلسلة من التراجعات في تصنيف مصر الائتماني طوال عام 2023، إذ عدلت وكالة موديز النظرة المستقبلية للاقتصاد المصري في مايو/أيار الماضي من سلبية إلى تحت المراقبة، مع الحفاظ على تصنيف B3، وذلك قبل تخفيض التصنيف إلى Caa1.
كما خفضت وكالة فيتش تصنيف مصر إلى B في الشهر نفسه، وعدلت وكالة ستاندرد آند بوروز النظرة المستقبلية لمصر من مستقرة إلى سلبية، مع الحفاظ على تصنيف B. وفي كل مرة يتم فيها تخفيض التصنيف الائتماني لمصر أو تعديل النظرة المستقبلية لاقتصادها، ترتفع نسبة الفائدة على السندات السيادية وتزيد تكلفة التأمين عليها، وهو ما ينعكس مباشرة على ارتفاع حجم الدين الخارجي، وبالتالي زيادة حجم خدمته وفوائده وأقساط سداده.
وبشكل عام، يبلغ إجمالي القيمة السوقية للبورصة المصرية 1.373 تريليون جنيه، ويبلغ متوسط تعاملات المصريين نسبة 84.5%، بينما يبلغ متوسط تداولات العرب والأجانب مجتمعين 15.5% فقط، أي إنها تعتبر بورصة محلية بالأساس، وتتأثر بالأوضاع الداخلية ووضع الاقتصاد المنهك.
وفي ظل أزمة نقص الدولار المزمنة تنخفض باستمرار استثمارات الأجانب في البورصة المصرية، وتتمثل أغلب الاستثمارات المستمرة في عمليات إعادة شراء أسهم جديدة بسبب صعوبة حصول المستثمرين على نقد أجنبي لخروج أرباحهم، أي إن الاستثمارات الأجنبية القليلة الموجودة ليست أموالاً جديدة تأتي من الخارج، ولكنها أموال قديمة تدور داخل سوق البورصة حتى تسنح الفرصة لخروجها.
ماذا يعني ذلك للاقتصاد وللمصريين؟
وفي هذا السياق، أوقف بنكان مصريان على الأقل استخدام بطاقات الخصم بالجنيه المصري في الخارج لوقف استنزاف العملات الأجنبية مع تفاقم نقص العملة في البلاد، وقال عدد من العملاء لرويترز إن البنك العربي الأفريقي الدولي أرسل إشعاراً للعملاء، الأربعاء 4 أكتوبر/تشرين الأول، والمصرف العربي الدولي، الخميس، أعلنا فيهما تعليق هذه الخدمة.
وأكد ممثل عملاء البنك العربي الأفريقي الدولي هذه الخطوة قائلاً إنها ترجع إلى نقص النقد الأجنبي في مصر. وقال مصرفي في مصر لرويترز إن جميع البنوك تواجه مشكلات مماثلة نتيجة نقص العملة، لكنّ كلاً منها يتخذ قراراته بشكل منفصل.
وكان عدد كبير من حاملي بطاقات الخصم المباشر يستخدمون البطاقات لإجراء عمليات شراء بالجملة، غالباً في الإمارات، للذهب والهواتف المحمولة وغيرها من المنتجات، للاستفادة من انخفاض سعر الصرف الرسمي للجنيه المصري.
وتُحتسب المعاملات ببطاقات الخصم بالسعر الرسمي البالغ نحو 31 جنيهاً للدولار، بينما يباع الدولار في السوق السوداء بنحو 40 أو 41 جنيهاً. وأبقت مصر عملتها ثابتة مقابل الدولار منذ مارس/آذار على الرغم من اتساع الفجوة بين السعر الرسمي والسوق السوداء. وقال المصرفي لرويترز: "في بعض الأحيان يرسلون البطاقات (دون مغادرة مصر) ويشترون بها أشياء. تجد أربعة أو خمسة أشخاص من العائلة نفسها".
وأضاف المصرفي أن بنوكاً أخرى يرجح أن تفرض قيوداً مماثلة الأسبوع المقبل. وقلصت البنوك المصرية في الأشهر القليلة الماضية مقدار العملة الأجنبية التي تبيعها للعملاء عند السفر، والمبلغ الذي يمكنهم الشراء به من بطاقاتهم الائتمانية أثناء وجودهم بالخارج.
تمثل هذه التطورات مزيداً من الضغوط على الاقتصاد، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على التضخم وارتفاع الأسعار؛ ما يزيد من معاناة المصريين. إذ إنه بالنسبة لتأثير الأوضاع الاقتصادية على المصريين، فإن الارتفاع الجنوني والمستمر في أسعار جميع السلع، والانخفاض المستمر لقيمة العملة المحلية، بات يهدد الاستقرار المجتمعي، بحسب أغلب المراقبين.
وقد تزايدت بشكل لافت أعداد المصريين الذين يغادرون إلى الخارج وتحدوهم الآمال في العثور على فرص عمل، وسط ما تشهده البلاد من ارتفاع في التضخم لمستويات قياسية، وانخفاض قيمة العملة، وارتفاع معدلات البطالة، وفرض الحكومة المثقلة بالديون قيوداً على الإنفاق.
وتظهر بيانات وزارة الداخلية الإيطالية، على سبيل المثال، أن أكثر من ثمانية آلاف من الذين وصلوا بحراً منذ بداية العام الجاري إلى البلاد قالوا إنهم مصريون. وكانت إيطاليا أيضاً وجهة السفينة التي أبحر عليها وليد الدجوي (32 عاماً)، بحسب رويترز.
إذ ضاق الحال بوليد الدجوي بعدما أصبحت حرفة السباكة التي يمتهنها لا تدر ما يكفي لإعالة أسرته التي تعيش بمنطقة الدلتا في شمال مصر، فقرر عبور الحدود إلى ليبيا، واستقل من هناك سفينة صيد قديمة ومكتظة متجهة إلى أوروبا. وفي يونيو/حزيران الماضي، وعلى بعد أميال قليلة من الساحل اليوناني، غرقت السفينة وعلى متنها المئات، من بينهم مصريون ممن أصبحوا يقبلون بأعداد متزايدة على الرحلة المحفوفة بالمخاطر في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية في بلدهم. ونجا عدد قليل، لكن وليد كان من بين كثيرين اختفوا ولم يعثر لهم على أثر.
وقال محمد الدجوي، والد وليد، لرويترز، في قريته ميت سهيل، حيث المنازل متواضعة ومبنية بالطوب الأحمر وسط الحقول: "هيعمل إيه؟ مش قادر يصرف على ولاده… واتديَن (استدان)". ووليد لم يكن الوحيد. يقول والده: "قلة الشغل وغلو الأسعار يوم عن يوم، مبقاش فيه رقابة على الأسعار… العيال غووا بعض وهو اتخنق… هيتسلّف؟ هيسرق؟ قال أخاطر بحياتي".
وكان عدد من وصلوا إلى إيطاليا في 2022 وصل 20542 شخصاً، ما جعل المصريين يمثلون الجنسية الكبرى التي وصل حاملوها إلى إيطاليا في ذلك العام. وتأتي هذه الأرقام مقابل 1264 فقط في عام 2020. وقالت الوزارة الإيطالية إن طلبات اللجوء المقدمة من مصريين قفزت هي الأخرى.
وتزامن الارتفاع الكبير في أعداد المغادرين من مصر في السنوات الماضية مع تدهور اقتصاد البلاد، حيث يرى خبراء أن مصر تضررت من ارتفاع الدين الناجم عن الإنفاق الحكومي الهائل على المشروعات الضخمة، بما في ذلك العاصمة الجديدة.