رغم أنها ليست ملاصقة لمنطقة القوقاز، فإن الهند هي إحدى الدول القليلة التي تمد أرمينيا بالأسلحة، بل هي تعتبر بمثابة حليف لها، الأمر الذي أثار غضب أذربيجان، فما هو سر هذه العلاقة الغريبة بين الهند وأرمينيا، وماذا ستفعل نيودلهي في خططها الطموحة بالمنطقة بعد هزيمة يريفان الأخيرة؟
وقد يكون النزاع بين أذربيجان وأرمينيا واحداً من أغرب النزاعات المعاصرة من حيث خريطة التحالفات المحيطة به.
فتركيا موقفها معروف بالدعم الكامل لأذربيجان التي تعتبرها أقرب البلاد ثقافياً وعرقياً إليها، وكثيراً ما يقال عن العلاقة بين البلدين أمة واحدة في دولتين.
وروسيا أكبر بلد أرثوذكسي في العالم الداعم التاريخي لأرمينيا الأرثوذكسية، تركتها تهزم من أذربيجان وتقدم نفسها كوسيط محايد، بينما تنتقد رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان، بينما الغرب قلوبه مع الأرمن وعقله مع نفط وغاز أذربيجان، فهو رغم إبدائه قلقاً غير مبرر على أرمن ناغورنو قره باغ، فإنه يواصل استيراد الطاقة من باكو.
ولقد اختلط حابل النزاع بنابل الديناميكيات الأوسع في الشرق الأوسط، وجنوب آسيا، حسب وصف تقرير لمركز كارنيغي الأمريكي.
فبدأت إيران التي ترفع لواء المذهب الشيعي في العالم، بدعم أرمينيا بشكل أكبر ضد أذربيجان الدولة ذات الغالبية الشيعية، بسبب قلقها من إمكانية بسط أذربيجان وتركيا سيطرتهما الكاملة على حدودها الشمالية، إضافة لخوفها من صعود القومية الأذربيجانية في ظل أن الأذربيجانيين يمثلون ثاني أكبر قومية في إيران.
أما إسرائيل فتدعم أذربيجان، نكاية في إيران. أما باكستان التي لا تربطها علاقات بإسرائيل وتراه الأخيرة خطراً نووياً محتملاً تزوّد أذربيجان بالأسلحة، في حين أن الهند تزوّد أرمينيا بالمقابل.
واتخذت الهند موقفاً داعماً بشكل لافت لأرمينيا خلال السنوات الماضية في الأزمة بشأن جيب ناغورنو قره باغ الأذربيجاني ذي الأغلبية الأرمينية العرقية الذي كان احتله الأرمن وأقاموا فيه جمهورية انفصالية لم يعترف أحد بها بما في ذلك أرمينيا.
وقدمت الهند أسلحة لأرمينيا، بل أحياناً وصل بها الأمر إلى إدانة ما تصفه بالعدوان الأذربيجاني في المنطقة.
سر العلاقة الوثيقة بين الهند وأرمينيا.. نكاية في باكستان
ويرجع الموقف الهندي إلى ارتباط أذربيجان منذ فترة طويلة بباكستان، مما أدى إلى تحويل الصراع في القوقاز إلى واحدة من أكثر الحروب بالوكالة غموضاً في العالم.
تدعم باكستان أذربيجان ضمن محور ثلاثي إسلامي صاعد يضم تركيا وباكو، ووصل الأمر إلى احتمال انضمام إسلام أباد لمشروع الطائرة التركية الشبحية الذي أعلن انضمام أذربيجان له.
في كل مكان تنشط فيه باكستان عسكرياً وسياسياً واستخباراتياً تنشط الهند في الجانب المقابل مثلما يحدث في أفغانستان.
ولكن لا يمكن استبعاد أن موقف الهند نابع من سياسة ناريندا مودي المعادية للإسلام في بلاده، والذي يحاول جعل المسلمين عدواً، بل إنه يحاول جذب الديانات الأخرى في الهند مثل المسيحية والبوذية والسيخية في حلف ضد المسلمين.
الهند تريد جعل أرمينيا ممراً يربطها بأوروبا عبر إيران
ولكن هناك أسباب سياسية واستراتيجية واقتصادية أيضاً وراء هذه العلاقة المريبة بين الهند وأرمينيا.
من بين دوافع العلاقة بين الهند وأرمينيا مشروع للنقل بين الجنوب والشمال تريد الهند إقامته عبر بناء خطوط سكك حديدية عابرة للقارات.
إذ أصبحت منطقة جنوب القوقاز أساسية لطموحات الهند لبناء ممر نقل يربطها بأوروبا عبر الهضبة الإيرانية يسمى ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، أو INSTC، وهي خطة كانت أرمينيا حريصة للغاية على دعمها، حسبما ورد في تقرير لموقع the Diplomat الياباني.
الميزة الرئيسية لممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، أو (INSTC)،
أنه سيسمح للهند بالالتفاف حول باكستان بشكل فعال والوصول إلى الطرق البرية المؤدية إلى أوروبا وآسيا الوسطى التي كانت إسلام أباد تسدها.
كما أنه سيوفر للهند وسيلة لإخراج إيران من فلك الصين، وربما تطويق مشاريع البنية التحتية الخاصة ببكين في المنطقة.
مشروع ضخم للبنى التحتية الرقمية
إن موقف الهند من الصراع في القوقاز حتى وقت متأخر من هذا الصيف فكان يتقدم نحو توفير دعم أكبر لأرمينيا. حيث باعت الهند أسلحة لأرمينيا، بما في ذلك قاذفات الصواريخ والمدفعية وأنظمة الرادار.
وعلى الرغم من الانتقادات الصاخبة من جانب أذربيجان، سعت الهند أيضاً إلى مواصلة عملية استمرت لسنوات لتطوير العلاقات التجارية مع أرمينيا من خلال توقيع العديد من مذكرات التفاهم الجديدة مع أرمينيا بشأن البنية التحتية الرقمية، تحسباً لزيادة الاتصال التجاري بين البلدين عبر INSTC.
وفي هذا الصدد، يبدو أن الهند تضاعف جهودها في تطوير أجزاء من ممر النقل، مع زيادة الاستثمارات وإبرام عقود جديدة خلال الصيف لميناء تشابهار الإيراني، وهو جزء مهم من ممر النقل.
وكان هذا جزء من طبيعة المسار الذي اتخذته العلاقات الثنائية بين أرمينيا والهند في السنوات القليلة الماضية.
وبدا أن الهند لا تتردد في إظهار دعمها لأرمينيا قبل العملية العسكرية التي قامت بها أذربيجان مؤخراً وأدت لاستعادة سيادتها على قره باغ في يوم وحل الحكومة الانفصالية لنفسها.
الهند تفضل الصمت بعد انتصار أذربيجان
ومع ذلك، لم تفعل الهند الكثير في الأسبوع الماضي للإشارة إلى دعمها لأرمينيا، أو حتى إدانة تصرفات أذربيجان. وهذا أمر غريب للغاية، مع الأخذ في الاعتبار أن الهند أعربت في السابق على الأقل عن أملها في التوصل إلى تسوية عبر الوساطة بين الجانبين. ومع ذلك، وباستثناء اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الأحد، لم يتم اتخاذ أي إجراء جوهري من جانب الهند للتعبير عن موقفها في تحول موازين القوى في القوقاز.
كل هذا قد يشير إلى أنه في ضوء انهيار الخطوط الأرمينية في ناغورنو قره باغ مؤخراً، واستسلام الحكومة الانفصالية هذا الأسبوع، فإن الهند سوف تسارع إلى التأكيد على مصالحها في المنطقة. ومع ذلك فإن الصمت من جانب وزارة الشؤون الخارجية الهندية يكشف تغير في تقييم نيودلهي لمستقبل جنوب القوقاز.
هل باتت الهند تشعر بخطأ تحالفها مع أرمينيا؟
سيكون من الصعب القول إن الهند تواجه ضغوطاً خارجية للبقاء صامتة؛ خوفاً من العزلة، فقد أعربت دول متباينة مثل فرنسا وإيران والولايات المتحدة عن درجات متفاوتة من الدعم لأرمينيا، أو على الأقل القلق بشأن الأرمن الذي يعيش في ناغورنو قره باغ رغم عدم وقوع أي حوادث تذكر بحقهم.
وهذا من شأنه في ظاهره أن يشير إلى أن شيئاً داخلياً يدفع الاستجابة العامة في الهند للأزمة، وربما إدراك أن الشراكة مع أرمينيا تنطوي ببساطة على مخاطر بالغة.
من جانبها، يبدو أن أرمينيا أدركت أن بعض التغيير يجري على قدم وساق في موقف حليفها الهندي، فأرسلت سفيراً جديداً الأسبوع الماضي إلى نيودلهي، على الرغم من الفوضى المستمرة في العاصمة وناغورنو قره باغ.
تشير أوراق اعتماد السفير، كخبير في الشأن الإيراني وكدبلوماسي إقليمي في جنوب القوقاز، إلى الاتجاه المحدد الذي تريد أرمينيا أن تسلكه العلاقات الثنائية مع الهند: أي التأكيد على ارتباط الهند بمشاكل جنوب القوقاز من خلال علاقتها مع إيران.
هزيمة أرمينيا تهدد المسار المقترح للممر بين الشمال والجنوب
يبدو أن تقييم الهند هو أن الاعتماد على أرمينيا كشريك اقتصادي رئيسي في المنطقة أصبح محفوفاً بالمخاطر.
تحتاج الهند إلى خط سكة حديد للانتقال من شمال غرب إيران عبر جنوب القوقاز إلى روسيا أو البحر الأسود. وفي هذا الصدد، أمام الهند (وإيران) خياران: الأول عبر مقاطعة سيونيك جنوب أرمينيا، والآخر عبر ساحل بحر قزوين عبر أذربيجان. ومن الواضح أن الهند اختارت الخيار الأول، على الأقل حتى هذه اللحظة.
ومع ذلك، فإن التطورات في صراع ناغورنو قره باغ تهدد جدوى خط السكة الحديد هذا، حيث يعبر الرابط ممر زانجيزور، وهو ممر افتراضي مهم تريد أذربيجان إقامته لربط أراضيها بإقليم ناختشيفان ذي الحكم الذاتي المفصول عنها بالأراضي الأرمينية أي يجب أن يتم ذلك عبر المرور في الأراضي الأرمينية.
وعلى الرغم من أن فكرة إنشاء ممر زانجيزور موجودة منذ سنوات وهي مدرجة في اتفاق الهدنة الذي عقد بوساطة روسية وأوقف الحرب بين أذربيجان وأرمينيا في عام 2020، بعد هزيمة الأخيرة، فإن التعليقات الأخيرة التي أدلى بها إلهام علييف، رئيس أذربيجان، وكذلك خطاب الرئيس التركي أردوغان في الجمعية العامة للأمم المتحدة، تشير إلى رغبتهم في تقييد سلطة أرمينيا على الممر، حسب تقرير موقع the Diplomat الياباني.
وأكد أردوغان إثر اختتامه زيارة لجمهورية نخجوان ذاتية الحكم التابعة لأذربيجان، مؤخراً، أن تركيا ستبذل ما بوسعها من أجل فتح ممر زنغزور بأقرب وقت، مبيناً أن فتح هذا الممر المهم للغاية بالنسبة لتركيا وأذربيجان ومسألة استراتيجية يجب استكماله.
وفي مناسبة أخرى، قال أردوغان إن بلاده تنتظر من أرمينيا الوفاء بالوعود التي قطعتها، وفي مقدمتها فتح "ممر زنغزور".
ويزعم تقرير مركز كارنيغي أن لدى باكو وموسكو وأنقرة أجندة مشتركة لإرغام يريفان على القبول بشروطها لشق طريق بري وفتح خط سكة حديد عبر الأراضي الأرمينية إلى إقليم ناخيتشيفان الأذري، على ألا يتمتع الطرف الأرميني إلا بحدٍّ أدنى من السيطرة وأن يتولّى حرس الحدود الروس مهمة الحراسة. ويزعم التقرير أنه يتم توجيه تهديدات مُبطّنة باستخدام القوة إن لم تقبل أرمينيا بذلك.
ويُحتمل أن هذه هي الجبهة المقبلة للنزاع التي ستضطر الحكومات الغربية إلى التعامل معها. فجأةً، بات على الغرب الاضطلاع بدور المدافع الأخير عن أرمينيا، حسب كارنيغي.
ويبدو أن بعض القوى على الأقل، مثل إيران، تأخذ التهديد الذي يواجه سيونيك على محمل الجد بما يكفي لتأكيد سيطرة أرمينيا على الإقليم (وهي حقيقة معترف بها دولياً بالفعل) وحشد القوات على حدودها الشمالية الغربية بعد تفكيك أذربيجان للجمهورية الانفصالية في ناغورنو قره باغ.
وبغض النظر عما إذا كان الصراع قد يندلع بالفعل حول الممر، تظل الحقيقة أن بناء خط سكة حديد عبر منطقة يمكن أن تكون موقعاً للتنافس بين إيران وتركيا، وهما من أكبر الجيوش في المنطقة، ليس وصفة للاستقرار السياسي في المنطقة. على المدى الطويل. ويكاد يكون من المؤكد أن الهند تحتاج إلى إيجاد طريق آخر، حسب موقع the Diplomat.
للوهلة الأولى قد تبدو التطورات الأخيرة في ناغورنو قره باغ بمثابة ضربة قوية للهند، في حين أنها تقدم نعمة لباكستان وتفيد بشكل غير مباشر المنافس الرئيسي الآخر للهند في آسيا، الصين.
ومن خلال دعم أذربيجان عسكرياً ودبلوماسياً في الفترة التي سبقت اندلاع القتال الأخير، لعبت باكستان، عن قصد أو بغير قصد، دوراً حاسماً في إحباط طموحات الهند الخاصة في جنوب القوقاز.
ومع ذلك، فإن الاستراتيجية الباكستانية لها عيوبها. وقد أثار نجاح أذربيجان قلقاً في الغرب ولدى بعض القوى الإقليمية مثل إيران.
وأي دعم إضافي من شأنه أن يضع باكستان في موقف مثير للجدل ويعلي مخاوف هذه القوى من صعود المحور التركي الأذربيجاني الباكستاني في المنطقة.
هل تغير الهند وجهتها وتتقرب من أذربيجان؟
علاوة على ذلك، لا تفتقر الهند إلى خيارات بديلة. ورغم أن تحويل الطريق إلى طريق بحر قزوين سيكون أمراً شاقاً دبلوماسياً، إلا أنه لا يزال هناك مجال لإحراز تقدم. وعلى الرغم من المشكلات بين إيران وأذربيجان، إلى جانب علاقات أذربيجان القوية مع العدو اللدود لإيران، إسرائيل، إلا أن البلدين ما زالا قادرين على الاتفاق على اقتراح مبدئي لاستئناف بناء خط السكك الحديدية بين البلدين.
وحتى في مواجهة الخلافات، يبدو أن قضية ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، (INSTC)، قوية بما يكفي لكي تضع باكو خلافاتها مع القوى الخارجية جانباً من أجل التعاون.
وبالتالي، على الرغم من حرص أذربيجان على إدانة مبيعات الأسلحة الهندية لأرمينيا، فمن غير المرجح أن يؤدي هذا الاحتكاك إلى الحد من التعاون المستقبلي مع نيودلهي، إذا كانت الهند جادة حقاً في متابعة ذلك. ويكاد يكون من المؤكد أن هذه الجهود سوف تتطلب بعض التلطيف للعلاقات، ولكن الهند لا يزال أمامها العديد من الخيارات لتنفيذ استراتيجية ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، إذا اختارت ذلك.
صمت الهند إزاء هزيمة أرمينيا له آثار سلبية على تحالفاتها المستقبلية
قد لا يكون صمت الهند الأخير في جنوب القوقاز بلا ثمن.
وإذا استمرت الهند في التزام الصمت بشأن هزيمة أرمينيا، فقد يكون ذلك رمزاً سلبياً للدول الأخرى التي تسعى إلى الحصول على الدعم العسكري والدبلوماسي والاقتصادي من الهند، مقارنة بدولة مثل تركيا دعمت حلفاءها في كل مكان بقوة بدءاً من ليبيا مروراً بسوريا وصولاً للقوقاز وأوكرانيا.
ومؤخراً، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن "من يكون صديقاً لتركيا يربح، ومن يضمر العداوة لها يخسر"، مؤكداً أن بلاده تسعى لزيادة أصدقائها.
ولكن مع ذلك، فإن الهزيمة الأخيرة لأرمينيا في ناغورنو قره باغ لا تمثل هزيمة كاملة لطموحات الهند داخل جنوب القوقاز، بل يمكنها أن تعيد تشكيل سياستها وتقليل رهانها على أرمينيا.
وبينما يبدو أن الهند بالفعل تعيد تشكيل سياستها الخارجية في منطقة تغيرت بالفعل، نتيجة هزيمة الأرمن في ناغورنو قره باغ ، فمن المؤكد أنها سوف تضطر إلى البحث عن سبل أخرى أكثر استقراراً لعلاقاتها في البنية الأساسية؛ ونظراً لإمكانيات مشروع ممر INSTC، لن يكون من الصعب جذب الشركاء المحتملين.
ومن جانبهم، سيتعين على منافسي الهند اقتصادياً وسياسياً أن يتوصلوا إلى استراتيجيات جديدة لمنع تنفيذ استراتيجية الهند في إيران والقوقاز. إن نجاح أو فشل أي من الجانبين سوف يعتمد على مدى سرعة تكيفه مع الواقع المتغير في القوقاز.