15 من كل 100 شخص في درنة قد يكون قد اختفى أو توفي جراء كارثة السيول المروعة، أي 15% من سكان المدينة المقدرين بأقل من مائة ألف بعد تدمير ربع مساحتها، جراء انهيار سدي درنة واندفاع مياهما نحو المدينة الساحلية، في كارثة نادرة الحدوث تثير تساؤلاً حول أسبابها، ولماذا كانت درنة صاحبة النصيب الأكبر من الخسائر، رغم أنها لم تتلقَّ النصيب الأكبر من الأمطار من العاصفة المتوسطية "دانيال".
وتفيد تقديرات غير نهائية بأن أكثر من 5 آلاف شخص لقوا مصرعهم وفقد نحو 10 آلاف آخرين جراء السيول وانهيار سدي درنة، ويبدي العاملون في مجال الإنقاذ تشاؤمهم من إمكانية انتشال أعداد كبيرة من الناجين، بالنظر إلى أن السيول تأثيرها مختلف عن الزلازل، ففي الأخيرة يُدفن الناس تحت ركام جاف، وقد تكون هناك فجوات في البيوت تسمح لهم بالبقاء لأيام، ولكن في السيول يُدفن الناس تحت طمي وطين وصخور بشكل يقلل فرص النجاة.
ووصف محللون كارثة فيضانات ليبيا بأنها نتيجة التقاء أزمة المناخ مع دولة فاشلة؛ حيث تعاني ليبيا منذ سنوات من حرب أهلية ووجود حكومة معترف بها دولياً في الغرب مقابل حكومة أمر واقع في الشرق، تابعة للجنرال خليفة حفتر، الذي يوصف بقائد الجيش الوطني الليبي.
وأظهرت لقطات فيديو جرى تسجيلها بعد حلول مساء يوم الأحد اجتياح مياه فيضانات مدينة درنة، التي يبلغ تعداد سكانها نحو 100 ألف نسمة، بينما كانت السيارات تتأرجح بفعل قوة تيارات المياه.
وبحلول الصباح تبين دمار أحياء كاملة وكانت شوارعها مغطاة بالطين والركام، كما جرفت المياه العديد من السيارات، وسط حديث عن غرق أحياء كاملة جراء العاصفة دانيال.
رُويت قصص مروعة عن أشخاص جرفتهم المياه إلى البحر، بينما تشبث آخرون بأسطح المنازل للبقاء على قيد الحياة.
وقال عمدة درنة، عبد المنعم الغيثي: "نحن في الواقع بحاجة إلى فرق متخصصة في انتشال الجثث". "أخشى أن تصاب المدينة بالوباء بسبب كثرة الجثث تحت الأنقاض وفي المياه".
لعنة الجغرافيا أصابت مدينة درنة
تأسست المدينة على ضفاف وادي درنة، الذي يمر بوسط المدينة البالغ طوله نحو 60 كم، وحوض بمساحة 575 كم²، مما يجعل المدينة عبارة عن سهل ساحلي محصور بين البحر في الشمال ومن الجنوب سلسلة من تلال الجبل الأخضر ويشطرها الوادي لنصفين.
طبيعة المدينة الجغرافية ووقوعها في منطقة جبلية منخفضة ضمن منطقة الجبل الأخضر، كانا من العوامل الرئيسة لتفاقم الكارثة في المدينة، وفق وزير الموارد المائية بالحكومة الليبية المكلفة من البرلمان شرق ليبيا، محمد دومة للجزيرة نت.
فوادي درنة هو المكان الوحيد الذي تجتمع فيه المياه المنحدرة من كل وديان الجبل الأخضر الليبي بشرق البلاد، وفي الكارثة الأخيرة، امتلأ الوادي بمياه الأمطار التي سببها إعصار دانيال وارتفع مستواها بشكل غير مسبوق لتشكل طوفاناً وضغطاً هائلاً على أهم سدين يحجزان المياه في الوادي وهما سد البلاد وسيدي أبو منصور فانهارا، ما أدى إلى ارتفاع أعداد الضحايا والخسائر المادية.
وذكرت هيئة الأرصاد الجوية الليبية أن الأمطار التي سقطت في يوم، تُعادل التي تسقط في سنة.
أسباب انهيار سدي درنة
ليل الأحد الإثنين، انهار السدان الرئيسيان على نهر وادي درنة، ما تسبب في انزلاقات طينية ضخمة دمّرت جسوراً وجرفت العديد من المباني مع سكانها.
السد العلوي يحمل اسم سد البلاد، بسعة تخزين تبلغ 1.5 مليون متر مكعب من المياه، في حين أن السد السفلي، سد أبو منصور، كان بسعة تخزينية تبلغ 22.5 مليون متر مكعب، ويعتقد أن السد السفلي انهار أولاً، بعد تجمع مياه تقدر بنحو 75 مليون متر مكعب أي 3 أضعاف سعة السدين، جرفت المياه السد الثاني الأصغر متجهة نحو درنة.
وقال عضو المجلس البلدي في درنة، أحمد امدودر في تصريح للجزيرة نت، إن انهيار السدين تسبب في انهيار 4 جسور رئيسة تربط أنحاء المدينة، وجسر آخر في اتجاه ساحل درنة، مضيفاً أن السيول جرفت العديد من المباني والعمارات السكنية المأهولة بالسكان، والواقعة ما بين السدين وشاطئ المدينة.
وحالت طرق مقطوعة وانهيارات أرضية وفيضانات دون وصول المساعدة إلى سكان المدن المتضررة، خاصة أن الجبال تحيط المدينة من معظم النواحي.
وقال هشام شيكوات، وزير الطيران المدني فيما يعرف بحكومة شرق ليبيا التابعة لحفتر وغير المعترف بها دولياً أمس "البحر ما زال يلقي بعشرات الجثث".
وأضاف لوكالة رويترز للأنباء: "لقد عدت من درنة. إنه أمر كارثي للغاية. الجثث ملقاة في كل مكان – في البحر، في الوديان، تحت المباني".
وتكدست المستشفيات ومراكز حفظ الموتي، بشكل كامل بحيث لم يعد بإمكانها استقبال أي زيادة.
وقال دكتور نجيب الترهوني، الذي كان يعمل في مستشفى قرب درنة، لبي بي سي، "لديّ أصدقاء فقدوا أسرهم بالكامل، فقدوا كل أقاربهم".
المؤرخ الليبي تحدّث عما سماه التاريخ الطويل من خذلان وادي درنة لسكان المدينة.
وقال إن وادي درنة هو أشهر واد في ليبيا وأبرز معالم المدينة، إلا أنه في الوقت ذاته يشكل مصدر خطر دائم على السكان لتسببه في السابق بكوارث مشابهة لما يعيشه السكان اليوم جراء إعصار دانيال.
ففي عام 1941، حدث فيضان كبير في وادي درنة وضرب المدينة وجرف من قوته دبابات وآليات حربية ألمانية إلى البحر، حسب المؤرخ الليبي.
ويضيف أن ذلك كان في أثناء الحرب العالمية الثانية، لذلك لم يتحدث أحد عن الأضرار البشرية التي وقعت آنذاك مع الجزم أنها كانت كبيرة.
أما عام 1959، فإن فيضاناً كبيراً آخر حدث -كما يوضح الدرناوي- بسبب ارتفاع مستوى المياه في الوادي وأوقع قتلى ومصابين بالمئات ودمر العديد من المنازل، ومن شدة قوته حركت المياه المندفعة الصخرة الكبيرة في درنة، المعروفة بصب الزيت، إلى مسافة كبيرة من منطقة عين البلاد حتى منطقة وسط المدينة.
ويسجل المؤرخ الليبي فيضانات أخرى بسبب وادي درنة عامي 1968-1969، لكنها لم تسجل أضراراً كبيرة وقتها، على حد قوله.
في أعقاب ذلك، أشارت دراسات في ستينيات القرن الماضي إلى أنه ينبغي بناء السدود لحماية المدينة من الفيضانات.
وبالفعل بنت شركة يوغسلافية سدّي درنة في السبعينيات، السدّان بقلب من الطين المضغوط مع درع محيط من الحجر والصخور.
وعانت درنة من الفيضانات في عام 1986، لكن السدود نجحت في إدارة المياه لتجنب إلحاق أضرار جسيمة بالمدينة.
وكان ارتفاع السدّين يبلغ حوالي 40 متراً فقط قبل أن يتحولا إلى ركام.
بعد إنشائهما في عام 1986، حدث تسريب في أحد السدود عبر بالوعة التصريف، ما أسفر عن حدوث فيضان آخر في وادي درنة خلّف أضراراً بشرية.
لم تنقطع الكوارث الطبيعية في وادي درنة حتى في التاريخ المعاصر وفق الدرناوي، حيث فاض الوادي عام 2011، بعد أن حاولت السلطات المحلية فتح السدود لتصريف المياه التي تراكمت وقتها بفعل الأمطار الغزيرة وكادت المدينة تغرق.
عدم صيانة السدين هي السبب في انهيارهما
وقال المتحدث باسم جهاز الإسعاف الليبي أسامة علي، إنّ "انهيار سدي درنة جاء بسبب عدم صيانة السدّين الأمر الذي كان له تأثير واضح في حدوث الانهيار"، حسبما ورد في تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
وأكد وفق وزير الموارد المائية بالحكومة الليبية المكلفة من البرلمان شرق ليبيا، محمد دومة للجزيرة نت، أن السدود المائية في مدينة درنة قديمة جداً وبحاجة إلى صيانة، وأنها لم تُبن وفق المواصفات والمعايير الحديثة، ما جعلها لا تستطيع الوقوف في وجه مثل هذه الظواهر الطبيعية الغريبة عن المنطقة.
وأشار دومة إلى أن الانقسام السياسي الذي تشهده ليبيا طيلة الأعوام السابقة، ووجود حكومتين في البلاد حال دون الالتفات إلى عمليات الصيانة وتأهيل البنى التحتية في جميع مناطق البلاد، مشيراً إلى أن مدينة درنة كانت تشهد حروباً وحالة من عدم الاستقرار في أغلب السنوات الماضية.
تحذير صدر من خبير ليبي العام الماضي
وفي عام 2022، حذّر عبد الونيس عاشور الخبير في علوم المياه من جامعة عمر المختار الليبية في بحث نشره، من أن تكرار الفيضانات يهدد السدود المبنية في الوادي، وهو عبارة عن مجرى نهر جاف في العادة، وحث على إجراء أعمال الصيانة بشكل فوري.
وكتب عبد الونيس عاشور "إذا حدث فيضان ضخم، ستكون النتيجة كارثية على سكان الوادي والمدينة".
يفترض أن درنة خاضعة لسلطة اللواء الليبي خليفة حفتر، والحكومات التابعة له، وبالتالي هي المسؤولة عن المدينة.
تم تخصيص الأموال للعمل على بناء السدود، لكن المراجعة المتداولة عبر الإنترنت تظهر أنه تم إنفاق القليل منها على ما يبدو. وبمجرد أن غمرت مياه الفيضان السد الأول، تراكمت بسرعة خلف السد الثاني، مما أدى إلى انفجاره أيضاً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة the Guardian.
حكومات ليبيا درنة ناصبت العداء
كانت درنة معقلاً للمعارضة الإسلامية المسلحة لنظام حكم معمر القذافي، وثارت ضد القذافي بشكل نادر الحدوث في ليبيا قبل الثورة، وخلال الثورة كانت من أوائل المدن التي تحررت من القذافي، ثم سيطر داعش على المدينة لفترة قبل أن تطرد من قبل مجلس شورى مجاهدي درنة (جماعة توصف بأنها على صلة بالقاعدة) بعد حملة لمدة عامين.
وفور قضائها على داعش، تعرضت لهجوم من قبل حفتر مدعوم بالطائرات والمدفعية، رغم دعوات مجلس شورى درنة للتفاوض.
ومنذ السيطرة عليها من قبل حفتر في عام 2016، حاول الجنرال، الذي تلقى تعليمه الثانوي في المدينة، الحفاظ على سيطرته الوثيقة على سياسات درنة.
وكان من المقرر إجراء انتخابات المجالس البلدية هذا الشهر، مع إعداد القوائم وتسجيل الناخبين. لكن في الأسابيع الأخيرة، أحرق أعضاء من كتائب أولياء الدم الموالية لحفتر ملصقات انتخابية وهددوا المرشحين بالخطف والقتل، مطالبين بإلغاء الانتخابات وتنصيب حاكم عسكري في المدينة. وأفاد رئيس اللجنة الانتخابية بأنه تعرض للتهديد. واقترح عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب في برلمان شرق البلاد، تشكيل مجلس إدارة مؤقت، وهي طريقة لتأجيل الانتخابات، حسبما ورد في تقرير لصحيفة the Guardian.
العمدة طلب إخلاء المدينة مع قدوم الإعصار، ولكن قوات حفتر رفضت وفرضت حظراً للتجول!
وقال الناطق باسم المركز الوطني للأرصاد الجوية بليبيا إن المركز الوطني نبه إلى خطر سقوط الأمطار، وأنه سيحدث جريان للمياه في الوادي قبل 4 أو 5 أيام من الكارثة، وتم إبلاغ وزارات الدولة، والجهات الخدمية، ووسائل الإعلام.
وقال إنه كان يجب أن تشكل الأجهزة المعنية فرقاً للتعامل مع الوضع، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهو ما لم يحدث، مستدركاً في الوقت ذاته أن الأمطار كانت بكمية غير مسبوقة، والسبب الرئيسي ضخامة الكارثة هو انهيار السدين، حيث كانت كمية الأمطار في مدينة البيضاء ضعف درنة ولم تحدث نفس الخسائر.
وتشير تقارير إلى أن عمدة درنة أكرم عبد العزيز، طلب الإذن بإخلاء المدينة مع اقتراب الإعصار أو العاصفة المطرية، وهو ما رفضه حفتر وسلطات الشرق الليبي.
ويقول جلال حرشاوي، الخبير الليبي في المعهد الملكي للخدمات المتحدة (RUSI): "السلطات (في الشرق) قالت بوضوح: لا لعمليات الإخلاء"، مرجعاً ذلك إلى عدم الثقة في سكان المدينة والرغبة في إبقائهم في حالة حصار دائم.
ويشير حرشاوي في حديث موقع "ميدل إيست آي"، إلى أن درنة كانت من أكثر المدن استعصاءً على قوات خليفة حفتر التي حاصرتها بين عامي 2015 و2018، قبل أن تستطيع الاستيلاء عليها، ولكن ذلك رافقه توجس وغياب للثقة إزاء سكان المدينة التي دائماً ما كانت مركزاً للفنانين والمثقفين في البلاد.
ويضيف: "أنت تريد أن يظل سكان المدينة ضمن منطق الحصار الذي رأيناه في الماضي القريب. فحفتر أمر جميع سكان درنة بالبقاء في منازلهم، وهو ما كان أسوأ قرار يمكن أن يتخذه بعد فوات الأوان".
بينما تقول صحيفة الغارديان إنه بدلاً من إصدار تعليمات بإجراء عملية إخلاء مع اقتراب العاصفة. تم فرض حظر التجول، وهو الرد المعتاد للميليشيات الليبية على أي أزمة.
ويقول السكان، الذين انعدمت لديهم الثقة في أي سلطة منذ فترة طويلة بسبب سنوات من القتال والنزاعات، إنه كانت هناك حالة من الارتباك بشأن كيفية التعامل مع الأزمة عندما أغرقت العاصفة دانيال المنطقة.
وقال ساكن يدعى مصطفى سالم لرويترز "بعض المناطق تلقت تعليمات بالإخلاء لكن بعض الأشخاص لم يستجيبوا". ولم يذكر تفاصيل عن الجهة التي أرسلت التعليمات.
وأمر كل من رئيس المجلس الرئاسة الليبي محمد المنفي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دولياً النائب العام بتشكيل لجنة من أجل معرفة أسباب إنهيار السد، ولكن الرجلين لا يتمتعان بأي سلطة فعلية في شرق ليبيا الخاضع لسيطرة خليفة حفتر مع بعض النفوذ لرئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح.
وتعلق صحيفة الغارديان قائلة: لم يتضح بعد ما إذا كان السياسيون الذين كان لهم دور في ترك درنة مكشوفة للطبيعة، سوف يُجرفون مع المباني التي انهارت في النهر المتدفق، أم أن لديهم قدرة مذهلة على البقاء.