"المدينة المنكوبة أو المظلومة"، هكذا يمكن أن توصف مدينة درنة الليبية التي يحاصرها البحر المتوسط من ناحية والجبال الخضراء من الناحية الأخرى، والتي شهدت مأساة مروعة يعتقد أن آلاف الضحايا راحوا ضحيتها جراء السيول، ولكن تاريخ درنة الحديث مليء بالمآسي والمذابح التي أغلبها من فعل الإنسان، وليس الطبيعة.
ودمر الإعصار دانيال الذي ضرب شرق ليبيا نحو رُبع مدينة درنة تماماً ووفاة نحو 5200 شخص، وسط مخاوف من فقدان نحو 10 آلاف شخص، جراء الكارثة التي يعتقد أن السبب في تفاقمها انهيار سدين في المدينة.
وتقع درنة بين البحر المتوسط والطرف الشرقي للجبل الأخضر بشرق ليبيا، وهي إحدى مناطق الغابات القليلة في البلاد، ويتراوح عدد سكانها بين 85 ألف نسمة و90 ألفاً، وهي مشهورة بمناظرها الطبيعية الخلابة.
بُنيت المدينة على طول وادي درنة، وهو نهر سريع الزوال يجف معظم أيام السنة، وتاريخياَ، تعرضت المدينة لأضرار متكررة بسبب الفيضانات، كان الهدف من بناء سدي أبو منصور ودرنة في أعلى المدينة هو السيطرة على تآكل التربة ومنع الفيضانات. ويبدو أن كلا السدين قد دمرتهما عاصفة البحر الأبيض المتوسط "دانيال".
كانت مدينة درنة، ذات يوم ميناءً مهماً على البحر الأبيض المتوسط في العالم القديم لليونانيين والرومان.
المدينة هي أيضاً موطن لأشخاص من أصول مختلطة، ففي عام 1493 تم توطين الأندلسيين المطرودين من إسبانيا في موقع المستوطنة القديمة بالمدينة.
وخلال العصر العثماني، كانت مقراً لواحدة من أغنى المناطق في الأقاليم الليبية التابعة للدولة العثمانية، والتي قامت مواردها على الهجوم على السفن الأوروبية في البحر المتوسط.
في بداية القرن التاسع عشر، فشلت قوة فرنسية في هزيمة المدينة، ولكن بعد ذلك بخمس سنوات أي في عام 1805، كانت المدينة موقعاً لمعركة درنة الشهيرة، وهو أول انتصار يحققه جيش الولايات المتحدة على أرض أجنبية بعد استقلالها عن بريطانيا، ووقعت هذه الحرب بسبب الهجمات على السفن الأمريكية في المتوسط، ومطالبتها من قبل الليبيين بدفع أتاوات مقابل السماح لها بالملاحة في المتوسط.
مذبحة كبرى وقصف بالطائرات في عهد القذافي
ولكن معاناة المدينة الكبرى حدثت في عهد الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، حيث أصبحت المدينة التي توصف بأنها أكبر مدن ليبية ذات طبيعة إسلامية أصولية، معقلاً للمعارضة الإسلامية المناهضة للقذافي.
بدأت علاقة درنة بالتنظيمات المسلحة في منتصف عام 1995، حين عادت إليها مجموعة من المقاتلين الليبيين الذين شاركوا في محاربة الغزو السوفييتي لأفغانستان، ليعلنوا رسمياً عن تأسيس الجماعة الليبية المقاتلة، والتي تسعى إلى إسقاط نظام العقيد معمر القذافي.
وهي الجماعة التي قامت بتنفيذ مجموعة من العمليات المسلحة على مواقع أمنية عدة، فكان الرد مباشراً من نظام العقيد أن وجّه ضربات جوية وهجمات برية وحملات اعتقال جماعية داخل المدينة.
وقال مواطنون من شرق ليبيا لـ"عربي بوست" إن القذافي في التسعينيات من القرن العشرين قذف المدينة بالنابالم، ولم يتسنّ التأكد من هذا الادعاء، ولكن أشاروا إلى رقع جرداء في الجبال الخضراء المحيطة بالمدينة، وأرجعوها لتأثير قصف جبال المدينة بالنابالم من قبل قوات القذافي.
ارتبطت المدينة بواحدة من أسوأ المذابح في تاريخ ليبيا الحديث، وهي حادثة قتل جماعي ارتكبتها قوات الأمن الليبية 1996 بحق سجناء داخل سجن بوسليم المركزي بالعاصمة طرابلس؛ لاحتجاجهم على سوء أوضاعهم. قتل فيها قرابة 1300 معتقل، رغم أنه كان جارياً التفاوض معهم، بواسطة صهر معمر القذافي ورئيس مخابراته عبد الله السنوسي، وقد تعهد السنوسي بتنفيذ مطالب السجناء -باستثناء المحاكمات- إذا ما قاموا بالإفراج عن الحارس الأسير الذين احتجزوه.
ولكن تم إطلاق النار عليهم بعد ذلك، ويعتقد أن عدداً كبيراً من السجناء كانوا من درنة.
في كتابه "السلفية في المغرب العربي: السياسة والتقوى والتشدد" يقول فريدريك ويهري، الباحث في شؤون الشرق الأوسط وليبيا، إن موجة الاعتقالات والعقاب الجماعي التي شهدتها درنة في تسعينيات القرن الماضي، من قمع وقطع المياه والكهرباء وهدم المنازل، والمذبحة التي راح ضحيتها أكثر من ألف سجين في أبو سليم بطرابلس 1996 سوف تساهم لاحقاً في تطرف الجيل الثاني من الجهاديين. وهو ما حدث بالفعل.
وفي عام 2007، كشفت القوات الأمريكية في العراق عن قائمة بأسماء المقاتلين الأجانب الذين شاركوا في التمرد العراقي. ومن بين الليبيين الـ112 المدرجين في القائمة، جاء 52 منهم من درنة.
مع اندلاع ثورة فبراير/شباط عام 2011 ضد حكم القذافي، لعبت المدينة دوراً كبيراً بها، وكانت من أوائل المدن التي تحررت من قبضة نظام القذافي، ودعمت الثورة في باقي مناطق شرق ليبيا.
وظهرت العديد من التشكيلات المسلحة في المدينة، ولعل أبرزها وأكثرها تأثيراً كتيبة شهداء أبو سليم، التي أسسها سالم ديربي أحد الأعضاء السابقين في الجماعة الليبية المقاتلة، والتي اشتهرت بسبب مشاركتها في الحرب الأهلية الأولى ضد نظام القذافي، حسبما ورد في تقرير لموقع رصيف 22.
وبعد الثورة فرضت كتيبة شهداء أبو سليم سيطرتها على أجزاء واسعة من درنة.
إلا أنه في أكتوبر/تشرين الأول 2014، تعهدت مجموعة من المتشددين الإسلاميين المتمركزين في درنة (وخاصة الأعضاء المنشقين عن كتيبة شهداء أبو سليم) بالولاء لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وسيطروا على جزء كبير من المدينة، على الرغم من معارضة الإسلاميين الآخرين (الذين يعتقد أن لهم علاقات وثيقة بتنظيم القاعدة) .
أدت الاشتباكات إلى مقتل سالم ديربي، قائد كتيبة شهداء أبو سليم، واتسم حكم داعش إلى حد كبير بقطع الرؤوس وأشكال أخرى من الإعدام أو أعمال الإذلال العلني، حسبما ورد في تقرير لموقع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين "Refworld".
تشكيل قوة لطرد داعش
وسبق أن قال أحد مسؤولي الاتحاد الأوروبي، والذي اشتبك مع الملف الليبي تحدث إلى رصيف 22 (شريطة عدم ذكر اسمه) إن: "الحياة في درنة كانت شبه مستحيلة، لا يمكن تخيل كمّ المعاناة التي عاناها قاطنوها".
في 12 ديسمبر/كانون الأول 2014، قام المقاتلون المعارضون لتنظيم داعش داخل درنة بتشكيل مجلس شورى مجاهدي درنة، وبدأت هذه المجموعة بطرد مقاتلي داعش من المدينة في يونيو/حزيران 2015.
وحتى عندما فرضت قوات أمير الحرب الليبي خليفة حفتر حصاراً فضفاضاً على المدينة. خاض مجلس شورى مجاهدي درنة حرباً لا هوادة فيها ضد أعضاء داعش المسؤولين عن جرائم القتل والتفجيرات الانتحارية في درنة، وكثيراً ما قام بإعدام مقاتلي داعش بعد الحصول على اعترافاتهم.
مصر تقصف درنة بعد ذبح داعش لـ21 قبطياً في سرت
قام تنظيم داعش بذبح 21 مسيحياً قبطياً مصرياً في سرت في فبراير/شباط 2015.
ورداً على عملية الإعدام هذه، شنّت القوات الجوية المصرية غارات على مواقع في درنة تقول إنها أماكن تدريب لداعش وتخزين أسلحة لها، وكانت الحصيلة مقتل نحو 50 من أفراد التنظيم، كما صُرّح على لسان الفريق صقر الجروشي، رئيس أركان القوات الجوية التابعة للبرلمان الليبي بطبرق.
في المقابل، نُشرت مجموعة من الفيديوهات والصور على مواقع التواصل الاجتماعي تُظهر أن من تعرض للقصف هو مجموعة من المواقع المدنية مما سبّب مقتل وجرح عدد منهم.
في تقرير نشرته هيومن رايتس ووتش في 24 شباط/فبراير 2015 تُؤكّد فيه توثيقها مقتل 7 مدنيين جراء الغارات الجوية التي شنتها القوات الجوية المصرية على مدينة درنة، حسبما نقل عنها موقع رصيف 22.
وأعلن مجلس شورى مجاهدي درنة في ذلك الوقت أنه "لا علاقة له بتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق"، مضيفاً أنه لا علاقة له أيضاً بعمليات قطع رؤوس الأقباط المصريين التي ينفذها تنظيم داعش في سرت على بُعد مئات الكيلومترات.
وفي وقت لاحق من ذلك العام، قتلت غارة جوية أمريكية قائد تنظيم داعش أبو نبيل الأنباري (المعروف أيضاً باسم وسام نجم عبد زيد الزبيدي أو أبو مغيرة القحطاني) خارج درنة.
شبهات حول صفقة مريبة بين داعش وحفتر
لبعض الوقت، تمكن الهاربون من تنظيم داعش من الاستقرار في ضاحية الفتائح الصناعية، ولكن تم إجبارهم على الخروج من هناك في نهاية المطاف في نيسان/ أبريل 2016، مما أنهى حملة مكافحة الإرهاب التي استمرت عامين.
وبعد 4 أيام، اشتكى مجلس مجاهدي درنة من أنه منذ طرد داعش، شنت القوات الجوية الصغيرة التابعة لحفتر 12 غارة جوية على أحياء مدنية في المدنية، في حين أنها لم تهاجم مقاتلي داعش الفارين الذين كانوا متواجدين في مناطق زراعية مفتوحة، حسبما ورد في تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين "Refworld".
ويعد التزامن بين القضاء على داعش وهجوم حفتر، وعدم استهدافه لتنظيم الدولة مؤشراً على صفقة ما بين الطرفين أو على الأقل توافق مصالح بطريقة تكررت مراراً في مناطق أخرى بليبيا (إضافة لتحالف حفتر مع المدخلية السلفية).
حفتر يهاجم درنة رغم المطالبات بالمصالحة ويتوعد بإخلائها من كل المدنيين
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2017، قُتل 17 شخصاً -معظمهم من النساء والأطفال- جراء غارات شنتها مقاتلات مجهولة على مدينة درنة الليبية مساء الإثنين، وجّهت أصابع الاتهام فيها لقوات حفتر، التي نفت مسؤوليتها، بينما طالب المجلس الأعلى للدولة بعقد جلسة طارئة في مجلس الأمن لإدانة المجزرة.
وعندما بدأت قوات حفتر في احتلال المرتفعات الجنوبية المطلة على درنة في الأسبوع الثالث من أبريل/نيسان 2018، دعا مجلس شورى المجاهدين للمصالحة، ومد "يده للسلام" وأعلن أن أعضاءه "مستعدون للمحاسبة عن أي ظلم ثبت أنهم ارتكبوه".
وسمحت السيطرة على المرتفعات لمدفعية قوات حفتر بتوجيه نيران أكثر كثافة على أهداف داخل درنة.
وفي 7 مايو/أيار 2018، أعلن حفتر عن هجوم نهائي، متعهداً بما وصفه بـ"تحرير" درنة حتى لو "اضطر إلى إجلاء جميع المدنيين منها".
ووصف محمد عماري زيد، عضو المجلس الرئاسي، الهجوم بأنه "جريمة حرب"، قائلاً إنه تم تنفيذه لتلبية "الطموحات الشخصية"، وليس لخدمة مصالح الأمة.
وفي يونيو/حزيران من نفس العام، توجّه الشيخ صادق الغرياني مفتي ليبيا إلى التلفزيون الليبي ليصف الهجوم الذي وقع خلال شهر رمضان المبارك بأنه "غير معقول". وحث الغرياني جميع الليبيين على دعم مواطني درنة بالعصيان المدني إذا لزم الأمر، وقال: "ما يحدث في درنة ليس حرباً على الإرهاب، بل حرب على كل الليبيين من أجل إخضاعهم".
وفي 4 يونيو/حزيران، دخلت قوات حفتر المدينة، بدعم المدفعية والطائرات الحربية التابعة لقوات حفتر ومصر والإمارات العربية المتحدة، حسبما ورد في تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين "Refworld".
وتفيد التقارير بأن فرنسا، التي ساعدت حفتر في حصاره الذي دام 3 سنوات على بنغازي، زودت حفتر سراً بطائرة استطلاع من طراز Beechcraft King Air 350 تم الحصول عليها حديثاً لاستخدامها فوق درنة.
ويقول التقرير الأممي الذي نُشر في عام 2018 أنه بما أن حفتر مغرم بالإشارة إلى جميع خصومه السياسيين على أنهم "إرهابيون"، فإن السؤال هو ما إذا كان الترخيص الذي منحه له المجتمع الدولي في درنة سينطبق على الهجمات المستقبلية على طرابلس وغيرها من مراكز المقاومة المناهضة لحفتر (وهو ما حدث بالفعل عبر الهجوم على طرابلس عام 2019، والذي أفسد تحضيرات الأمم المتحدة لعقد مؤتمر للسلام، ولكن الهجوم تصدت له قوات حكومة الوفاق الليبية بدعم من تركيا.
ولا يعرف هل المأساة التي وقعت في درنة بسبب إعصار دانيال، ساعد على تفاقمها تضرر المدينة بسبب حصار حفتر لها والهجوم عليها، وتعرضها للإهمال في ظل النظر إليها من قبل قوات شرق ليبيا، على أنها معقل القوى المناهضة لحفتر.
فهل انهيار السدين بالمدينة قد حدث بسبب إهمال في ترميمهما وصيانتهما، وهل عوقبت المدينة التي قاومت حفتر لسنوات بالإهمال، خاصة أن منطقة شرق ليبيا، وبالأخص مرتفعات الجبل الأخضر معرضة دوماً للسيول، ولذا يفترض أن يتم بشكل دوري تطهير مخرات السيول وترميم السدود لمنع وقوع مثل هذه الكوارث.