يقع الشرق الأوسط على مفترق طرق 3 قارات مهمة، هي أوروبا وأفريقيا وآسيا، حيث تتنافس القوى الكبرى -كما كانت تفعل العديد من القوى في الماضي- على هذه الممرات التجارية لتأمين سلاسل التوريد للعالم، وتأمين نفسها بكل ما تحتاجه من الخارج، وتحقيق أكبر نفوذ اقتصادي وسياسي عبر هذه الممرات.
ومنذ العام 2013 تطمح الصين لإحياء طريق الحرير القديم عبر مبادرة "الحزام والطريق"، ذلك الطريق الذي مثَّل للعالم شرياناً رئيسياً للتفاعل الثقافي والتجاري في مناطق أوراسيا المختلفة، حتى منتصف القرن الخامس عشر.
و"الحزام والطريق"، هي مبادرة صينية قامت على أنقاض طريق الحرير القديم، وتهدف إلى ربط الصين بالعالم عبر استثمار مليارات الدولارات في البنى التحتية على طول طريق الحرير الذي يربطها بالقارة الأوروبية، ليكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، ويشمل ذلك بناء مرافئ وطرقات وسكك حديدية ومناطق صناعية عبر مسارات متعددة.
والطريق الصيني من المفترض أن تشارك فيه نحو 100 دولة، حيث تريد الصين من خلاله تسريع وصول منتجاتها إلى الأسواق العالمية، بما في ذلك آسيا وأوروبا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية والوسطى. ووفقاً لخطة عمل مشروع "الحزام والطريق" تشمل المبادرة الطُّرق البرية (أي الحزام) والطُّرق البحرية (أي الطريق) بهدف تحسين العلاقات التجارية في المنطقة من آسيا الوسطى لأوروبا، من خلال استثمارات البنية التحتية.
لكن منذ ذلك الحين، تحاول الولايات المتحدة عرقلة المشروع الصيني وتدفع بمبادرات لإبعاد العديد من حلفائها عن المشاركة في هذا المشروع من خلال طرح واشنطن شريكاً ومستثمراً بديلاً أمام الدول النامية، في ظل تنافس القوة والنفوذ السياسي والاقتصادي بين الطرفين.
آخر هذه المبادرات، هو مشروع الممر الاقتصادي الهندي الذي دفعت به الولايات المتحدة مع دول أخرى على هامش قمة مجموعة العشرين التي عقدت في الهند، والذي من شأنه أن يربط الهند وأوروبا من خلال خطوط السكك الحديد والنقل البحري عبر الشرق الأوسط، في ما يعدّ رداً على مبادرة الحزام والطريق الصيني. فما قصة هذا المشروع؟
ما هو الممر الاقتصادي الهندي؟
أثار إعلان بايدن من نيودلهي عن مشروع ممر اقتصادي من الهند إلى الشرق الأوسط وصولاً إلى أوروبا الكثير من التساؤلات والتكهنات بشأن أهدافه ومنافسته لطريق الحرير الصيني الجديد، في حين احتفى رئيس الوزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالمشروع باعتباره "تغييراً لملامح المنطقة"، حسب تعبيره.
ووقّعت أمريكا والهند والسعودية والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي في نيودلهي على مذكرة تفاهم لإنشاء هذا الممر الذي يشمل سككاً حديدية وربط موانئ ومد خطوط وأنابيب لنقل الكهرباء والهيدروجين، بالإضافة إلى كابلات لنقل البيانات.
ووصف الرئيس الأمريكي المشروع بالتاريخي، لكنه لم يتحدث عن منافسة مفترضة مع مبادرة "الحزام والطريق" الصينية التي تقوم على إحياء طريق الحرير القديم، بينما قال محللون إن الممر يعد رداً غربياً هندياً مشتركاً على المشروع الصيني.
حيث جاء إعلان بايدن بعد يومين من تصريح المتحدثة باسم الخارجية الصينية بأن 90 دولة أكدت أنها ستشارك في المنتدى الثالث لمبادرة "الحزام والطريق" الذي تستضيفه بكين في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
فيما ربط محللون بين الإعلان الأمريكي عن المشروع الجديد وغياب الرئيس الصيني شي جين بينغ عن قمة العشرين، وأن هذه الخطوة تأتي في إطار التنافس الصيني الهندي، في جنوب شرق آسيا.
ما تفاصيل المشروع الهندي ومن أين سيمر؟
خلال توقيع الاتفاق الممر الاقتصادي، قال بايدن إنها "صفقة كبيرة حقيقية" من شأنها أن تربط الموانئ عبر قارتين وتؤدي إلى "شرق أوسط أكثر استقراراً وازدهاراً وتكاملاً". كما أضاف خلال فعالية للإعلان عن الاتفاق أنه سيتيح "فرصاً لا نهاية لها" للطاقة النظيفة والكهرباء النظيفة ومدّ الكابلات لربط المجتمعات.
فيما قال رئيس وزراء الهند المضيفة للقمة ناريندرا مودي: "بينما نشرع في مبادرة الربط الكبيرة هذه، فإننا نضع بذوراً تجعل أحلام الأجيال المقبلة أكبر". وقال جون فاينر نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي للصحفيين خلال القمة السنوية للمجموعة في نيودلهي، إن الاتفاق سيعود بالنفع على الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل في المنطقة، ويتيح للشرق الأوسط الاضطلاع بدور حاسم في التجارة العالمية، حسب تعبيره.
يقول مسؤولون أمريكيون إن المشروع يهدف إلى ربط دول الشرق الأوسط من خلال السكك الحديدية وربطها بالهند من خلال الموانئ، مما يساعد على تدفق صادرات الطاقة والتجارة من الخليج إلى أوروبا، وذلك من خلال تقليص أوقات وتكاليف الشحن واستخدام الوقود.
ولم تتوفر تفاصيل عن قيمة الصفقة حتى الآن. لكن نشرت العديد من الحسابات المقربة من الحكومة الهندية مثل سوميت بير الصحفي والمعلق في التلفزيون الوطني الهندي فيديو للممر الاقتصادي الذي سيربط بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط، مضيفاً في تغريدة أن "رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يصنع التاريخ من خلال هذا المشروع"، حسب تعبيره.
والخريطة المتداولة، تصف نفس المسار الذي نشره رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي بارك المشروع الأوراسي، واصفاً إياه بأنه "التعاون الأكبر في تاريخ إسرائيل".
لماذا تحتفي إسرائيل بهذا المشروع؟
واحتفى نتنياهو بالإعلان عن الممر الاقتصادي، وظهر في مقطع فيديو عبر منصات التواصل الاجتماعي السبت، يبين فيه بالخرائط مسار المشروع الذي ذكر أن إسرائيل ستكون محطة رئيسية فيه.
وقال نتنياهو: "يسرني أن أزف لمواطني دولة إسرائيل بشرى تحول إسرائيل إلى مفرق رئيسي في هذا الممر الاقتصادي"، مشيراً إلى أن رؤية هذا المشروع "تعيد تشكيل ملامح منطقة الشرق الأوسط".
وأضاف أن واشنطن اتصلت بإسرائيل قبل شهور عدة للمشاركة في المشروع، ومنذ ذلك الحين جرت "اتصالات دبلوماسية مكثفة لتحقيق هذه الانفراجة". ووصف نتنياهو المشروع بأنه "التعاون الأكبر في تاريخ إسرائيل"، وفق تعبيره.
لكن هذه الخطوة تأتي في ظل جهود الولايات المتحدة من أجل اتفاق دبلوماسي أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط من شأنه أن يجعل السعودية تعترف بإسرائيل.
وبحسب فاينر أنه من وجهة نظر الولايات المتحدة، فإن الاتفاق يساعد على "خفض التوتر في أنحاء المنطقة" و"التعامل مع الصراع حيثما نراه"، حسب تعبيره.
طموحات صعود الصين كقوة جيوسياسية رئيسية يتمثل في مبادرة الحزام والطريق
يُعد طريق الحرير الجديد تعبيراً صريحاً عن طموحات القوة الصينية في القرن الحادي والعشرين، فهو يأتي بهدف إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي العالمي، أمام ما تراه الصين امتداداً لقوة الولايات المتحدة الأمريكية.
في خطابٍ ألقاه في جامعة الدفاع الصينية عام 2013، قال الرئيس شي جين بينغ إن مبادرة "حزام واحد وطريق واحد" لبلاده هي "استراتيجية ضد تحرك الولايات المتحدة شرقاً نحو آسيا". وقدم الرئيس الصيني حججاً أكثر وضوحاً آنذاك، قائلاً: "لقد أصبحت مصالح الدول الآسيوية متشابكة، وتُشكِّل بشكلٍ متزايد مجتمع المصير المشترك".
كانت بكين تأمل ربط أوروبا بشبكتها من الحزام والطريق عبر روابط التجارة والنقل العالمية، لكن القادة الأوروبيين يتراجعون، ويشاركون واشنطن في حذرها من زيادة اعتمادهم الاقتصادي على الصين.
ووضعت بكين رؤيتها لمبادرة "الحزام والطريق" لضخ تريليون دولار في شبكات السكك الحديدية والطرق وخطوط الأنابيب والموانئ، التي من شأنها ربط آسيا بأوروبا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وقبل خمس سنوات فقط، كانت الصين تسجل بسرعةٍ أعضاء جدد في مبادرتها من جميع أنحاء العالم النامي، وتحقق تقدماً بين الاقتصادات الغنية ذات العلاقات الوثيقة مع واشنطن- وضمن ذلك إيطاليا واليونان وجمهورية التشيك- بينما تصل البضائع إلى الموانئ الأوروبية والسكك الحديدية بتمويل من مبادرة الحزام والطريق، ولكن الحرب الروسية على أوكرانيا قد دفعت أوروبا للحذر.
الشرق الأوسط في قلب صراع أمريكي صيني على ممرات التجارة الاستراتيجية
في الوقت نفسه، يقع الشرق الأوسط في قلب هذا الصراع على طرق التجارة وعلى النفوذ، وقد زادت الصين من مشاركتها في منطقة الشرق الأوسط خلال الأعوام الماضية، وأقامت علاقات ودية مع مجموعة متنوعة من الدول، بما في ذلك تلك الموجودة على جوانب مختلفة من الانقسامات الإقليمية، كما قدمت قروضاً بمليارات الدولارات للدول النامية التي من المفترض أن تشارك في مبادرتها.
وحتى إسرائيل أول المحتفلين بالمشروع الأمريكي، كانت الصين قد كثّفت من تطوير البنية التحتية للنقل فيها، في محاولة لإنشاء طريق من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط يتجنب قناة السويس ضمن مبادرة الحزام والطريق.
وكان من المفترض أن تقوم الصين خلال السنوات الماضية ببناء خط سكة حديد فائق السرعة من إيلات على خليج العقبة إلى ميناء أشدود على البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن الاستثمار في توسيع الميناء، حتى تتمكن من شحن البضائع من هذه الموانئ إلى ميناء بيرايوس في اليونان الذي تديره مجموعة كوسكو الصينية، لكن لم يحصل شيء حتى اللحظة.
وتعتمد الصين -من أجل تحفيز اقتصادها- على واردات الطاقة القادمة من هذه المنطقة، حيث إن أكثر من نصف واردات النفط الخام الصيني -إلى جانب حوالي 10% إلى 20% من واردات الغاز الطبيعي- من الشرق الأوسط.
لكن المبادرة الأمريكية الهندية المضادة للمشروع الصيني قد تبعثر أوراق بكين وتضع العديد من دول المنطقة في محل اختبار جديد لمدى قوة العلاقة من كل من بكين وواشنطن، وفي ركب أي مشروع ستسير كل دولة من دول الشرق الأوسط، مشروع ممر بايدن من الهند أم الحزام والطريق الصيني؟!