مدينة هندية متلألئة قد تستضيف الوفود في قمة العشرين القادمة بالهند بُنيت بواسطة العمال المسلمين، ولكن تم طردهم منها بعدما شهدت مجموعة من أعمال العنف الدينية البشعة، في مؤشر على أن العنف الطائفي بالهند بات سياسة رسمية.
إذ تُعَد مدينة غوروغرام الجديدة الواقعة على أعتاب دلهي على بُعد 20 ميلاً (32.2 كم تقريباً) من موقع انعقاد قمة مجموعة العشرين الشهر المقبل، سبتمبر/أيلول، شاهدةً على الصعود الاقتصادي للهند، وتحتضن أبراجها المتلألئة شركات عملاقة وطنية وعالمية، وفنادق فاخرة، ومراكز تسوق، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
وقصة النجاح التجارية الكبرى هذه هي سردية يريد رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، استعراضها حين يستقبل زعماء العالم في العاصمة. لكن خلال الأسابيع القليلة الماضية، كشفت المدينة أيضاً عن هند أخرى، عن بلدٍ يعاني من العنف الطائفي الذي تصطدم فيه القومية الهندوسية الهائجة مع أكبر أقلية من المسلمين في العالم بصورة متزايدة، حسب وصف الصحيفة البريطانية.
منطقة العمال المسلمين أصبحت خاوية ومسجدهم أُحرق عن بكرة أبيه
وتقبع تيغرا تحت ناطحات سحاب غوروغرام، وهي منطقة تضم عمالاً مسلمين بالأساس. تكون المنطقة عادةً مزدحمة في العطلات الأسبوعية. لكن خلال زيارة حديثة أجريتُها، بدت مهجورة تقريباً.
قبل ذلك بأيام، كان أحد المساجد قد أُحرِقَ عن بكرة أبيه وتعرَّض إمامه الشاب للطعن حتى الموت، وذلك بعد فترة قصيرة من انتهاء موكب للمتشددين الهندوس في بلدة قريبة بصدامات دموية مع نشطاء مسلمين.
والآن، جرى إغلاق أكشاك الطعام والفاكهة وصالونات الحلاقة وتجميل العرائس بالسلاسل، وهُجِرَت فجأة. ولا يزال عدد صغير فقط من المتاجر المملوكة لهندوس مفتوحة. وكان الناس مصطفّين بحقائبهم على جوانب الطرق الترابية. لقد أُجبِرَ المسلمون على الرحيل.
المدينة كانت خالية من الاضطرابات الدينية
حتى وقتٍ قريب، كانت المدينة، التي كانت معروفة باسمها الأصلي غورغاون، خالية إلى حدٍ كبير من الاضطرابات الدينية التي أصبحت شائعة للغاية في مناطق أخرى بالهند.
لكنَّ ذلك الوضع تغيَّر في مطلع أغسطس/آب. جاءت الشرارة في بلدة نوح، الواقعة على بُعد 40 ميلاً (64.4 كم تقريباً) في ولاية هاريانا نفسها، لكنَّها تمثل عالماً مختلفاً تماماً.
إذ تُعَد ثاني أفقر منطقة في شمال الهند، وهي قاعدة لعصابات الاتجار بالمخدرات تسودها الجريمة. وهي المنطقة الوحيدة ذات الغالبية المسلمة في الولاية التي يسيطر عليها حزب بهاراتيا جاناتا (حزب الشعب) الهندوسي القومي بزعامة مودي.
ومع أنَّ المسلمين يُشكِّلون 80% من السكان في المنطقة، إلا أنَّها تحمل أيضاً أهمية كبيرة للهندوس.
ففي عام 2021، بدأت مجموعة "فيشوا هندو باريشاد" (أو المجلس الهندوسي العالمي) -وهي مجموعة قومية يمينية تتشارك جزءاً من إرثها مع حزب بهاراتيا جاناتا- ما يُعرَف بـ"ياترا"، أو موكب ديني، عبر منطقة نوح لـ"إحياء المواقع الهندوسية المقدسة والسياحة الدينية الهندوسية".
ولكن حدثت استفزازات للمسلمين وزعيم عصابة هندوسي يعلن نيته حضور مسيرة متطرفة
وظهر في الموكب، الذي مرَّ عبر المناطق المسلمة، مشاركون يحملون سيوفاً ويستخدمون لغةً استفزازية. وأصبح الموكب فعالية سنوية محفوفة بالتوتر.
وفي 20 يوليو/تموز الماضي، أعلن مونو مانيسار، وهو زعيم هارب لعصابة هندوسية لحراسة الأبقار، عبر وسائل التواصل الاجتماعي أنَّه سيحضر موكب هذا العام.
وقد ازدهرت مجموعات الحراسة الأهلية التي تدَّعي حماية الأبقار -وهي حيوانات مقدسة في الثقافة الهندوسية- في السنوات الأخيرة.
وكان مانيسار، وهو جزء من جناح متطرف داخل حركة فيشو هندو باريشاد، هارباً من الشرطة لدوره المزعوم في عمليتيّ سحل في ولاية هاريانا هذا العام. كان الضحايا رجالاً مسلمين تعرَّضوا للضرب المبرح ثُمَّ أُحرِقَت سيارتهم بعد اتهامهم بتهريب الماشية.
جمع النشطاء المسلمين الحجارة والزجاجات والأسلحة محلية الصنع، وأعلنوا خططاً "للدفاع" عن أحيائهم في 31 يوليو/تموز.
لم يظهر مانيسار، لكنَّ العنف تفجَّر على أي حال؛ إذ تعرَّض الموكب للهجوم، ولم تكن الشرطة على ما يبدو مستعدة لحدوث مشكلات. وكان اثنان من حراس المنازل -وهم ضباط شرطة مدنيون- من بين خمسة قتلى في الاضطرابات التي تلت ذلك. وفي غضون ساعات، وبسرعة مريبة، امتدت المشكلة إلى غوروغرام، حيث أضرمت حشودٌ النار في مسجد مؤقت في الساعات الأولى من يوم 1 أغسطس/آب. وظهر مقطع فيديو مسجل للإمام البالغ من العمر 26 عاماً يدعو فيه للوحدة الدينية، قبل لحظات من مقتله.
وبالإضافة إلى القتلى الستة، أُصيبَ نحو 70 شخصاً في أعمال الشغب في نوح وغوروغرام. واعتُقِلَ نحو 300 شخص. صدمت الاشتباكات الكثير من الهندوس. وقد أثارت الكراهية الطائفية قلق البعض، في حين انزعج البعض الآخر من فقدان خدمهم المنزليين.
المهاجرون المسلمون ساعدوا في بناء المدينة المزدهرة
خلال الاضطرابات الأولى، سمحت العديد من الشركات للموظفين بالعودة إلى ترتيبات العمل من المنزل التي وُضِعَت خلال جائحة كوفيد، في حين أُغلِقَت المدارس والجامعات مؤقتاً. وعانت المتاجر والشركات الصغيرة بالفعل من فقدان موظفيها، ووصف أحد روَّاد الأعمال المحليين الفزعين، والذي يُوظِّف عمالاً مسلمين، الأحداث بأنَّها "عمليات تطهير". لكنَّ معظم الهندوس كانوا خائفين من التحدث علناً خشية التعرُّض للانتقام.
ساعد المهاجرون المسلمون على مدار العقود الثلاثة الماضية في بناء "مدينة الألفية" من كونها مجرد أرض زراعية إلى مركز تجاري عالمي للشركات يسكنه 1.5 مليون نسمة.
والآن المجالس المحلية الهندوسية تأمرهم بالرحيل وبعضهم بات يعمل من فنادق
ومنذ اندلاع العنف، صدرت أوامر من المجالس المحلية الهندوسية لبعض المسلمين في غوروغرام بالمغادرة. وفي حالات أخرى، تعرَّض مسلمون للطرد من جانب أصحاب العقارات الذين وُصِفوا بـ"الخونة" لإسكانهم لديهم. وتعرَّض آخرون للترهيب حتى المغادرة من خلال منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي أو الخشية من أنَّهم قد يعلقون في دوامة من إراقة الدماء.
اعتزم البعض العودة إلى مسقط رأسه في القرى والولايات الفقيرة. ولجأ بعض العمال ذوي الياقات البيضاء إلى خيار آخر أكثر كلفة: الانتقال إلى فنادق في نيودلهي حتى يمكنهم مواصلة العمل. وهم يأملون العودة حين تهدأ الأجواء المحمومة.
مودي، الذي نادراً ما يدين اضطرابات العنف الطائفي، لم يقل شيئاً عن الحملة المعادية للمسلمين التي تجري على بعد ساعة فقط من مكتبه.
ومودي تجاهل الإشارة للأحداث بينما تطرق لمواجهات بين هندوس ومسيحيين
وفي خطابه الذي ألقاه في ذكرى يوم الاستقلال في 15 أغسطس/آب، قام بإشارة نادرة إلى الصراع العرقي في ولاية مانيبور، حيث قُتِلَ نحو 200 شخص وشُرِّد عشرات الآلاف في اشتباكات هذا الصيف بين مجموعات عرقية ذات غالبية هندوسية ومسيحية.
ومانيبور هي ولاية أخرى يسيطر عليها حزب بهاراتيا جاناتا. وأصرَّ مودي على أنَّه تمت إعادة السلام.
وتمتلئ غوروغرام بلوحات إعلانية تحمل صورة رئيس الوزراء وشعار بلاده لقمة مجموعة العشرين – "أرض واحدة، عائلة واحدة، مستقبل واحد"- المشتق من نص ديني هندوسي قديم. لكنَّ منتقدي مودي يقولون إنَّ الهند بعيدة كل البعد عن كونها "عائلة واحدة".
ويرى المنتقدون أنَّ عنف غوروغرام هو مجرد الحلقة الأحدث ضمن اتجاه قبيح من الاضطرابات الطائفية التي تفجَّرت تحت حكم مودي.
القادة المشاركون في قمة العشرين القادمة بالهند قد يقيمون بهذه المدينة
وجرى تجنيب غوروغرام موجة جديدة محتملة من الاضطرابات الأسبوع الماضي حين رفضت السلطات في منطقة نوح السماح لمجموعة فيشو هندو باريشاد باستئناف موكبها، لكنَّ التوترات لم تهدأ.
ومع الوصول الوشيك للرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس الصيني شي جين بينغ وريشي سوناك -أول رئيس وزراء لبريطانيا من أصل هندي- وما تفيد به بعض التقارير من أنَّ بعض الوفود ستقيم في غوروغرام، يظل السؤال معلقاً: أي صورة للهند تُقدِّمها المدينة؟
وقد يقيم الرئيس بايدن قرب موقع المسجد المحترق الذي قتل إمامه طعناً، رغم أنه يدعو للوحدة والسلام.