فيما يجتمع قادة مجموعة بريكس في قمتهم الخامسة عشرة بمدينة جوهانسبرغ، لم تهتم الولايات المتحدة إلا بإصدار تعليق، ولكن هناك مؤشرات على قلق أمريكي من هرولة الدول النامية والناشئة بما فيها حلفاء لها، للانضمام لبريكس الذي تعد الصين وروسيا قائديه الفعليين، فكيف سترد واشنطن على ذلك، وهل تلجأ لأساليب قهرية لمنع صعود بريكس وانضمام مزيد من الدول له؟
تاريخياً كانت الولايات المتحدة تناصب العداء لأي تجمعات عالمية تسعى للحياد أو الاستقلال عن الهيمنة الغربية، مثلما فعلت مع حركة عدم الانحياز، ولكن هذه الطريقة قد تأتي بأضرار على واشنطن، حسبما يقول تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
بريكس بدأ كنادٍ صغير للنقاش بين أربع دول صاعدة
وبحسب صحيفة The Washington Post الأمريكية، جاء اقتصادي بريطاني في شركة غولدمان ساكس الأمريكية العملاقة، يُدعى جيم أونيل، في عام 2001 بالاختصار "BRIC" (بريك)، والذي يمثل أول حرف من أسماء بلدان البرازيل وروسيا والهند والصين باللغة الإنجليزية. وبغض النظر عن الاختلافات بين الدول الأربع في التاريخ والجغرافيا والنظم السياسية، فإنَّها كانت تمثِّل أكثر من ثلث سكان العالم ونسبة متزايدة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وأضافت الصحيفة أن أول قمة لمجموعة "بريك" ضمَّت كل البلدان الأربعة وانعقدت في روسيا عام 2009. وبحلول عام 2011، كانت جنوب إفريقيا عضواً كامل العضوية أيضاً، فأضافت حرف "S" أو "س" لتصبح مجموعة "BRICS" (بريكس). لكنَّ الكتلة كانت مشوشة في العقد الماضي. وكان أداء اقتصاداتها متفاوتاً، وكانت بلدانها الأعضاء تتشاحن بين الحين والآخر، فوقعت مناوشات عنيفة بين الهند والصين على طول حدودهما الوعرة المتنازع عليها.
بعض دوله شبه أعداء، ولكن الآن 20 بلداً تريد الانضمام إليه
ووفقاً لموقع Responsible Statecraft الأمريكي، تنطوي تركيبة المجموعة على تناقض، فهي تضم خصميّ واشنطن اللدودين، روسيا والصين، لكنَّها تضم أيضاً الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، وهم شركاء أقوياء لها. وكان الكثير من المراقبين في واشنطن وبعض العواصم الغربية تقليدياً يشعرون بازدراء تجاه بريكس، مُعتَبِرين إياها مجرد منصة حوارية تأثيرها ضئيل على السياسة الخارجية الأمريكية. بل دعا البعض إلى حلها.
ويرى كاتب هذا التقرير أن هذا خطأ. إذ جذبت المجموعة في الآونة الأخيرة اهتماماً كبيراً بالحصول على العضوية من أكثر من 20 بلداً آخر. وحين يكون لدى نادٍ ما قائمة انتظار للحصول على العضوية، فمن الصعب وصفه بأنَّه غير مهم.
إنها تراها محاولة جدية لملء الفراغ في النظام الدولي الذي تقوده واشنطن
تريد الدول الانضمام إلى بريكس ليس لأنَّ المجموعة ستُحوِّلها بين عيشةٍ وضحاها إلى فاعلين أقوياء، لكن لأنَّها تنظر إليها باعتبارها محاولة جدية لملء فراغ في النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وهو نظام يعجز حالياً عن تلبية احتياجات هذه الدول. وتتحوَّط هذه الدول أيضاً استعداداً لنظام دولي مستقبلي تتراجع فيه الأحادية القطبية بصورة أكبر بكثير أو تختفي تماماً.
ويمكن مقارنة بريكس مع تجمُّع آخر عادةً ما يحصل على اهتمام أكبر بكثير، تجمُّع تقوده الولايات المتحدة، أي "مجموعة السبع". تتألَّف مجموعة السبع من أغنى دول العالم، وكلها تمثل أيضاً حلفاء أساسيين للولايات المتحدة.
دعونا نقارن البيان المشترك الصادر عن اجتماع مجموعة السبع الأخير في مدينة هيروشيما والبيان الصادر عن قمة بريكس في بكين عام 2022. أحد الاختلافات الجوهرية بين البيانين هي أوكرانيا. ففي حين تدين مجموعة السبع موسكو بقسوة وتدعو بصورة روتينية للتراجع عن العدوان الروسي، فإنَّ مجموعة بريكس تدعو صراحةً إلى مباحثات بين أوكرانيا وروسيا (والتأكيد على مبدأ وحدة أراضي الدول)، في حين تأخذ بعين الاعتبار المواقف الوطنية المختلفة للدول الأعضاء بشأن الصراع.
ووفقاً لصحيفة The Washington Post، ستُلقي الحرب في أوكرانيا بظلالها على القمة. إذ سيكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تلاحقه مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية، الزعيم الوحيد في بريكس الذي لن يحضر القمة. ومن المتوقع أن تحتج مجموعات مجتمع مدني خارج مقر انعقاد القمة، وستدعو لإنهاء الغزو الروسي لأوكرانيا وكذلك إنهاء قمع الكرملين على المعارضة المناهضة للحرب في الداخل.
وبالعودة إلى المقارنة الواردة في موقع Responsible Statecraft بين بياني بريكس ومجموعة السبع، تشير بريكس بوضوح أيضاً إلى التغيُّر المناخي انطلاقاً من مبدأ الأمم المتحدة الخاص بـ"المسؤولية المشتركة لكن المتباينة" (الذي يؤكِّد على مسؤولية أكبر للبلدان الغنية من أجل تقليص انبعاثاتها والمساهمة في التحرك المناخي العالمي)، وإيجاد صوت أكبر للبلدان النامية في المؤسسات المالية التي تقودها الولايات المتحدة مثل البنك الدولي، ودعم خطة العمل الشاملة المشتركة (المعروفة أيضاً باسم "الاتفاق النووي الإيراني"). ويدعو البيان أيضاً إلى استعادة قوة الهيئات متعددة الأطراف مثل منظمة التجارة العالمية.
التصدي لهيمنة الدولار تسيطر على المناقشات
ووفقاً للصحيفة الأمريكية، سيكون واحداً من الموضوعات الكبرى في المباحثات بجوهانسبرغ النفوذ الهائل للدولار الأمريكي في الاقتصاد العالمي. وينتشر الحديث عن "إلغاء الدولرة" بين أنصار مجموعة بريكس، على الرغم من أنَّه ليس مُدرَجاً رسمياً على جدول أعمال القمة.
وطرح البعض فكرة تبنّي عملة منافسة مدعومة من بريكس لتحدي هيمنة العملة الخضراء. لكنَّ إصدار عملة جديدة لمجموعة بريكس أمر طموح للغاية -وربما غير ممكن-.
ومن المتوقع أن تُركِّز القمة بدلاً من ذلك على التوسع في استخدام العملات المحلية في التجارة بين أعضاء التكتل. وبدأت البلدان التي تعاني من ضائقة في الدولار بالفعل في التعامل باليوان الصيني في بعض المعاملات.
الصين هي الثقل الحقيقي وراء البريكس
وتتناول الصحيفة الدور الصيني في مجموعة بريكس، فتقول إنَّ الثقل الاقتصادي لبكين كان سبباً لحجب المشكلات التي عانت منها بعض بلدان بريكس. وكان الإنجاز الملموس الوحيد للمجموعة هو إطلاق ذراع لتمويل التنمية الدولية، مقره شنغهاي. فكتب أونيل في عام 2021: "لولا الصين -وإلى حدٍّ ما الهند- لما كان هناك الكثير لقوله عن بريكس. فبخلاف تأسيس بنك بريكس، الذي يُعرَف الآن باسم "بنك التنمية الجديد"، يصعب أن نرى ما أنجزته المجموعة باستثناء الاجتماع سنوياً".
وترى الصحيفة أنَّ قمة بريكس تنطوي على ميزة جيوسياسية مهمة لبكين. فخلال عطلة نهاية الأسبوع، استضاف الرئيس بايدن نظيريه الياباني والكوري الجنوبي في منتجع كامب ديفيد، بما يشير إلى تعزيز تحالف ثلاثي على أعتاب الصين، وهو ما وصفه مقال بوكالة شينخوا الصينية الرسمية بأنَّها "محاولة يائسة من جانب الولايات المتحدة لإنقاذ قوتها المهيمنة".
ورداً على ذلك، يجري الرئيس الصيني شي جين بينغ ثاني زياراته الخارجية فقط هذا العام إلى جنوب إفريقيا، حيث سيُروِّج لكتلة بريكس -والدور الصيني الرئيسي فيها- باعتباره نموذجاً لنظام دولي مختلف.
إنها تريد أن تجعلها توازن قوة مجموعة السبع الاقتصادية
ومن المتوقع أن يحضر القمة زعماء من أكثر من 60 بلداً. وبالنسبة لبكين، سيُمثِّل توسيع المجموعة وسيلة لرؤيتها العالمية الأكثر "شمولاً".
وصرَّح مسؤول صيني، تحدث شريطة عدم الكشف عن هُويته، لصحيفة The Financial Times البريطانية، قائلاً إنَّه "إذا وسَّعنا بريكس حتى يكون الناتج المحلي الإجمالي العالمي لها معادلاً لمجموعة الاقتصادات السبع الرئيسية، فسيصبح صوتنا الجماعي في العالم أقوى".
بريكس يبدو شبيهاً بحركة عدم الانحياز التي ناصبتها أمريكا العداء
ووفقاً لموقع Responsible Statecraft، يجري الحديث أحياناً عن بريكس في إطار التجمع التاريخي للدول الإفريقية والآسيوية في باندونغ عام 1955، أو "حركة عدم الانحياز" التي تأسست عام 1961. وكانت هاتان مبادرتان من الجنوب العالمي تعارضان سياسات التكتلات والحرب الباردة، وانتهى بهما الأمر بنشوء علاقات صعبة مع واشنطن.
كان السبب في هذا جزئياً أنَّ الولايات المتحدة اتخذت موقفاً متشككاً، بل حتى منتقداً، لهاتين المبادرتين منذ البداية. فمثلما قال وزير الخارجية الأمريكي، جون فوستر دالاس، على نحوٍ شهير عام 1956، فإنَّ عدم الانحياز كان "غير أخلاقي".
لكنها هذه المرة تبدو أكثر عقلانية، وستفرق بين حلفائها الذين تربطهم بها معاهدات وأصدقائها
غير أنها هذه المرة، يبدو أنَّ الولايات المتحدة تتخذ موقفاً أكثر تعقُّلاً. فأعلن مسؤولو إدارة بايدن مراراً في جنوب شرق آسيا ومناطق أخرى أنَّهم لا يطلبون من دول الجنوب العالمي الاختيار بين الولايات المتحدة ومنافسيها، بل تعرض عليها خياراً.
يقول التقرير إن تصرف أمريكا بشكل مستمر بحسن نية بناءً على ادعاءات بأنها لا تفرض الاختيارات سيكون خطوة أولى جيدة.
لكن لا يبدو أن هذا يحدث مع حلفاء أمريكا الذين تربطهم بها معاهدات، خاصة عندما يتعلق الأمر بالصين، لكن عدم الضغط على الدول غير الحليفة في الجنوب العالمي من شأنه أن يجعل سياسة حسن النية هذه تحقق نجاحاً ويحافظ على القوة الناعمة الأمريكية في هذه العواصم.
ويجب على الولايات المتحدة أيضاً أن تأخذ على محمل الجد انزعاج العديد من البلدان الآسيوية والإفريقية خصوصاً من المطالب المرهقة التي تعتبرها تمس بسيادتها. وتتضمَّن هذه المطالب الدفع بمقولات "الديمقراطية في مواجهة الاستبداد"، وإصدار أحكام تدخُّلية على الأنظمة السياسية الأجنبية، وفي العموم محاولة تعميم قيمها.
فوفقاً لصحيفة The Washington Post، يحرص أعضاء بريكس الآخرون على عدم الانجرار إلى التنافسات الجيوسياسية للتكتل.
فقال الرئيس الجنوب إفريقي سيريل رامافوسا في خطاب حول حالة الأمة، في تصريحات مُوجَّهة ظاهرياً إلى البلدان الغربية في الناتو: "في حين يُفضِّل بعض المنتقدين لنا دعماً صريحاً لخياراتهم السياسية والأيديولوجية، فإنَّنا لن ننجر إلى تنافس بين القوى العالمية. لقد قاومنا الضغوط للاصطفاف إلى جانب أيٍّ من القوى العالمية أو مع التكتلات الدولية النافذة".
وأخيراً، يتعيَّن على واشنطن على الأقل التعامل بجدية مع بعض المطالب الخاصة بالتنمية الصادرة عن تحالفات مثل بريكس. ويتضمَّن هذا، على سبيل المثال لا الحصر، إصلاح المؤسسات المالية الدولية، وتقديم دعم أكبر للتحرك المناخي العالمي، والعودة إلى نهج تجاري حقيقي يقوم على القواعد.
صعود لفكرة التحالفات بين الجنوب والشرق، وأمريكا يجب عليها التعامل مع الواقع
ويتبنَّى الجنوب العالمي على نحوٍ متزايد تحالفات صاعدة بين الجنوب والشرق مثل بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، ليس لأنَّها معارضة لوجود دور أمريكي كبير في العالم. بل لأنَّها تسعى للتحوط من تراجع الأحادية القطبية وبناء مؤسسات بديلة لاتعامل مع أوجه العجز في النظام الحالي.
وأفضل طريقة كي ترد واشنطن على هذه الرسالة هي أن تكون جزءاً من اللعبة، لا أن تنسحب منها.
ووفقاً لصحيفة The Washington Post، كتب سارانغ شيدور: "كي تبقى بريكس مستمرة وتحقق تأثيراً متزايداً، ليس من الضروري أن يكون أعضاؤها الأساسيون أصدقاء مقربين، بل أن يروا مصلحةً مشتركة. التحالف مع روسيا والصين يمنح الجنوب العالمي نفوذاً في التعاملات مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة. ويساعد أيضاً في إيجاد عالم متعدد الأقطاب بدرجة أكبر، وهو هدف طويل الأمد للقوى الجنوبية المتوسطة".