فيما تسجل مناطق واسعة من العالم درجات حرارة قياسية، كشفت دراسة حديثة أن ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير ولأيام معدودة يمكن أن يكون كافياً لحرمان مليارات البشر من أصحاب الدخل المحدود من قوت يومهم.
وعلى سبيل المثال، يمكن لارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير لمدة أسبوع في الهند أن يؤدي على الأرجح إلى انعدام خطير في الأمن الغذائي بالنسبة لثمانية ملايين شخص إضافي، وفق استنتاجات نشرتها مجلة Nature Human Behaviour العلمية في 21 أغسطس 2023.
مليارات الرجال والأطفال والنساء عرضة للجوع بسبب الحر
خلصت الدراسة التي شملت 150 دولة معظمها في مناطق استوائية وشبه استوائية إلى أن موجة الحر نفسها تعني مواجهة ملايين الرجال والنساء والأطفال خطر الجوع، وإن ازداد انعدام الأمن الغذائي الإجمالي بنسبة تقل عن 1%.
تفيد تقديرات البنك الدولي بأن 30% تقريباً من سكان العالم عانوا من انعدام طفيف أو شديد للأمن الغذائي عام 2022.
وبينما يقتصر عادة تحليل تأثير درجات الحرارة المرتفعة على توافر الغذاء، على تراجع غلة المحاصيل التي تتجلى تداعياتها بعد شهور أو سنوات، فإن الدراسة الجديدة تكشف أن التأثير يمكن أن يكون فورياً عندما يتعلق الأمر بالدخل.
وقالت الباحثة الرئيسية للبحث كارولين كروغر من جامعة أكسفورد لوكالة الأنباء الفرنسية: "إذا كان اليوم حاراً، قد يكون هناك انعدام للأمن الغذائي في غضون بضعة أيام فقط؛ لأن الناس لا يمكنهم العمل، ما يعني أنه لا يمكنهم تحقيق دخل وتحمّل كلفة شراء الطعام".
تظهر هذه النتائج عادةً بشكل أكبر في الوظائف التي يرتبط فيها الأجر بالإنتاج بشكل وثيق، على غرار العمل في الحصاد أو بالقطعة. في غرب البنغال مثلاً، تحصل نساء يعملن في حمل الطوب على الأجر مقابل العدد الذي يقمن بحمله. عندما يجبرهن ارتفاع درجات الحرارة على حمل عدد أقل، تصل خسارة الأجور التي يعانين منها إلى 50%.
الحر يسبب مشاكل صحية تصعب الاعتماد على الدخل اليومي
وعكس تقرير أعدته وكالة الأنباء الفرنسية مؤخراً هذه الاستنتاجات. على سبيل المثال، يستيقظ السوري مراد حداد باكراً ليتناوب على العمل في مهنة الحدادة لتجنب درجات الحرارة المرتفعة التي يزيد اللهب من شدتها. وقال لوكالة الأنباء الفرنسية بينما تصبب العرق منه: "على عاتقي 6 أولاد، وبالكاد نتمكن من توفير مستلزمات عيشهم وعيشنا"، مؤكداً: "إن لم نعمل، لن نتمكن من توفير لقمتنا".
وتقول كروغر: "يمكن ملاحظة التداعيات الأشد في البلدان المنخفضة الدخل، المزيد من العاملين في الزراعة والمزيد من العمالة المعرضة للخطر".
وخلُصت إلى أن الأشخاص الذين شهدوا للتو أسبوعاً حاراً يكونون أكثر عرضة للمشاكل الصحية و"الصعوبات في الاعتماد على دخلهم الحالي"، ما يؤدي إلى دخل أقل بكثير.
وتعد هذه التأثيرات تراكمية، فكلما ازدادت أيام الحر خلال الأسبوع، ازداد التأثير.
وتمت خسارة 470 مليار ساعة عمل محتملة، أي ما يعادل أسبوع عمل ونصفاً للفرد حول العالم في 2021 نتيجة الحر الشديد.
تأتي الدراسة في وقت لا تزال أسعار المواد الغذائية مرتفعة جراء التضخم وبعد شهر على فرض الهند، أكبر مُصدِّر للأرز في العالم، قيوداً على الصادرات نتيجة ضرر كبير لحق بالمحاصيل.
تضرر الغذاء وجودته
لكن الإمدادات والأسعار ليست المشكلة الوحيدة. وخلُص باحثون أيضاً إلى أن ارتفاع درجات الحرارة يؤدي إلى تراجع كبير في العناصر الغذائية الرئيسية في العديد من المحاصيل والبقوليات التي يعتمد معظم العالم عليها.
وقالت كروغر: "تم تسجيل درجات حر قياسية عديدة في العام أو العامين الماضيين، لذا أعتقد بكل تأكيد بأن بعض الأمور التي شهدناها قد تزداد سوءاً".
وأضافت: "لكن يمكن لبعض الأمور أن تساعد مثل (عقود) التأمين الصغيرة وتحسين قوانين العمل، ما زال بالإمكان تغيير المعادلة".
وبحسب اللجنة الاستشارية لعلوم المناخ التابعة للأمم المتحدة فإن ملايين الأشخاص سيشهدون 30 "يوم حر مميت" على الأقل سنوياً بحلول عام 2080، حتى وإن حقق العالم هدف اتفاق باريس للمناخ القائم على إبقاء سقف الاحترار أقل بكثير من درجتين مئويتين.
تحذير صارخ من الأمم المتحدة
ومن الصين شرقاً إلى الولايات المتحدة غرباً، يقع العالم في ظل درجات حرارة حارقة وظواهر الطقس القاسية الكارثية. وتعود جذور الكوارث التي تتكشف في الوقت الحالي إلى عدة أسباب، بينها التأثير المتزايد لارتفاع درجات الحرارة العالمية، بمقدار نحو 1.2 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل بداية الثورة الصناعية.
وفي مايو/أيار الماضي، أصدرت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة تحذيراً صارخاً من أن درجة حرارة الكوكب ستتجاوز العتبة الرئيسية للاحترار العالمي وهي 1.5 درجة مئوية، للمرة الأولى خلال السنوات الخمس المقبلة.
ورأى روبرت واتسون، عالم المناخ البريطاني البارز، أن استمرار "تقاعس" الحكومات والفشل في الوفاء بالتعهدات المناخية، يدفعان العالم صوب ارتفاع درجة الحرارة بنحو 2.5 درجة مئوية، متجاوزاً الهدف المناخي المحدد بدرجة واحدة.
واعتبر في مقابلة مع وكالة الأناضول أنه مع استمرار البلدان في ضخ غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي، ستستمر درجة حرارة العالم في الارتفاع. وأضاف أن السلوك العالمي المتقاعس تجاه التغيرات المناخية "سيؤدي إلى مزيد من الظواهر الجوية المتطرفة، وفي مقدمتها موجات الحر والفيضانات والجفاف وحرائق الغابات".
وقال إن الوضع سيكون "تماماً كما نشهد اليوم في أنحاء أوروبا، وأمريكا الشمالية، وأجزاء أخرى من العالم". وشدد العالم البريطاني على ضرورة التوقف عن تزويد الغلاف الجوي بالغازات الدفيئة، وإلا "سيستمر العالم في الازدياد دفئاً، مع مزيد من العواقب السلبية على رفاهية الإنسان والطبيعة".