تسعى اليابان إلى كسر هيمنة الصين على الأتربة الأرضية النادرة، وهو "حلم" أمريكي في ظل التنافس الشرس بين واشنطن وبكين، فما فرص نجاح طوكيو في مسعاها؟
كانت الحرب التجارية بين الصين وأمريكا قد شهدت فصلاً جديداً من التصعيد، بعد تقييد بكين صادرات معادن أرضية نادرة، أبرزها الغاليوم والجيرمانيوم، وهو الحظر الذي دخل حيز التنفيذ مطلع أغسطس/آب 2023.
وتناول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية كيف أن اليابان قد تكون لديها إجابةٌ على التهديدات الصينية المتعلقة بـ"الأتربة الأرضية النادرة"، والتي لا غنى عنها بالنسبة لمجالات حيوية كصناعة السيارات الكهربائية وأشباه الموصلات المتطورة وتوربينات توليد الطاقة النظيفة وغيرها.
اليابان وإنتاج المعادن النادرة
وترجع قصة سعي طوكيو إلى التخلص من الاعتماد على بكين في قصة الأتربة أو المعادن الأرضية النادرة إلى أكثر من 13 عاماً. ففي سبتمبر/أيلول 2010، أثار تصادم بين سفينة صيد صينية وخفر السواحل الياباني بعض المحادثات الأولى حول تفادي مثل هذه المخاطر. بعد أن ألقت اليابان القبض على قبطان السفينة الصينية، ردت الصين بوقف جميع صادرات الأتربة اليابانية بشكلٍ غير رسمي، مهدِّدةً بإعاقة صناعات السيارات والإلكترونيات لديها.
أصيب صانعو السياسات في جميع أنحاء العالم الغربي بالذعر فجأة، مدركين أن الصين تنتج 97% من أكاسيد الأرض النادرة ولديها سيطرة احتكارية تقريباً على بقية سلسلة التوريد أيضاً. ودعا النقاد وصناع السياسة القلقون إلى اتخاذ إجراءات لتطوير إنتاج العناصر الأرضية النادرة خارج الصين، ومنع تكرار مثل هذا الابتزاز.
لكن لم تؤخذ تلك المطالبات على محمل الجد حتى بدأت واشنطن في محاولة "احتواء" صعود بكين وتحولها إلى قوة عظمى، تسعى لكسر الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي.
والآن أصبحت الصين وأمريكا هما القوتان الأعظم على المسرح الدولي، ورغم تسبب الحرب الباردة بينهما في وضع الاقتصاد العالمي تحت مزيد من الضغوط، إلا أنه لا يبدو لذلك التنافس المحموم بينهما نهاية وشيكة، فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا والتحالف الوثيق بين موسكو وبكين، لم يعد هناك شك في سعي الولايات المتحدة إلى "احتواء" التنين الصيني.
وفي ظل سعي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تحقيق هدفها الرئيسي، وهو عرقلة الصين، أصدرت واشنطن قرارات تحظر وصول بكين إلى رقائق أشباه الموصلات، خاصةً الصنف المتطور المستخدم في الحواسيب الفائقة والذكاء الاصطناعي، فجاء الرد الصيني بتقييد تصدير معادن نادرة، أبرزها الغاليوم، إلى الغرب.
وبعد أكثر من عقد من الزمان على تلك الواقعة بين الصين واليابان، ازدادت المخاوف بشأن هيمنة الصين على المعادن المهمة والتكنولوجيا الخضراء. إذ تعتبر الأتربة النادرة الآن أهم من أي وقتٍ مضى، حيث تُصنَّع المغناطيسات الحيوية للسيارات الكهربائية وتوربينات الرياح باستخدام النيوديميوم والبراسيوديميوم والديسبروسيوم والتيربيوم. ومع ذلك، نجحت شركة واحدة فقط في إحداث تأثير طفيف في الهيمنة الفعالة للصين، وهي شركة ليناس الأسترالية للأتربة النادرة.
أماندا لاكازي، الرئيس التنفيذي لشركة ليناس، قالت لمجلة فورين بوليسي إن الطريقة التي استجابت بها الدول المختلفة لهيمنة الصين كانت "مفيدة". ذهبت اليابان للبحث عن شركاء لبناء سلسلة إمداد خارج الصين، وأطلقت الولايات المتحدة إجراءات قانونية عبر منظمة التجارة العالمية، وأنشأ الاتحاد الأوروبي مجموعة لدراسة سلاسل توريد العناصر الأرضية النادرة. قالت لاكازي: "يمكننا أن نخمِّن من لديه سلاسل توريد آمنة بالفعل اليوم". شركة ليناس هي سلسلة التوريد الفعلية للأتربة النادرة لليابان.
ما حصة الصين من إنتاج المعادن النادرة؟
من خلال منجم في أستراليا ومصنع تكرير في ماليزيا، تنتج شركة ليناس 12% من أكاسيد الأرض النادرة العالمية، لكن الصين تنتج 87% من تلك الأكاسيد. وتوفر ليناس حوالي 90% من إمدادات اليابان من النيوديميوم والبراسيوديميوم.
وتتطلع الولايات المتحدة إلى العمل مع الشركة أيضاً، حيث أعلن البنتاغون في 1 أغسطس/آب عن منحةٍ بقيمة 258 مليون دولار لدعم ليناس في إنشاء مصنع تكرير في تكساس. ومع ذلك، توضح قصة إنشاء سلسلة التوريد اليابانية أيضاً مدى صعوبة التخلص من المخاطر المتعلقة بتوريد الأتربة النادرة بالنسبة للولايات المتحدة.
قال روس إمبلتون، كبير المحللين المتخصصين في الأتربة النادرة في مركز وود ماكينزي للأبحاث والاستشارات، إن التعدين متنوع جغرافياً، ولكن "كلما تقدمت أكثر فأكثر في سلسلة القيمة، أصبحت السلطة متركزة بشكل متزايد على الصين". ونتيجة لذلك، فإن كل منجم جديد تقريباً يغذي الصين، بل وغالباً ما يكون مملوكاً للصينيين -جزئياً على الأقل.
تعمل الشركات الصينية الضخمة المملوكة للدولة التي تهيمن على السوق، مثل شركة الصين الشمالية للأتربة النادرة ومجموعة الصين للأتربة النادرة، سلاسل إمداد فعالة ومتكاملة بشكل وثيق. قال إمبلتون: "إن أمثال شركة الصين الشمالية، أحد أكبر اللاعبين في سوق الأتربة النادرة، لديها قدرات هائلة". والإعفاءات الضريبية والإعانات من الحكومة الصينية تدعم هذه الشركات وتقوي مركزها التنافسي.
وللتنافس مع الشركات الصينية، عملت ليناس واليابان معاً بشكل وثيق لإنشاء نظام موازٍ تقريباً لسلسلة التوريد الصينية المتكاملة جيداً. في العام 2010، كانت شركة ليناس تكافح من أجل البقاء واقفة على قدميها.
ففي حين أن منجم ماونت ويلد في أستراليا ربما كان يحتوي على أفضل الرواسب في العالم، فقد توقف العمل في مصنع ليناس الماليزي مع الافتقار إلى التمويل. ثم، بعد أسبوع واحد فقط من انتهاء الحظر الذي فرضته الصين، أعلنت المجموعة اليابانية سوجيتز عن قروضٍ واستثماراتٍ لشركة ليناس، ووعدتها بشراء نسبة كبيرة من إنتاجها المستقبلي. عززت الشركة الوطنية اليابانية للنفط والغاز والمعادن المملوكة للدولة من التمويل أيضاً.
قالت لاكازي: "كان عليهم مد يد العون لنا بشدة على مدار السنوات الخمس الأولى، بالأخص لأن الصينيين خفَّضوا السعر لمحاولة إخراجنا من العمل". بين عاميّ 2013 و2016، انخفضت أسعار النيوديميوم إلى النصف تقريباً، حيث تراجعت من متوسط 70 دولاراً للكيلوغرام إلى 40 دولاراً فقط. تبلغ الأسعار اليوم حوالي 77 دولاراً للكيلوغرام الواحد. وفي مرحلة ما، قام المقرضون بتعليق الفائدة ومدفوعات رأس المال.
"امتد هذا الدعم المقدَّم من الحكومة اليابانية إلى عملائنا اليابانيين". وأضافت: "لم تكن الحكومة اليابانية على الإطلاق بهذه الفظاظة التي تجعلها توجِّه تعليماتٍ للشركات اليابانية بمن يجب أن يشتري منها. ومع ذلك، من المفهوم نوعاً ما، أن الدعم قُدِّمَ إلى ليناس"، بحسب مديرة شركة ليناس.
ما فرص تحقق "الحلم" الأمريكي؟
النتائج تتحدث عن نفسها، ففي عام 2020، كانت اليابان، التي احتلت موقعاً ريادياً في مجال الأتربة النادرة، لا تزال تدافع عن حصة سوقية صغيرة تبلغ 7%، مقارنةً بـ92% للصين. الولايات المتحدة، التي كانت أيضاً رائدة في السابق، أنتجت كميةً ضئيلة.
بينما أصدرت العديد من الهيئات الأمريكية تقارير تدعو إلى اتخاذ خطوات طموحة لإعادة بناء القدرات، كان هناك نقص في الإجراءات. طرح تقرير حديث صادر عن وزارة التجارة أنه بحلول عام 2026، يمكن أن يكون للولايات المتحدة سلسلة إمداد محلية بالكامل تلبي 51% من إجمالي الطلب الأمريكي على الأتربة النادرة الأكثر استخداماً في السيارات الكهربائية والتوربينات. وهذه النسبة سخر منها دان دي جونج، المتخصص في الأتربة النادرة في شركة بينشمارك مينيرالس، على أساس أنها غير واقعية عملياً.
افتُتِحَ منجم ماونتن باس للأتربة النادرة في كاليفورنيا من قِبَلِ شركة إم بي ماتيريالز، التي تعِد ببناء سلسلة إمداد من المناجم إلى مواقع التصنيع. حتى الآن، تجنبت الشركة مصير المالك السابق للمنجم، وهي شركة ماليكورب للتعدين، التي قدمت وعوداً مماثلة في عام 2010 قبل الإفلاس بشكل مفاجئ في عام 2015.
ومع ذلك، فإن إم بي ماتيريالز هي أيضاً شاهدةٌ على تعقيد فك الارتباط عن الصين. كانت خبرة شركة شينغي ريسورسز الصينية حيوية في تطوير مصنع تكرير شركة إم بي في الولايات المتحدة، وفقاً لريان كاستيلو، الرئيس التنفيذي لشركة أبحاث المعادن المهمة أدامز إنتيليجينس.
من المحتمل أن تكون خطط إنتاج السبائك والمغناطيسات أصعب. ليست الصين هي المهيمنة فقط، بل لديها ميزة تكنولوجية أيضاً، ويبدو أن حكومتها مصممة على الاحتفاظ بها، معلنة عن سياسات تحد بشدة من تصدير تكنولوجيا الأتربة النادرة.
وحتى لو شُيِّدَت المصانع بالفعل، يمكن أن تواجه تحدياتٍ سياسية قائمة على الاهتمامات البيئية، في ظل التداعيات الكارثية للتغير المناخي. دخلت شركة ليناس في صراعٍ طويل الأمد مع ماليزيا، التي سعت منذ تغيير الحكومة في عام 2018 إلى تقليص ترخيص تشغيل شركة ليناس بسبب مخاوف بشأن النفايات المشعة التي ينتجها التكرير.
وفي حين لا يوجد دليل على أن مصنع التكرير يلوِّث المنطقة المحلية، لا تزال هناك أسئلة حول التخزين طويل الأجل. بموجب الخطط الحالية، سيتعين على ليناس التوقف عن التكسير والترشيح، وهي مرحلة المعالجة الأولية الرئيسية التي تزيل المواد المشعة، في ماليزيا بحلول الأول من يناير/كانون الثاني من العام المقبل. قامت الشركة بتأمين تمديدات في الماضي وهي تتعجل لإكمال مصنع جديد للتكسير والغسيل في كالغورلي، غرب أستراليا، بحلول سبتمبر/أيلول. ومع ذلك، إذا اضطرت أخيراً إلى إغلاق جزء من عملياتها في ماليزيا، فستكون تلك ضربةً قوية.
وفي الإطار ذاته، فإن قوانين التخطيط المحلية الكثيفة في الولايات المتحدة، واللوائح البيئية، وثقافة الناشطين البيئيين قد ينتهي بها الأمر إلى طرح مشكلاتٍ مماثلة. ظهر تغييرٌ غير عادي في هذا الصدد في عام 2022، عندما انتقدت حسابات مرتبطة بالدولة الصينية على منصتيّ فيسبوك وتويتر، ادعت أنها من تكساس، مصنع ليناس المقترح في الولاية.
ليس هذا أمراً غير متوقع بالنسبة لشركة تحاول التعامل مع واشنطن، لكن لاكازي متفائلةٌ بشأن آفاق الولايات المتحدة. في حين أنها تقر بأن سياسة الولايات المتحدة كانت غائبةً في الماضي، فإنها تشير إلى قانون خفض التضخم ومشروع قانون مقترح لدعم إنتاج المغناطيسات بسخاء باعتباره تطوراً واعداً. إن تشدد الولايات المتحدة تجاه الصين يعني أنها تتوقع استمرار هذه السياسات. ومع ذلك، فهي تعترف أنه بدون الدعم الحكومي السخي، لن تكون الولايات المتحدة على رأس قائمة الأماكن الخاصة بها لإنشاء مصنع جديد.