قانون مخصص لعصابات المافيا يُعرف باسم قانون ريكو، استُخدم في رفع دعوى قضائية ضد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في ولاية جورجيا، التي يُتهم فيها بالتآمر لتزوير الانتخابات الرئاسية، والمفارقة أن هذا القانون استخدمه محامي ترامب وشريكه في المؤامرة المزعومة من قبل ضد عصابات نيويورك.
ففي أكبر قضية من حيث حجم الاتهامات، يواجه ترامب رفع دعوى قضائية ضده ومجموعة من مساعديه في مقاطعة فولتون بولاية جورجيا بجنوب الولايات المتحدة، بشأن جهودهم المزعومة لإلغاء هزيمته في انتخابات عام 2020، نتيجة تحقيق موسع امتد لأكثر من عامين ونصف وأدى إلى ابتزاز معقد. قضية تضم 41 تهمة جنائية ضد 19 متهماً في لائحة اتهام ضخمة من 98 صفحة.
مكالمة هاتفية وراء رفع هذه الدعوى
وفتح التحقيق في هذه القضية من قبل السلطات القضائية لولاية جورجيا، إثر اتصال هاتفي أجراه ترامب في يناير/كانون الثاني 2021، مع مسؤول محلي جمهوري كبير، خلال عملية فرز الأصوات في الانتخابات الرئاسية التي خاضها ضد الرئيس الحالي جو بايدن.
في هذه المكالمة التي نشر تسجيلها، طلب ترامب من المسؤول أن "يجد" له حوالى 12 ألف صوت لصالحه، وهو الفارق الذي جعله يخسر أمام الرئيس جو بايدن في انتخابات الولاية.
ووافقت هيئة محلفين كبرى في أتلانتا عاصمة جورجيا، على لائحة الاتهام وفقاً لما يعرف باسم "قانون ريكو" بعد استماعها إلى إفادات شهود استدعاهم الادعاء.
ترامب يواجه قضية فيدرالية أيضاً
في الوقت ذاته، هناك، لائحة اتهام فيدرالية مقدمة ضد ترامب في الأول من أغسطس/آب في واشنطن، تتهمه أيضاً بمحاولة تخريب الانتخابات والإطاحة بها بشكل غير قانوني.
في هذه القضية، سعى المدعون العامون في وزارة العدل الأمريكية إلى توجيه اتهامات ضد ترامب وحده. وبدا أنهم كانوا يهدفون إلى السرعة والبساطة، فأنتجوا لائحة اتهام من 45 صفحة تتضمن أربع تهم بعد تحقيق مع الرئيس السابق بدأ بعد فترة طويلة من تحقيق ولاية جورجيا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
إليك الفارق بين الدعوى الفيدرالية وقضية ولاية جورجياً
تتجنب لائحة الاتهام الفيدرالية الاتهامات التي يحتمل أن تكون معقدة مثل التآمر المثير للفتنة أو العصيان.
على العكس، ففي لائحة الاتهام في جورجيا، يوجد متهمون آخرون مع ترامب، ووجهت لهم وللرئيس السابق تهم متعددة، والتي تزعم وجود حالات متعددة للإدلاء بأقوال كاذبة، وتلاعب الشهود وانتحال صفة مسؤول عام، من بين عشرات التهم الأخرى
على نطاق واسع، فإن التهم الموجهة إلى ترامب في ولاية جورجيا لديها القدرة على فعل شيء لا تفعله لائحة الاتهام الفيدرالية: تحميل أشخاص غير ترامب المسؤولية عما حدث، حسب الصحيفة الأمريكية.
محاكمة ترامب في جورجيا يمكن أن تستمر حتى لو عاد للرئاسة
ستسمح قضية ولاية جورجيا، مترامية الأطراف للمدعين العامين في مقاطعة فولتون بالولاية بإخبار هيئة المحلفين بقصة مؤامرة واسعة لتغيير نتائج الانتخابات في ولايات متعددة وبناء سرد قوي لأفعال ترامب التي جرت حسب القضية بالتنسيق مع العديد من المساعدين والمحامين والمسؤولين المحليين، حسبما يقول خبراء قانونيون.
كما تتميز قضية ولاية جورجيا أيضاً بأنها يمكن أن تستمر حتى إذا تم انتخاب ترامب رئيساً مرة أخرى في عام 2024 واستخدم سلطته الرئاسية لإنهاء التحقيقات الجارية في وزارة العدل.
كما أن الحصول على عفو في جورجيا أكثر صعوبة بكثير منه على المستوى الفيدرالي، حيث إن السلطة منوطة بمجلس معين من قبل الحاكم وليس على عاتق الرئيس التنفيذي للولاية.
ما هو قانون ريكو الذي تستخدمه ولاية جورجيا ضد ترامب؟
اللافت والمقلق بالنسبة لترامب هو استخدام قانون ريكو في قضية ولاية جورجيا.
إن قرار ويليس الطموح باستخدام قانون ريكو الموسع في جورجيا -وهو قانون تم استخدامه تاريخياً لمحاكمة رجال العصابات- لتوجيه الاتهام إلى ترامب بقيادة مؤسسة إجرامية ضخمة لسرقة انتخابات 2020 قد يسمح لها باستهداف المزيد من المتورطين في المؤامرة المزعومة خارج ترامب، تغيير طريقة معاقبة المخالفات السياسية.
استُخدم قانون "مكافحة المنظمات الفاسدة والمرتبطة بالابتزاز"، المعروف اختصاراً باسم "ريكو" RICO، في إسقاط عائلات مافيا وعصابات اتِّجار بالجنس وبعض من أبرز المحتالين في الأسواق المالية الأمريكية، فهو أداة قانونية صُممت في الأساس لمكافحة الجرائم المنظمة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Economist البريطانية.
لكن هذا القانون قد تستخدم بنوده الآن لإدانة رئيس أمريكي سابق بعد أن وجهت هيئة محلفين كبرى في جورجيا اتهامات بموجبه إلى دونالد ترامب، و18 من مساعديه، في 14 أغسطس/آب 2023.
إنه القانون الذي أضعف المافيا الإيطالية
أقرَّ الكونغرس التشريع لأول مرة في عام 1970 سعياً إلى استخدامه في ملاحقة عصابات المافيا الإيطالية الأمريكية.
ففي أمريكا، لا يمكن مقاضاتك لمجرد كونك رجلَ عصابات؛ فيما يُعرف بـ"جرائم الإدانة بناء على ظاهر الحال" (Status Crime)، بل يحميك التعديل الثامن من الدستور من الملاحقة. ويعلم كل من شاهد فيلم "الأب الروحي" أنه كلما كان زعيم العصابة أقوى نفوذاً، صعبَ على الادعاء أن يثبت مشاركته بنفسه في ارتكاب الجريمة.
وللتغلب على هذه المعضلة، صاغ المشرعون قانون "ريكو"، وهو قانون واسع النطاق يسمح للادعاء العام بتوجيه الاتهام إلى المنتسبين لمنظمات تعمل منذ مدة طويلة، بناء على أنماط سلوكهم وعلاقاتهم بالمنظمة. لكن يجب أن يثبت الادعاء كذلك أن المتهم قد ارتكب جريمتين من أصل خمس وثلاثين جريمة مدرجة في القانون، تشمل القتل والاختطاف والرشوة والاحتيال وعرقلة سير العدالة. ويواجه المتهمون عقوبة السجن مدةً تصل إلى 20 عاماً في حال إدانتهم.
برهن القانون على فاعليته، وكان له نصيب كبير في الخفض الحاد لوتيرة الجرائم المنظمة في أمريكا خلال العقود الأخيرة. فعلى سبيل المثال، استخدم القانون للقبض على زعماء عائلات المافيا الخمس الكبرى في نيويورك، بين أواخر الثمانينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين.
محامي ترامب أول من استخدمه ضد الأسواق المالية بعدما أطاح بأكبر عصابات نيويورك
ولم تقتصر الاستفادة من "ريكو" على محاسبة زعماء العصابات، بل استعمله الادعاء العام في عام 2021 لإدانة مافيا "كولومبو" في بروكلين، واستُغل اتساع نطاق التشريع لتوجيه تهم الابتزاز ضد زعيم العصابة ومجموعة كبيرة من أتباعه في الوقت نفسه. وأتاح القانون للادعاء أن يحاسب المتهمين المتورطين جملةً، وألا يضطر إلى ملاحقتهم فرداً فرداً.
بدأ المدعون العامون بعد ذلك في استعمال القانون لملاحقة أنواع أخرى من المنظمات الإجرامية، وليس فقط العصابات.
وفي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، لفت رودي جولياني -كبير المدعين الفيدراليين في مانهاتن آنذاك- الأنظار بعد أن استخدم القانون في الإطاحة بأكبر رؤوس الجريمة المنظمة في الولاية، وهز أركان الأسواق المالية حين هدد شركتين من أبرز الشركات الاستثمارية باستعمال قانون ريكو لملاحقتهما. وخشيت شركة منهما عقوبات القانون الصارمة، فتصالحت مع الادعاء العام مقابل تقليل التهم.
أما الشركة الأخرى فانهارت بعد أن هرب المستثمرون ذعراً من التبعات القانونية. وفي عام 2020، استخدم الادعاء العام في المنطقة الشرقية بولاية نيويورك قانونَ ريكو لإنزال عقوبة بالسجن 120 عاماً على زعيم طائفة استغلت نساء وفتيات في ممارسات الاستعباد الجنسي.
المفارقة الكبرى أن جولياني الذي كان رائداً في استعمال قانون ريكو لملاحقة المجرمين حين كان مدعياً عاماً، صار الآن معرضاً للملاحقة بالقانون ذاته لأنه أحد المتهمين مع ترامب في قضية السعي لقلب نتيجة الانتخابات في ولاية جورجيا.
أدرجت أكثر من 30 ولاية أمريكية نسخاً متفاوتة من "ريكو" في مدوناتها القانونية. لكن ولاية جورجيا تستعمل صيغة أوسع نطاقاً من غيرها، فهي تتضمن أصنافاً متنوعة من الجرائم وتتراخى في القيود المتبعة بشأن مدة مشاركة المتهمين في ارتكاب الجريمة المنظمة.
وبناء على ذلك، تمكن محامو الادعاء العام بالولاية من تجربة تطبيقات جديدة للتشريع، ومن أبرز هؤلاء المحامين فاني ويليس، المدعية العامة في مقاطعة فولتون، والتي تتولى القضية المرفوعة على ترامب.
واستخدمت ويليس القانون من قبل في قضية فساد كبرى ضد معلمين أُدينوا بالتلاعب لرفعِ درجات بعض الطلاب في امتحانات الولاية، وفي مقاضاة مغني راب ومجموعة من زملائه لتسهيل أنشطة تابعة لعصابات إجرامية. وفي القضيتين، استعملت ويليس القانون لملاحقة المتهمين بطرق غير معهودة من قبل.
كيف يمكن أن يطبق "قانون ريكو" على ترامب؟
تحاول المدعية العامة لمقاطعة فولتون بولاية جورجيا، فاني ويليس، الآن أن تستعمل "ريكو" بطريقة مشابهة مع ترامب، فهي تتهم الرئيس السابق بالمشاركة في مساعٍ للتآمر من أجل "تغيير نتيجة الانتخابات بطريقة غير قانونية" في انتخابات عام 2020 الرئاسية. ومن ثم، فإن ترامب و18 من المتعاونين معه -منهم محامون؛ مثل جولياني، وسياسيون؛ مثل مارك ميدوز، رئيس موظفي البيت الأبيض في عهد ترامب- بالعمل في جورجيا وأريزونا وميشيغان وأماكن أخرى "مدة زمنية كافية" ضمن جماعة منظمة "تسعى لتحقيق أهداف" تدَّعي ويليس أنها تشمل الاحتيال على الدولة، والحنث باليمين، والتزوير، والسرقة. (وإن كان ترامب وجولياني ينكران ارتكابهما أي مخالفات).
أكبر لائحة اتهام ضد الرئيس الأمريكي حتى الآن
لائحة الاتهام الموجهة إلى الرئيس السابق دونالد ترامب ومحاميه السابق رودي جولياني وآخرين في جورجيا هي أكبر لائحة اتهام ضد ترامب، على الأقل من حيث الحجم، حسبما ورد في تقرير آخر لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
إذ يبلغ عدد عدد الأشخاص المتهمين 19، بمن فيهم ترامب. كل منهم متهم بالابتزاز وجريمة واحدة على الأقل ذات صلة، ويواجه كل من ترامب وجولياني 13 تهمة.
والعدد الإجمالي للجرائم التي يواجهها ترامب الآن في لوائح الاتهام الأربع، في جورجيا يبلغ 91.
هناك 30 من المتآمرين المزعومين وغير المدانين في لائحة اتهام جورجيا.
عدد محامي ترامب الحاضرين في المؤتمر الصحفي للجنة الوطنية للحزب الجمهوري المثير للجدل الذي عقد في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 والذين وجهت إليهم لوائح اتهام الآن: جولياني وسيدني باول وجينا إليس.
تضمن المؤتمر الصحفي نظريات مؤامرة غريبة عن سرقة الانتخابات تشمل فنزويلا وكوبا والصين، عقب المؤتمر، أعربت رئيسة اللجنة الجمهورية "RNC" رونا مكدانيل عن قلقها بشأن المسؤولية القانونية الناشئة عن الحدث.
وزعم جولياني أن لديه دليلاً على وجود تزوير انتخابي واسع النطاق في عام 2020، وهو الآن متهم بالتآمر لارتكاب تزوير انتخابي في خرق مزعوم لآلة التصويت في مقاطعة كوفي بولاية جورجيا.
عدد المرات التي ورد فيها "بيان كاذب" في لائحة الاتهام هو 127، ويحظر قانون جورجيا إصدار "بيان أو تمثيل كاذب أو وهمي أو احتيالي… في أي مسألة تقع ضمن اختصاص أي إدارة أو وكالة تابعة لحكومة الولاية".
لدى المتهمين التسعة عشر مهلة حتى 25 أغسطس/آب للمثول أمام محكمة أتلانتا. وخلافاً للنسخ الأخرى من القانون في مختلف الولايات، فإن نسخة ولاية جورجيا من قانون ريكو تنطوي على عقوبة دنيا (خمس سنوات من السجن)، وهو الأمر الذي قد يُرغم المتهمين مع ترامب على التعاون والسعي للتسوية، بدلاً من المخاطرة بالسجن. وفي كل الأحوال، فإن مجريات القضية ونتائجها ستحظى بمتابعة واسعة النطاق.
هل تطول قضية ولاية جورجيا إلى ما بعد موعد الانتخابات؟
لكن الخبراء حذروا من أن لوجستيات محاكمة ترامب في جورجيا مع 18 شخصاً آخرين -قد يقدم كل منهم مجموعة من الاقتراحات للمحاكمة- في لائحة اتهام معقدة ومتعددة المستويات قد تنطوي على صعوبات كبيرة.
وحتى بعض منتقدي ترامب شككوا في وضوح تحقيقات ويليس والتحدي الذي تواجهه في إقناع هيئة المحلفين بتجريم التصريحات حول تزوير الانتخابات -بما في ذلك تصوير بعض التغريدات التي تبدو غير ضارة على أنها تعزز المؤامرة- والتي يعتبرها الكثيرون كلاماً محمياً بموجب القانون، والتعديل الأول للدستور الأمريكي.
سيتعين على المدعية العامة لمقاطعة فولتون بولاية جورجيا أيضاً إقناع هيئة المحلفين بأن ترامب والآخرين يعرفون أن ما يقولونه كذب، وأنهم غير محميين بحقيقة أنهم في كثير من الحالات كانوا يتبعون نصيحة محاميهم.
بدلاً من ذلك، يمكن أن ينظر المحلفون إلى مناورتها لمحاكمة جميع المتهمين الـ 19 معاً على أنها مثال كبير على تجاوز الادعاء. وعلى الرغم من تصريح ويليس عن رغبتها في رؤية موعد للمحاكمة في غضون ستة أشهر، فإن الطبيعة مترامية الأطراف للقضية قد تدفع ببداية المحاكمة إلى ما بعد انتخابات 2024 وتستغرق سنوات -والعديد من الطعون- لحلها.