عشر سنوات ولا تعلم أين ابنها هل هو ميت أم حي معتقل أم منفي، فثمة صمت مخيف يسود منزل بدرية السيد في القاهرة منذ اختفاء ابنها خلال فض اعتصام رابعة.
هذا المنزل، الذي كان مليئًا بالضحك الصاخب، أصبح صامتاً منذ أن رأت السيدة بدرية ابنها، عمر حماد، للمرة الأخيرة قبل 10 سنوات بالضبط، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
في صباح يوم 14 أغسطس/آب 2013، شقَّ عمر، البالغ من العمر 20 عاماً، طريقه إلى ميدان رابعة العدوية بالقاهرة دون أن يعلم مستوى العنف الذي كان على وشك أن يشهده.
في ذلك الوقت، دخلت الحركة الاحتجاجية المطالبة بعودة أول رئيس مصري منتخب ديمقراطياً، محمد مرسي، أسبوعها السادس. تزايد زخم الاحتجاجات المطالبة بعودة محمد مرسي وذهب العديد من أصدقاء عمر إلى الاعتصام لدعم الرئيس المطاح به.
لكن بعد وقت قصير من شروق الشمس في ذلك اليوم العصيب، تحركت قوافل من المدرعات العسكرية وحاصرت ميداني رابعة العدوية والنهضة وأغلقت جميع المخارج الرئيسية للاعتصام.
فض اعتصام رابعة أدى لمقتل 817 شخصاً
وفقاً لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، قتلت القوات المصرية ما لا يقل عن 817 شخصاً في ميدان رابعة العدوية بمحافظة القاهرة و87 آخرين في ميدان النهضة بمحافظة الجيزة باستخدام العربات المدرعة والقناصة والذخيرة الحية.
وأُصيب العديد من المحتجين برصاصة في الرأس أو الصدر، من بينهم كثيرون كانوا في أوائل سن المراهقة، واندلع حريق هائل في مكان الاعتصام واحترقت خيام المحتجين.
وسبق أن دعا الأمين العام للأمم المتحدة الساق بان كي مون، في الذكرى الثالثة لـ"فض اعتصام رابعة" في أغسطس/آب 2016 إلى ضرورة إجراء تحقيقات كاملة بشأن مقتل مئات المدنيين على أيدي قوات الشرطة والجيش المصري، خلال فض اعتصام ميدان رابعة العدوية، شرقي القاهرة، منذ 3 سنوات في أغسطس /آب 2013.
وقالت بدرية لموقع "Middle East Eye" البريطاني: "نعيش كابوساً مستمراً منذ 10 سنوات". وأضافت، وهي تقاوم دموعها بينما تروي جهودها الفاشلة لتحديد مكان ابنها: "كانت آخر كلماته لي: سأعود إلى المنزل يا أمي.. لا تقلقي.. سأذهب فقط إلى الميدان لأطمئن على أصدقائي".
ذهبت لـ"غوانتانامو" مصر حيث يحتجز المختفون قسرياً، ولكنها قوبلت بالسخرية
تقول بدرية إنَّها في البداية سمعت من أحد أصدقاء عمر أنَّه أُصيب في كتفه واحتجزته قوات الجيش أثناء حملة فض الاعتصام. لكن بعد فشلها في سماع أي أنباء من الجيش تطمئنها على نجلها، بدأت الأم رحلة بحث طويلة وشاقة في المستشفيات والمشارح وأقسام الشرطة في جميع أنحاء البلاد على أمل العثور على ابنها.
بعد إعلان فوز المشير عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية عام 2014، والتي وصفت على نطاق واسع باعتبارها انتخابات صورية، ذهبت بدرية إلى "سجن العزولي العسكري" في شمال شرق القاهرة بعد سماعها أنَّ ابنها محتجز هناك.
يُعتبر هذا السجن، الذي يُشار إليه على نطاق واسع باسم "غوانتانامو مصر"، مقر احتجاز للمختفين قسرياً يتعرّض فيه كثيرون للتعذيب لإجبارهم على الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها.
وقالت بدرية إنَّها أثناء وجودها هناك سمعت من سجين يُدعى عبد العزيز أنَّ ابنها محتجز معهم. لكن بعد التواصل مع مسؤولي السجن للمساعدة، قالت إنَّ استفساراتها قوبلت بالنفي والسخرية.
رقم مجهول يتصل بها
اعتقدت بدرية لاحقاً أنَّ سعيها الدؤوب قد أتى ثماره أخيراً عندما تلقت مكالمتين هاتفيتين من رقم مجهول.
قالت بدرية: "لقد صُدمت عندما عرَّف المتصل نفسه بأنَّه الرائد أدهم من مقر الأمن الوطني ووعدني بحل الأمر".
لكن بعد حصوله على معلومات عن عمر وانتماءاته السياسية، لم يعاود الاتصال بها مرة أخرى.
في وقتٍ لاحق، أخبر ضابط من جهاز الأمن الوطني بدرية أنَّ عمر ذهب إلى سوريا، مردداً ادعاء، قاله السيسي لشبكة "BBC" في عام 2015 عن متظاهرين آخرين.
ومع ذلك، لا تزال السيدة بدرية متفائلة قائلة: "أشعر أنَّ ابني على قيد الحياة".
أكثر من 400 حالة لأشخاص اختفوا من ميداني النهضة ورابعة العدوية
يقول حليم حنيش، المحامي والباحث الحقوقي، إنَّه "لا يوجد إحصاء دقيق لعدد المختفين قسرياً في مصر، سواء في يوم فض اعتصام رابعة أو ما بعده".
وثَّق مرصد حقوق الإنسان، ومقره لندن، أكثر من 400 حالة لأشخاص اختفوا من ميداني النهضة ورابعة العدوية، لكنه يقر بأنَّ العدد على الأرجح أكبر من ذلك بكثير.
يساوي حنيش الوضع في مصر بالوضع في الأرجنتين بعد الانقلاب العسكري عام 1976 بقيادة الجنرال خورخي فيديلا.
ومع ذلك، قال حنيش لموقع "Middle East Eye" إنَّ "الوضع أخطر كثيراً في مصر، حيث بات الاختفاء القسري إجراءً معتاداً".
الأمهات والآباء يتم استهدافهم لأنهم يبحثون عن أبنائهم والبعض تعرض للاختفاء
على غرار ما حدث مع الأمهات الأرجنتينيات، استهدفت أيضاً السلطات المصرية الآباء والأمهات المصريين بسبب مساعيهم وبحثهم لمعرفة مصير أبنائهم.
وتعرّض إبراهيم متولي، المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان والذي اختفى نجله قسرياً بعد حملة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة (المعروفة باسم مجزرة رابعة)، للاختفاء القسري بدوره من مطار القاهرة عام 2017 قبل أن يستقل طائرة متجهة إلى جنيف.
تؤكد سناء أحمد أنَّ زوجها، إبراهيم، لم يتوقف عن البحث عن نجلهما، عمرو متولي.
قالت سناء: "أريد ابني حتى لو كان ميتاً.. يحق لي زيارة قبره".
15 ألف مختف قسرياً، ومصر لم توقع على المادة التي تحظر هذه الممارسة
في تمام الساعة الواحدة صباحاً يوم 14 أغسطس/آب 2013، جلست سناء مع ابنها في إحدى خيام اعتصام ميدان رابعة، حيث تناولا وجبتهما الأخيرة معاً. بعد ساعات، أطلقت قوات الجيش المصري النار على المعتصمين وأصبح مصير عمرو غامضاً منذ ذلك الحين.
تمامًا مثل بدرية، لا تزال سناء متشبثة بالأمل في أنَّ ابنها على قيد الحياة.
قالت سناء: "لا أريد سوى عودة ابني".
يقول مركز الشهاب لحقوق الإنسان إنَّ عدد حالات الاختفاء القسري تجاوز 15 ألف حالة منذ يوليو/تموز 2013، وهو رقم تنفيه الحكومة المصرية نفياً قاطعاً.
في السياق ذاته، قال حنيش إنَّ العقبة الرئيسية أمام عائلات المختفين قسرياً تتمثَّل في أنَّ مصر لم توقّع على الاتفاقية الدولية التابعة للأمم المتحدة لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري وأنَّ قوانينها المحلية لا تُجرّم الاختفاء القسري.
لكن المادة 54 من الدستور المصري تنص على أنَّه "لا يجوز" إلقاء القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي.
وتضيف المادة الدستورية أنَّ كل مَن تقيَّد حريته يجب أن يُبلغ فوراً بأسباب ذلك ويحاط بحقوقه كتابةً ويُمكّن من الاتصال بذويه ومحاميه فوراً، ويجب أن يَمثُل أمام سلطة التحقيق خلال 24 ساعة من وقت تقييد حريته.
لكن حالات الاختفاء القسري ما زالت مستمرة. في مايو/أيار الماضي، تعرّض الناشط الطلابي السابق، معاذ الشرقاوي، للاختفاء القسري لمدة 23 يوماً قبل مثوله أمام النيابة العامة.
قال حنيش إنَّه "بينما انضمت مصر إلى الاتفاقية المناهضة للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، فإنَّ توقيعها على الاتفاقية الأممية الأخرى المتعلقة بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري هو خطوة ضرورية لتحقيق العدالة".
من جانبه، تواصل موقع "Middle East Eye" مع وزارة الخارجية المصرية والسفارة المصرية في لندن من أجل التعليق على ما جاء في هذا التقرير، لكنَّه لم يتلق رداً حتى وقت النشر.