نشرت مجلة فورين بوليسي الأمريكية تحليلاً يرصد الوعود التي قدمها الرئيس عبد الفتاح السيسي للمصريين على مدى 10 سنوات، وكيف أن أياً منها لم يتحقق، وأصبحت مصر على شفا الإفلاس.
التحليل الذي أعدّه الكاتب والباحث الأمريكي ستيفن كوك، رصد رحلة عقد كامل من عهد الرجل الذي يقود البلاد بصلاحيات مطلقة، وكيف بدأت الرحلة بحالة من الشعبية الجارفة، توصف بأنها "هوس السيسي"، وصولاً إلى حالة من الاختناق شبه التام بسبب السياسات الاقتصادية التي أوصلت البلاد إلى حافة الهاوية.
فقد شهد الدَّين المصري تزايداً حاداً خلال العقد الماضي، ووصل إلى مستويات قياسية، حيث بلغت الديون الخارجية فقط ما يزيد على 163 مليار دولار، أي أكبر بنحو 5 أضعاف ما كانت عليه عندما تولى السيسي زمام الأمور.
السيسي.. وعود بالازدهار
وتبدأ Foreign Policy تحليلها للأوضاع في مصر من صيف عام 2013، حين كانت مصر في قبضة ما يمكن وصفه بـ"جنون السيسي"، حيث أشادت الأغاني ومقاطع الفيديو الموسيقية والقصائد، وحتى البيجامات بعبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع الذي أطاح لتوه بالرئيس الراحل محمد مرسي، الذي كان أول رئيس مدني ينتخبه المصريون في تاريخهم الحديث.
من الخارج، كان مشهداً غريباً حيث احتفل الملايين من المصريين بتدخل الجيش القاسي والوحشي ضد مسؤولي جماعة الإخوان المسلمين، الذين كانوا قد جاءوا لسدة الحكم في البلاد قبل عام واحد فقط، في يونيو/حزيران 2012، عبر صناديق الانتخابات.
حتى بعض الثوار والمعارضين للنظام السياسي الاستبدادي في مصر، بدا وكأنهم عشقوا بصدق القائد العسكري الذي وعدهم ببداية جديدة وعهد جديد وجمهورية جديدة، وكان ذلك بعد 18 شهراً فقط من اندلاع الثورة الشعبية ضد الرئيس الأسبق حسني مبارك، والذي كان قد ظل في الحكم لمدة 30 عاماً.
وتزامناً مع اعتقال الرئيس محمد مرسي، ووفاة بعض أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، واعتقال آخرين، أو هروبهم، انهالت وعود السيسي على المصريين بأن القادم أفضل على كل المستويات، واعداً إياهم بحياة أكثر رغداً.
فقد كانت مصر تعاني بالفعل من مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وتخبطت البلاد في الأزمات المتتالية طوال فترة الانتقال الديمقراطي الحرجة وقصيرة المدى. ومع ذلك، وبعد عقد من الزمان، أثبتت الأيام أن السيسي وعد فأخلف، فلم يكافئ السيسي المصريين على صبرهم، بالعكس تماماً: الرجل الذي من المفترض أن يكون قد أنقذ مصر، الآن هو نفسه يشرف على تدهورها في جميع المجالات.
وعد السيسي المصريين بالازدهار، ولكن مصر الآن باتت على شفا الإفلاس، إذ إن الإحصائيات مرعبة. فالتضخم يبلغ ما يقرب من 37%، ودولار واحد أمريكي يساوي نحو 31 جنيهاً مصرياً بالسعر الرسمي في البنوك، بينما يساوي 38 جنيهاً في السوق الموازية. (كان سعر الدولار يساوي 7 جنيهات فقط عندما تولى السيسي الحكم).
وبلغ الدَّين الخارجي لمصر ما يزيد على 163 مليار دولار، ومن المتوقع أن يصل الدين العام للبلاد إلى ما يقرب من 93% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العام الجاري (2023).
ويقوم المسؤولون الحكوميون في مصر بإدارة الأمور المالية كما لو كانوا يلعبون لعبة "الاستغماية" بالعامية المصرية، أو "الغميضة" بلغة أهل الشام، حيث ينقلون الأموال من مكان لآخر، في محاولة عبثية لإخفاء الظروف الاقتصادية الهشة للبلاد.
مشاريع ضخمة دون جدوى اقتصادية
قام السيسي بجولة ماراثونية من الإنفاق على مشاريع ضخمة لا توجد لها مبررات اقتصادية كثيرة، مستنداً على الاستدانة ورفع الدعم الحكومي، الذي كان بمثابة الساتر للفقراء، وهم يمثلون أكثر من نصف عدد السكان، بحسب التقارير الرسمية.
أضخم هذه المشاريع وأكثرها إثارة للجدل هي العاصمة الإدارية الجديدة، التي لا تزال في مرحلتها الأولى وقد كلفت حتى الآن أكثر من 45 مليار دولار. وعندما انسحبت دولة الإمارات العربية المتحدة والصين من المشروع، صمم السيسي على مواصلة العمل فيه، وأجبر المصريين على تحمّل التكاليف من خلال إضافة مبالغ ضخمة من الديون إلى ميزانية البلاد.
وبالإضافة إلى بناء عاصمة جديدة تماماً في وسط الصحراء، يشرف السيسي على العديد من المشاريع الكبيرة الأخرى. ومن بينها عاصمة الصيف الجديدة "الساحل الشمالي"، وتحديداً مدينة العلمين الجديدة، ومحطة للطاقة النووية (في بلد لديه تخمة في الكهرباء)، ومدينة مستدامة في دلتا النيل، وإحياء مشروع ضخم فاشل من عصر مبارك في صعيد مصر يُعرف باسم "توشكا".
وقبل ذلك كله، كان افتتاح مجرى جديد لقناة السويس – المعروف باسم "القناة الجديدة لقناة السويس" – في عام 2015. معظم هذه المشاريع لها قيمة اقتصادية مشكوك فيها، ولكنها (أو كانت) مهمة سياسياً.
ورغم التخمة في إنتاج الكهرباء، فوجئ المصريون في صيف 2023 الحارق بانقطاعات في الكهرباء أثارت غضباً عارماً، وجاء رد الحكومة مرتبكاً ومتخبطاً في تفسير السبب، ليصبح مصطلح "تخفيف الأحمال" مادة دسمة للسخرية على منصات التواصل الاجتماعي.
وكان من المفترض أن تكون تلك "المشاريع القومية"، كما يسميها السيسي ورجاله، عروضاً ملموسة عن تجديد مصر تحت إشراف اليد الثابتة لضابطها العسكري الجديد الذي تحوّل إلى رئيس، وزملائه في وزارة الدفاع.
قد يكون الهدف من تلك المشاريع هو رسالة مفادها أن مصر لا تزال قادرة على فعل أشياء عظيمة، ولكن هذه المشاريع الضخمة أصبحت أعباء اقتصادية يدفع فاتورتها المصريون، وبخاصة الفقراء والطبقة المتوسطة، أو ما تبقى منها.
يشير المسؤولون إلى أن العديد من المصريين كانوا يعملون في بناء هذه المشاريع وهذا مقبول، ولكن بأي ثمن؟ تحمل الحكومات مسؤولية بناء البنية التحتية، ولكن يجب أن تفوق الفوائد طويلة الأمد التكاليف القصيرة الأمد، يقول تحليل فورين بوليسي.
حفر ضخمة تبتلع الأموال
ولا شك أن الجسور الجديدة والطرق والتقاطعات والمحاور وتحسينات المطارات والمترو تستحق أن يتم الإنفاق عليها، بسبب العائدات من هذه المشاريع في وجود نشاط اقتصادي أكبر وأكثر فعالية. وقد تندرج قناة السويس الجديدة ضمن هذا التصنيف كذلك، لكن العاصمة الصيفية والعاصمة الإدارية الجديدة هما "حفر ضخمة لأموال لا تمتلكها مصر" فتستدينها.
ومن الصعب أن نفهم أنه في غضون عقد من الزمن، السيسي – الذي قام رعاته في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بإعادة تعويم الاقتصاد المصري بتحويلات نقدية مباشرة، والذي حصل على قروض من صندوق النقد الدولي بشروط ميسرة، والذي تمتع بسمعة طيبة بين الحكومات الغربية – استولى على دولة فقيرة وجعلها أكثر فقراً.
ففي أحدث اتفاق لها مع صندوق النقد الدولي، وافقت الحكومة المصرية على بيع أصول الدولة، بما في ذلك الأصول التي يمتلكها الجيش. ومع ذلك، كان هناك عدد قليل من المشترين، لأن هذه الأصول إما لا تساوي شيئاً، أو لا أحد يعرف كيفية تحديد قيمة لها، أو أن المشترين المحتملين غير متعجلين وينتظرون تخفيضاً آخر لقيمة الجنيه المصري حتى يتمكنوا من الحصول على شركات عالية الجودة بأسعار أرخص.
أعلنت الحكومة المصرية مؤخراً عن مبيعات بقيمة 1.9 مليار دولار من أصول الدولة، وهو أمر إيجابي، لكنه لا يفعل الكثير لتخفيف المعاناة الاقتصادية واسعة الانتشار.
هجرة المصريين خارج البلاد
ثار المصريون عام 2011 سعياً وراء "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية"، لكن كثيرين منهم، وبخاصة الشباب، ملّوا من الاستمرار في انتظار الازدهار الذي وعدهم به قادتهم ، فبدأوا يغادرون البلاد بأعداد متزايدة.
وعلى الرغم من التغطية المكثفة لمأساة غرق قارب الصيد المكتظ بالمهاجرين غير الشرعيين قبالة سواحل اليونان في يونيو/حزيران الماضي، فإن ما غاب عن كثير من التقارير حول الكارثة هو حقيقة أنه ربما كان هناك 300 إلى 350 مصرياً على متن قارب الموت ذاك.
وفي الإطار نفسه، سجل المواطنون المصريون حوالي خمس المهاجرين غير النظاميين الذين وصلوا إلى إيطاليا خلال العام الماضي (2022)، بعدما بلغ عددهم 20 ألف مهاجر من بين 93 ألفاً عبروا البحر المتوسط، فضلاً عن تنامي هجرة الأطفال المصريين للاستفادة من القوانين الإيطالية التي تمنع ترحيل الأطفال، وتلزم السلطات بإيوائهم في مراكز تأهيل حتى بلوغهم 18 سنة، قبل منحهم حق الإقامة.
وعلى الرغم من زيادة عدد المصريين الذين يهاجرون إلى أوروبا عن طريق القوارب بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، فإن العدد ارتفع بشكل أكبر في السنوات الأخيرة.
فقد حاول أكثر من 6000 مصري الوصول إلى إيطاليا عن طريق البحر منذ بداية عام 2023، وذلك حتى يونيو/حزيران فقط، وهم بذلك يشكلون ثاني أكبر مجموعة من المهاجرين الذين يأملون في الوصول إلى الشواطئ الإيطالية. ومن المنطقي أن تغادر أعداد أكبر من المصريين في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يواجهونها. فالمتاعب الاقتصادية في مصر تعزز فقط فكرة تحول البلاد إلى قوة مستهلكة.
السيسي وسياسة مصر الخارجية
بالعودة إلى سبعينيات القرن الماضي، نجد أن الرئيس أنور السادات باع لوزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر قصة عن كيف كانت مصر لاعباً مؤثراً يمكن أن يساعد في تأمين السلام الإقليمي وأن تكون العمود الفقري في نظام إقليمي مناهض للسوفييت.
نعم، مصر شريك مهم للولايات المتحدة، ومع ذلك ، مع استثناءات قليلة – مثل عملية درع الصحراء/عاصفة الصحراء – لم يكن لديها الموارد اللازمة للعب الدور الذي كان صانعو الساسة الأمريكيون يأملون أن تفعله عندما أعادت القاهرة توجيه سياستها الخارجية تجاه الولايات المتحدة، بحسب تحليل فورين بوليسي.
لكن الآن يبدو أن مصر فقدت كثيراً من ثقلها الإقليمي وباتت تابعاً وليست فاعلاً رئيسياً. فعلى الرغم من وجود السيسي في القاعة لعقد اجتماعات مهمة مثل القمة الروسية الإفريقية التي اختتمت مؤخراً في سانت بطرسبرغ أو اجتماع دول مجلس التعاون الخليجي الصيف الماضي مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، يرى تحليل المجلة الأمريكية أن حضور الزعيم المصري يبدو شكلياً.
صحيح أن التواجد في الغرفة يمنح قدراً معيناً من التأثير، لكن مصر تحولت إلى مراقب في هذه التجمعات أكثر من كونها لاعباً. والمثال الأكثر وضوحاً على نزول مصر وما يصاحب ذلك من سياسة خارجية جوفاء هو الغياب شبه الكامل للقاهرة في الحرب الأهلية في السودان – الفناء الخلفي للبلاد.
ففي المرحلة الأولى من الصراع، احتجزت قوات الدعم السريع التابعة للجنرال محمد حمدان دقلو "حميدتي" ما يقرب من 200 جندي وطيار مصري – كانوا في السودان لإجراء تدريبات مع الجيش السوداني – كرهائن.
تم إطلاق سراحهم بسرعة نسبية بمساعدة دبلوماسيين إماراتيين، لكن بعد تلك الحلقة المهينة، وقف المصريون على الهامش وشاهدوا السعوديين يلعبون دوراً مهماً في إجلاء رعايا الدول الثالثة من السودان. ثم تنازل السيسي عن أي جهد للتوسط في السودان لولي العهد الأمير محمد بن سلمان (بمساعدة من الأمريكيين).
لكن "يجب أن يشعر البعض في القاهرة بالحرج من أن المملكة العربية السعودية قد انتهى بها الأمر إلى لعب الدور الحاسم في صراع حيث يجب أن تتولى مصر – وفقاً لأساطيرها – زمام القيادة"، تقول فورين بوليسي.
وحتى عندما استضافت القاهرة مؤتمراً لسبعة جيران للسودان في منتصف يوليو/تموز الماضي؛ للمطالبة بوقف إطلاق النار، لم يسر هذا الاجتماع على ما يرام ولم يحقق شيئاً للقاهرة، فقد كان أكثر بقليل من منتدى حديث وصورة فوتوغرافية – وخلال تصريحاته في الاجتماع السري، توجه رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد بالشكر إلى المملكة العربية السعودية على جهود الوساطة التي تبذلها.