بعد وعود من الرئيس الأمريكي جو بايدن للنهوض بهذه الصناعة الواعدة، باتت العديد من الشركات والمستثمرين الأمريكيين يضخون الأموال في مصانع أشباه الموصلات ومصانع السيارات الكهربائية كما لم يحدث من قبل، وذلك في محاولة للحاق بركب اللاعبين الكبار في هذه الصناعات وعلى رأسهم الصين، التي تخشى واشنطن أن تستحوذ على حصة كبيرة في سوق الرقائق الإلكترونية خلال السنوات القليلة القادمة.
ومع الاستثمار في منشآت التصنيع التي وصلت إلى مستوى قياسي، فإن ادعاء الرئيس بايدن بأن "المستقبل سوف يصنع في أمريكا" يبدو أكثر واقعية مما كان عليه في السابق. لكن ما التحديات التي لا تزال تعيق هذا النهج؟
قطاع أشباه الموصلات أهم اختبار لإحياء التصنيع في أمريكا
تقول مجلة economist البريطانية إن الخطوة التالية في خطة بايدن الواعدة أقل تأكيداً بأن "المستقبل سوف يصنع هنا"، حيث تبني الولايات المتحدة المصانع بالفعل، ولكن هل تستطيع إيجاد العمال لتشغيلها؟
مع اقتراب معدل البطالة من أدنى مستوى له منذ خمسة عقود، تكافح الشركات الأمريكية بالفعل للعثور على موظفين. ومع دخول عشرات المصانع الجديدة على الخط، ستزداد الفجوات بشكل أكبر، كما تقول الإيكونومست.
ويعد قطاع أشباه الموصلات أو الرقائق الإلكترونية، أهم حالة اختبار لإحياء التصنيع في أمريكا. على مدى العقدين الماضيين، غادر صانعو رقائق الكمبيوتر أمريكا إلى حد كبير.
صحيح أنه لا يزال يوجد في البلاد باحثون ومصممون على مستوى عالمي في مجال أشباه الموصلات، ولكن تم تجريدهم من القوى العاملة التي تحول رقائق السيليكون إلى دوائر إلكترونية على نطاق واسع. وعلى أمل عكس هذا المد، فإن قانون أشباه الموصلات الذي أقره الكونغرس العام الماضي، سيشهد قيام الحكومة الأمريكية بتخصيص 50 مليار دولار على مدى نصف العقد المقبل لأجل هذه الصناعة.
قطاع "أشباه الموصلات" سواجه نقصاً حاداً في العمال
تشير التقديرات الأساسية من جمعية صناعة أشباه الموصلات الأمريكية، وهي هيئة تجارية، إلى أنه بحلول عام 2030 سيواجه قطاع الرقائق في أمريكا نقصاً في 67.000 فني وعالم ومهندس كمبيوتر، وحوالي 1.4 مليون عامل في جميع أنحاء الاقتصاد الأوسع.
ضع مقابل هذا ما يقرب من 70.000 ألف طالب يكملون شهادات البكالوريوس في الهندسة في أمريكا كل عام، ليصبح حجم العجز واضحاً. ومهما كانت الفجوة الدقيقة، فإنها تشير إلى الفرق بين المسابك التي تعمل بكامل طاقتها مع فواتير العمالة تحت السيطرة، أو ينتهي بها المطاف غارقة في التكاليف المرتفعة والإنتاجية المنخفضة.
لكن أحد المواقع في مركز الطموحات الصناعية لأمريكا يقدم رؤية مبكرة للمشكلة. حيث تخطط شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية العملاقة (tsmc)، أكبر شركة لتصنيع الرقائق في العالم، لاستثمار 40 مليار دولار في مصنعين في مدينة فينيكس، بولاية أريزونا، مما يعزز بشكل كبير قدرة أمريكا على تصنيع كميات كبيرة من أشباه الموصلات فائقة الصغر. وإذا نجحت في ذلك، فسوف يعني ذلك أنه يمكن لأمريكا استعادة موقع في طليعة إنتاج الرقائق الإلكترونية.
كابوس البحث عن قوى عاملة متخصصة
كان من المقرر أن يبدأ إنتاج أول مصانع tsmc في العام المقبل. لكنها أعلنت في يوليو/تموز أن موعد الإطلاق سيؤجل إلى عام 2025 لأنه لم يتمكن من العثور على عدد كافٍ من العمال ذوي الخبرة لتركيب المعدات في مثل هذه المنشأة عالية التقنية. وقال مارك ليو، رئيس tsmc، إن الشركة سترسل فنيين من قاعدتها الرئيسية في تايوان لتدريب موظفيها الأمريكيين.
يقول شاري ليس من مؤسسة semi، وهي مجموعة ضغط للإلكترونيات الدقيقة، لمجلة الإيكونومست: "كابوسي هو الاستثمار في كل هذه البنية التحتية ومن ثم عدم القدرة على بناء القوى العاملة". إن مشاركة الكثير من الناس في قلقها كان على الأقل حافزاً مفيداً.
ذكر تقرير صدر في يناير/كانون الثاني 2023 من معهد بروكينغز، وهو مركز أبحاث، أن أمريكا بحاجة إلى "زيادة كبيرة في الإجراءات الوطنية والولائية والمحلية" لضمان عدد كافٍ من العمال لقطاع الرقائق. تتشكل الخطوط العريضة لذلك. حيث تتحدث ليس عن جهد مشترك يجمع بين السياسيين والبيروقراطيين والشركات والكليات والطلاب.
100 عامل لأجل المرحلة الأولى
إن الفجوة الأكثر إلحاحاً، كما يتضح من مشاكل شركة tsmc التايوانية، هو في صناعة البناء. تعتقد وزارة التجارة الأمريكية أنه قد تكون هناك حاجة إلى حوالي 100.000 عامل بناء للمرحلة الأولى من الاستثمارات في مصانع تصنيع أشباه الموصلات. لا تستطيع الحكومة استحضار مثل هذه القوة العاملة من فراغ. لكنها جعلت دعمها مرهوناً بشرح الشركات للخطوات التي ستتخذها لتوظيف وتدريب عمال البناء.
ويقول مسؤول في وزارة التجارة إن الحكومة الأمريكية تريد من الشركات أن تتعاون في بناء قوة عاملة في مجال البناء. ويضيف: "إن العمال الذين تم تدريبهم على مشروع واحد سيكونون بعد ذلك مفيدين للقطاعات الأخرى التي يتم بناؤها". في هذا الصدد، تعتبر خطة شركة tsmc التايوانية لاستيراد المدربين التايوانيين خطأ أقل من كونها ميزة، مما يساعد على نقل المعرفة إلى القوى العاملة المحلية.
بمجرد بناء هذه المصانع، ستكون الحاجة التالية إلى الفنيين لتشغيلها. ويكون الفنيون مسؤولين عن مهام مثل فحص الأدوات والمنتجات، وقد يتطلب الأمر تاريخياً عامين من التدريب في كلية أو مدرسة مهنية، لكن الشركات والمهندسين بدأوا في تجربة دورات أقصر بكثير.
حوافز لتجهيز فنيين وعمال لصناعة الرقائق الإلكترونية
ومعظم البرامج اللافتة للنظر هي برامج البدء السريع التي تعد بإخراج الفنيين في غضون عشرة أيام فقط، والتي تقدمها كلية ماريكوبا كوربوريت في أريزونا وكلية بورتلاند المجتمعية في أوريغون. وتقدم كلية بورتلاند، المدعومة من شركة إنتل الأمريكية لصناعة الرقائق، رواتب للطلاب تصل إلى 500 دولار في الأسبوع، وتضمن الكلية في أريزونا إجراء مقابلات مع طلابها مع شركة tsmc. ومع ذلك، لا توجد شركة على وشك وضع مرشحين لديهم تدريب لمدة عشرة أيام فقط في أي مكان بالقرب من الآلات التي تبلغ تكلفتها ملايين من الدولارات داخل مصانعها.
الهدف الأكثر واقعية هو إثارة شهية الناس للعمل في مجال أشباه الموصلات. تقول غابرييلا طومسون من شركة Intel: "هدفنا هو الوصول إلى الأشخاص الذين قد يعتقدون أنهم يفتقرون إلى المهارات اللازمة لهذا النوع من الوظائف". وتشير طومسون إلى أن الشركة كانت أكثر نجاحاً في تجنيد النساء والأقليات في برامج البداية السريعة مقارنة بالدورات التقليدية لمدة عامين.
قد يكون هناك أيضاً قريباً المزيد من الخيارات البينية. في خريف هذا العام، ستقدم كلية كولومبوس ستيت كوميونيتي في أوهايو، حيث تقوم إنتل ببناء مختبرين، في أول برنامج من نوعه لمدة عام واحد، حيث الهدف المعلن هو أن ينتهي الطالب من الاستعداد للعمل لشركة Intel.
استثمار الجامعات في دراسة أشباه الموصلات
الدرجة التالية على سلم العمل هم المهندسون الذين يديرون هذه المصانع. وقامت الجامعات الواقعة بالقرب من بعض المصانع الرئيسية قيد الإنشاء، بما في ذلك ولاية أريزونا وولاية أوهايو، بتوسيع عروضها لدورات أشباه الموصلات كجزء من درجات علمية في الهندسة والعلوم الفيزيائية. تقود جامعة بوردو في إنديانا هذه المهمة، والتي أطلقت العام الماضي برنامجاً للحصول على درجة أشباه الموصلات لكل من الطلاب الجامعيين والخريجين.
يتمثل الهدف الواضح لدى جامعة بوردو في التعاون بشكل أوثق مع الشركات المتخصصة بهذه الصناعة، استثمارها بـ49 مليون دولار لبناء منشأة الأبحاث لديها المتخصصة في صناعة أشباه الموصلات، مع منح الطلاب الوصول إلى مختلف أنواع المواد التي قد يحتاجونها.
وقدمت جامعة بوردو هذا الصيف منحة تدريبية مدتها ثمانية أسابيع تضمنت راتباً قدره 10.000 دولار للطلاب، بتمويل من الشركات التي تأمل في جذب العمال المحتملين قبل أن يغريهم وادي السيليكون. وفي حديقة صناعية على الحافة الجنوبية الغربية للحرم الجامعي، ستقوم شركة SkyWater التقنية، ببناء مختبرات تصنيع بتكلفة ملياري دولار. ويقول مونغ تشيانغ، رئيس جامعة بيرديو: "سيتمكن الطلاب من الاستيقاظ في مسكنهم الجامعي، والاستدارة يميناً والذهاب إلى فصولهم الدراسية، ثم الانعطاف يساراً وإجراء تدريب داخلي".
ضرورة الاستثمار في الأيدي العاملة من المهاجرين
يبدو أن هذه البرامج تكتسب زخماً في الولايات المتحدة كما تقول كروز تومبسون. لكن لسوء الحظ، فإن أمريكا تحد من وصولها إلى مصدر قوي وواضح للمواهب، ألا وهو المهاجرون. حيث يمثل المهاجرون حوالي 40% من العمال ذوي المهارات العالية في صناعة أشباه الموصلات الأمريكية. ويتم توجيههم من خلال برنامجين للتأشيرات، مع قيود صارمة.
لكن هذه الحدود القصوى ثابتة، مما يعني أنه مع توسع الصناعة، فإنها ستصبح أكثر تقييداً. حتى إن السياسيين من اليمين الأمريكي، بما في ذلك دونالد ترامب، قد مضوا في إلغاء فتح التأشيرات تماماً للمهاجرين.
في النهاية، تحاول أمريكا الآن استعادة موطئ قدم لها في المستويات الدنيا من الصناعة، وإعادة تعلم المهارات الأساسية مثل تقطيع الرقائق إلى رقائق أصغر وتعبئتها في أغلفة بلاستيكية صلبة. والضرورة السياسية هي الاحتراس من الاعتماد المفرط على الصين في هذا المجال.