ألحقت طائرة مقاتلة روسية أضراراً بالغة بطائرة مُسيَّرة أمريكية فوق سماء سوريا مطلع الشهر الماضي، في الواقعة الثانية من نوعها خلال العام الجاري، مما أثار تساؤلات حول مستقبل الطائرات المسيّرة، وهل باتت نقطة ضعف لواشنطن أم أنها تزيد فرص إشعال الحروب؟
وأطلقت مقاتلة روسية من طراز سوخوي 35 سلسلةً من المشاعل الحرارية الحارقة في مسار الطائرة المسيرة إم كيو-9 ريبر. وتكشف هذه الواقعة كيف أن الحرب المؤتمتة بضغطة زر تزيد سهولة فتح النيران على الأهداف، ما يُمكن أن يؤدي إلى زيادة دراماتيكية في احتمالات خروج الحوادث المسلحة عن السيطرة.
فهل أصبحت حرب الطائرات المسيرة شديدة الشبه بألعاب الفيديو، وتُبعد الجنود عن تداعيات أفعالهم من الناحية النفسية؟ أم هل هي مجرد مثالٍ آخر يُثبت قدرة التقنية على تقليل عدد الضحايا من البشر؟
حملة استفزازات
وقعت الحادثة فوق سماء سوريا، حيث كانت المسيرة إم كيو-9 ريبر تنفذ مهام مراقبة القوات الأمريكية المشاركة فيما تسميه أمريكا عملية العزم الصلب.
ويُظهر فيديو أن المقاتلة سوخوي سو-35 (فلانكر-إي) اقتربت من مؤخرة الطائرة المسيرة الأمريكية ثم تسارعت أمامها لتسبقها.
وبمجرد أن تجاوزت المقاتلة المسيرة، أطلقت سلسلةً من المشاعل المضادة للصواريخ. وتسبّبت المشاعل الحارقة، المصممة لإبعاد الصواريخ الموجهة بالأشعة تحت الحمراء، في "أضراراً بالغة" لمراوح المُسيّرة الدوارة. لكن الطائرة المسيرة نجحت في الهبوط بشكلٍ آمن رغم الأضرار التي لحقت بها.
الطائرات المسيرة الأمريكية تعرضت لسلسلة من الهجمات
تعرض أسطول الطائرات المسيّرة الخاصة بالبنتاغون لضربات موجعة في السنوات الماضية، حسب تقرير لمجلة Popular Mechanics الأمريكية.
إذ أسقطت الدفاعات الجوية الإيرانية طائرة آر كيو-4 غلوبال هوك المسيرة في المجال الجوي الدولي عام 2019.
في ذلك الوقت، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عبر حسابه على تويتر، إنه "بعد إسقاط الإيرانيين للطائرة، كنا متأهبين ومستعدين للثأر الليلة الماضية في 3 مواقع مختلفة، وعندما سألت: كم عدد الذين سيموتون؟ كانت الإجابة من جنرال 150 شخصاً يا سيدي".
وأضاف: "قبل 10 دقائق من توجيه الضربة أوقفتها"، مرجعاً السبب إلى أن توجيه الضربات وما ستسفر عنه من سقوط قتلى إيرانيين "لا يتناسب مع إسقاط طائرة بلا أحد على متنها". وتابع بالقول: "أنا لست في عجلة، جيشنا أعيد بناؤه، وجديد، وعلى استعداد للذهاب، وهو الأفضل في العالم إلى حد بعيد".
وفي مارس/آذار عام 2023، حلّق زوج من مقاتلات سوخوي سو-27 الروسية فوق مسيرة أخرى من طراز إم كيو-9 ريبر فوق البحر الأسود. وتسببت حينها واحدة من المقاتلات في قطع مراوح الطائرة المسيرة بطريق الخطأ، ما أوقع أضراراً بالغة بالمسيرة لدرجة جعلت تحطيمها المتعمد ضرورةً لا بد منها.
وآنذاك، قالت وزارة الدفاع الروسية في بيان إن "المسيرة الأمريكية قامت بمناورة حادة وتحطمت بعد مواجهة مقاتلات روسية بالقرب من حدودها"، وتابعت: "مقاتلاتنا لم تستخدم أسلحة ولم تصطدم بالمسيرة الأمريكية التي سقطت في البحر الأسود".
هل تحولت المسيرات إلى نقطة ضعف أمريكا؟
بينما تزهو أمريكا بتفوقها على روسيا في مجال الطائرات المسيّرة، بشكل يفوق الفجوة بين البلدين في كل مجالات الأسلحة الأخرى، إلا أن الواقع أن روسيا تُضايق المسيرات الأمريكية أينما وجدتها.
وهي تفعل ذلك انتقاماً من الولايات المتحدة بسبب دعمها لأوكرانيا. ويُمكن القول من منظورٍ أوسع إن روسيا تفعل ذلك لأن الولايات المتحدة يمكنها تجاهل إسقاط طائرة مسيرة -إذ لا يؤدي ذلك إلى تعريض حياة البشر للخطر في النهاية.
المسيرة ليست لديها أب يحميها أو أم تبكي عليها
وأوضح زاكاري كالينبورن، خبير الطائرات المسيّرة، لمجلة Popular Mechanics الأمريكية: "ليس لدى مسيرة إم كيو-9 ريبر أم أو أب. ولا تذهب إلى المدرسة، أو تمارس ألعاب الفيديو، أو تفضل دومينوز أكثر من بيتزا هات.
وإذا فقدت إحدى الدول طائرةً مسيرة، فلن تكون هناك حملة شعبية تطالب بإنقاذ المفقودين من الأشقاء والشقيقات.
أي إن تدمير الطائرات المسيّرة يُعد سهلاً بقدر سهولة نشرها".
الحرب باتت أخطر بعدما أصبحت تجرى بضغطة زر
في عالمنا المعاصر، أصبح من الممكن أن يموت البشر بمجرد ضغطة زر أو زناد. ويفتح بعدها نظام الأسلحة النار على الهدف حتى يقضي عليه -سواء كان السلاح عبارةً عن صاروخ، أو نظام أسلحة بالتحكم عن بعد، أو طائرةٍ مسيرة. وتختلف هذه الفكرة تماماً عن شكل الحرب الذي كان سائداً طوال غالبية فترات التاريخ البشري، حيث كان القتل يعتمد على تقطيع وتحطيم وضرب العدو بيديك العاريتين.
وبمجرد أن بدأ البشر في استخدام الأدوات؛ صارت تلك الأدوات أكثر تطوراً، وأصبح القتل واقعاً أكثر انفصالاً عن القاتل. إذ إن سحب زناد المسدس أسهل من الضرب بالسكين، بينما يُعد الضغط على زر أسهل من سحب الزناد. علاوةً على أن مشغلي الطائرات المسيّرة المسلحة يُعتبرون أكثر بعداً عن الأحداث. ففي أفغانستان مثلاً، سنجد أن غالبية مسيرات إم كيو-1 بريديتور وإم كيو-9 ريبر كان يجري تشغيلها من مواقع بعيدة مثل ولاية نيفادا الأمريكية، على بعد آلاف الكيلومترات من منطقة القتال. لكن هل يعني هذا أن البُعد الجسدي يُترجَم إلى بُعدٍ نفسي بالضرورة؟
يقول كالينبورن: "لم تتضح التداعيات النفسية لحرب الطائرات المسيّرة بعد، ولا تزال تثير جدلاً كبيراً. إذ يجادل العديد من الأكاديميين بأن المسيرات تُحوّل الحرب إلى لعبة فيديو، حيث يستطيع الجنود القتل بسهولة دون ارتباط بالحياة المفقودة، وبالتالي تقليل أي تأنيب ضمير محتمل. بينما تكشف بعض الأبحاث الأخرى -وخاصةً الأبحاث الحديثة- أن مشغلي الطائرات المسيّرة عادةً ما يكونون أكثر ارتباطاً بالوقائع على الأرض".
وأردف كالينبورن: "يُصبح الجنود جنوداً حتى يحموا البلاد ويخدموا في الجيش. ومن الضروري أن تشجعهم تدريباتهم وخبراتهم على التواصل بالجنود المحيطين بهم، وهذا هو ما يحدث عادةً. ولا شك أن مشاهدة زميل من معسكر التدريب يخاطر بحياته في منطقة حرب -على بعد آلاف الكيلومترات- قد تجعل مشغلي المسيرات مرتبطين بالأرواح المفقودة أو التي تم إنقاذها بصورةٍ مباشرة، وذلك أكثر من مشغلي المدفعية على سبيل المثال. إذ قد يكون مشغل المدفعية قريباً من الأحداث جسدياً على الأرض، لكنه لا يملك وسيلةً لرؤية نتائج انفجار قذائفه في مواقع العدو".
مقاتلو فاغنر تهيبوا قتل الجنود على الأرض ولكن أسقطوا الطائرات الروسية المحلقة في السماء
وتتجاوز الحرب بالتحكم عن بعد حدود الطائرات المسيّرة المسلحة. فأثناء تمرد فاغنر ضد موسكو خلال الصيف الجاري، أوضحت مجموعة المرتزقة بصورةٍ قاطعة أنها لا ترغب في فتح النار على الجنود الروس عند نقاط التفتيش. ولم يحدث قتال بري مباشر بين الروس. لكن قوات فاغنر فتحت النار على طائرة روسية، وأسقطت سبع مروحيات وطائرة ثابتة الجناحين، ما أسفر عن مصرع 29 من أفراد الطاقم الجوي إجمالاً.
ولم يكن هناك تفسير علني لسبب إسقاط الطائرات. لكن إحدى النظريات تقول إن النظر للطائرة باعتبارها مجرد طائرة -واتخاذ القرار بإسقاطها- يُعَدُّ أسهل من التفكير في الأشخاص الموجودين بداخلها. كما يصبح قرار القتل أكثر انفصالاً عن الواقع عندما تكون الطائرة مجرد نقطة على الرادار في شاشة حاسوب.
تستطيع الدول المخاطرة بإرسال المركبات المسيرة، مثل الطائرات المسيرة، في مهمات لا تُكلّف بها الطائرات المأهولة عادة. لكن هذا الأمر يمثل سلاحاً ذا حدين، لأن الخصوم يميلون إلى فتح النار على المركبات الجوية غير المأهولة بدرجةٍ أكبر.
ولأن أمريكا هي الأكثر استخداماً لهذه المسيرات حول العالم، فلقد تحولت بدورها لنقطة ضعف يمكن لخصوم واشنطن استهدافها دون أن يخشوا رد فعل أمريكياً.
ويُمكن القول إن تمرد فاغنر أظهر أن إطلاق النار على المركبات المأهولة قد يُصبح أسهل أيضاً، وذلك في حال حوّلتها التقنية إلى مجرد أهداف.