شهدت الحرب التجارية بين الصين وأمريكا فصلاً جديداً من التصعيد، بعد تقييد بكين صادرات معادن نادرة، أبرزها الغاليوم، فما قصة المعدن "المعجزة"؟ وفيم يستخدم؟
الصين وأمريكا هما الآن القوتان الأعظم على المسرح الدولي، ورغم تسبب الحرب الباردة بينهما في وضع الاقتصاد العالمي تحت مزيد من الضغوط، إلا أنه لا يبدو لذلك التنافس المحموم بينهما نهاية وشيكة، فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا والتحالف الوثيق بين موسكو وبكين، لم يعد هناك شك في سعي الولايات المتحدة إلى "احتواء" التنين الصيني.
وفي ظل سعي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تحقيق هدفها الرئيسي وهو عرقلة الصين، أصدرت واشنطن قرارات تحظر وصول بكين إلى رقائق أشباه الموصلات، خاصةً الصنف المتطور المستخدم في الحواسيب الفائقة والذكاء الاصطناعي، فجاء الرد الصيني بتقييد تصدير معادن نادرة، أبرزها الغاليوم، إلى الغرب.
لماذا الغاليوم معدن "معجزة"؟
والغاليوم عبارة عن عنصر كيميائي في الجدول الدوري، ورمزه Ga، ورقمه الذري 31، ولا يوجد معدن الغاليوم في الطبيعة منفرداً أو بشكل حر، ولكنه يتواجد على شكل ملح كاليوم (III) بكميات قليلة في مناجم البوكسيت والزنك.
ويتحول إلى سائل في درجة حرارة الغرفة العادية؛ إذ ينصهر في درجة حرارة 29.8 مئوية ويبقى سائلاً لدرجة حرارة 2403 مئوية، ومن خصائصه العجيبة الأخرى أنه يستطيع إصابة أي معدن صلب بالهشاشة؛ لذلك يعد من أغرب المعادن أو أشباه الفلزات بشكل عام، وتستخدم درجة انصهاره كدرجة قياسية.
ومنذ اكتشافه عام 1875، كان الاستخدام الرئيسي للغاليوم في أجهزة قياس درجات الحرارة المرتفعة، وفي تحضير سبائك معادن ذات خصائص غير اعتيادية من ناحية الثباتية، أو سهولة الصهر، وبعضها سائل في درجة حرارة الغرفة أو أقل، لكن منذ بدأت حقبة أشباه الموصلات، اكتسب الغاليوم أهمية خاصة للغاية.
أين يوجد الغاليوم؟ هو مُبعثر الانتشار في الطبيعة، وهو عنصر نادر للغاية، إذ يوجد في الصخور البركانية بنسبة لا تتجاوز 11%، ويكون على صورة شائبة في خامات الزنك والحديد والألومنيوم والكروم والنحاس، وقلما يوجد في أي خام بكميات أكبر من 0.01%، لذلك كله لا يتجاوز إجمالي الإنتاج العالمي منه بضعة آلاف الأطنان سنوياً.
الغاليوم لونه أبيض وهو معدن لين، ينصهر عند درجة أعلى من درجة حرارة الغرفة قليلاً (درجة انصهاره أقل قليلاً من 30 درجة مئوية)، وعندما ينصهر يتحول إلى سائل أبيض فضي يشبه الزئبق السائل، وضغط بخاره منخفض، ويزداد حجمه (مثل الماء) عندما يتصلب، ويصل الغاليوم إلى الغليان عند درجة حرارة مرتفعة للغاية تبلغ 2403 درجة مئوية، أي أنه يبقى سائلاً في مجال حراري قدره نحو 1500 درجة، وهذا أوسع مجال من درجات الحرارة يبقى فيه عنصر سائلاً بين عناصر الجدول الدوري جميعها.
ولهذه الخاصية العجيبة أهمية خاصة جداً؛ حيث يستعمل في موازين حرارة ذات استعمالات خاصة بدرجات الحرارة العالية، كما يستعمل نصف ناقل، مثال ذلك مع الفسفور والزرنيخ في صنع الديودات diodes الضوئية، وبالتالي فإنه يعتبر مكوناً رئيسياً في صناعة أشباه الموصلات.
لماذا قررت الصين حظر تصديره؟
يتم إنتاج حوالي 80% من إجمالي إنتاج العالم من معدن الغاليوم و60% من الجرمانيوم في الصين، وفقاً للجمعية الأوروبية لتحالف المواد الخام الحرجة (CRMA)، ولا يوجد سوى عدد قليل من الشركات تنتج تلك المعادن النادرة بالنقاء المطلوب، منها شركة واحدة فقط في أوروبا وأخرى في اليابان، بينما باقي تلك الشركات يوجد في الصين. ولا غنى لصناعات الإلكترونيات المتقدمة، وبخاصة أشباه الموصلات، عن الغاليوم والجرمانيوم.
كانت الصين قد صدرت 94 طناً من الغاليوم في عام 2022، بزيادة قدرها 25% عن العام السابق، وفقاً للجمارك الصينية. بينما بلغت قيمة واردات الولايات المتحدة من رقائق معدن الغاليوم وزرنيخيد الغاليوم (GaAs) في عام 2022 حوالي 3 ملايين دولار و200 مليون دولار على التوالي، وفقاً لهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية.
وفي هذا الإطار، أدت القرارات التي اتخذتها الصين لتقييد صادرات تلك المعادن الضرورية لإنتاج أشباه الموصلات والسيارات الكهربائية والصناعات المتقدمة تقنياً، إلى ارتفاعات كبيرة في أسعار تلك المعادن، وهو ما قد يتسبب في تفاقم الاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية.
كانت وزارة التجارة الصينية قد أعلنت أنها ستسيطر، اعتباراً من أول أغسطس/آب المقبل، على صادرات ثمانية منتجات من الغاليوم وستة منتجات من الجرمانيوم لحماية أمنها القومي ومصالحها، في خطوة تعتبر رداً على جهود إدارة جو بايدن المتصاعدة للحد من التقدم التكنولوجي للصين.
بيتر آركيل، رئيس اتحاد الصين العالمي للتعدين، قال لرويترز: "ضربت الصين قيود التجارة الأمريكية في موضع مؤلم"، مضيفاً: "الغاليوم والجرمانيوم مجرد نوعين من المعادن الثانوية لكن المهمة جداً لطائفة من منتجات التكنولوجيا، والصين هي المنتج المهيمن لمعظم هذه المعادن. والاقتراح بأن دولة أخرى قد تحل محل الصين في المدى القصير أو حتى على المدى المتوسط ضرب من الخيال".
أما لماذا اتخذت الصين قرار حظر تصدير تلك المعادن النادرة الآن، فالإجابة مرتبطة بشكل مباشر بالصراع المشتعل بين واشنطن وبكين، ويرى كل منهما أن الطرف الآخر هو البادئ بهذا الصراع.
فمن وجهة النظر الصينية، بدأت أمريكا الحرب التجارية وبالتالي لابد أن ترد بكين. وفي هذا السياق، كان قرار إدارة بايدن بحظر وصول أشباه الموصلات المتقدمة إلى الصين أحد أكثر الخطوات الأمريكية تهديداً للصين ونموها الاقتصادي، وبخاصة في مجال التكنولوجيا المتقدمة.
فضوابط التصدير التي كانت إدارة بايدن في ديسمبر/كانون الأول 2022 لم تحظر فقط بيع أشباه الرقائق المتطورة إلى الصين، بل حظرت أيضاً بيع المعدات المتطورة اللازمة لصنعها، وكذلك المعرفة في هذا المجال بشكل عام. وتدعم رقائق أشباه الموصلات، التي لها عرض بسكويت الرقاقة وحجم الظفر، كل شيء من هواتفنا الذكية إلى أنظمة الأسلحة المتقدمة التي خصّتها الولايات المتحدة بالذكر في ملفها للإعلان عن قيود التصدير.
والأهم من ذلك أنه لا غنى عنها لتقنيات المستقبل؛ مثل الذكاء الاصطناعي والسيارات ذاتية القيادة، إضافة إلى كل صناعة تقريباً من الأدوية إلى الدفاع، وهذه هي أكثر نقطة تستطيع القيود الأمريكية أن تؤذي من خلالها الصين.
هل وجدت الصين سلاحاً تضر به أمريكا؟
يرى أغلب المراقبين أن قرار الصين الأخير بحظر المعادن الأرضية النادرة، وخصوصاً الغاليوم والجرمانيوم، ربما يكون أقوى خطوات بكين في مواجهة قرارات إدارة بايدن الخاصة بأشباه الموصلات.
وكانت إدارة الرئيس الصيني شي جين بينغ قد ردت على قرارات واشنطن بشأن أشباه الموصلات، عبر حزمة دعم تزيد قيمتها على تريليون يوان (143 مليار دولار) لصناعة أشباه الموصلات لديها، في خطوة كبيرة نحو تحقيق هدف الاكتفاء الذاتي من الرقائق ومواجهة التحركات الأمريكية التي تهدف إلى إبطاء تقدمها التكنولوجي.
لكن خطوة حظر تصدير المعادن النادرة، خصوصاً الغاليوم والجرمانيوم، التي وصفها تقرير لمجلة National Interest الأمريكية بأنها "مخلب التنين"، تبدو أكثر الخطوات الصينية إيلاماً لواشنطن في تلك الحرب التجارية حتى الآن. وتلى التحرك الصيني زيارات من مسؤولين رفيعي المستوى في إدارة بايدن إلى بكين، رغم عدم وجود ربط علني بين تلك الأحداث.
إذ قامت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، بزيارة إلى بكين في إطار البحث عن أرضية مشتركة بين القوتين الأعظم لإعادة التعاون بينهما في المجالات الحيوية للعالم أجمع، وبخاصة التغير المناخي، لكن لم ينتج عن تلك الزيارة ولا زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن قبلها ثم مبعوث المناخ الأمريكي جون كيري بعدها نتائج ملموسة بعد.
وكانت الصين قد دعت الولايات المتحدة إلى اتخاذ "إجراءات عملية" رداً على "مخاوفها الكبيرة" بشأن العقوبات الاقتصادية المفروضة على الشركات الصينية، وذلك بعدما اختتمت يلين اجتماعات استمرت أكثر من عشر ساعات مع مسؤولين كبار في بكين.
في الوقت نفسه، انخفضت أسهم قطاع التكنولوجيا 1.4% مع انخفاض شركة إيه.إم.إس أوسرام السويسرية لصناعة أجهزة الاستشعار 13.5% لتسجل أسوأ أداء يومي منذ فبراير/شباط كرد فعل مباشر على الإعلان عن القيود صينية على تصدير الغاليوم، رغم أن تلك القيود لن تدخل حيز التنفيذ قبل الأول من أغسطس/آب المقبل.
لكن الصين لا تهدف إلى رفع أسعار المعادن النادرة التي تسيطر على معظم إنتاجها، وذلك حتى لا تدفع الأسعار المرتفعة جهود دول أخرى تسعى إلى تسريع إنتاج تلك المعادن محلياً. فمنذ 13 يوليو/تموز، انخفضت أسعار المعادن الأرضية النادرة إلى أقل مستوى لها منذ 2020، على الرغم من أن بكين كانت قد أعلنت عن تقييد تصديرها قبل 10 أيام.
انخفاض الأسعار له أسباب متعددة منها تباطؤ الطلب من جانب شركات الطاقة الخضراء وقطاع السيارات، إضافة إلى زيادة المعروض بشكل لافت من جانب أكبر منتج لتلك المعادن، أي الصين.
دان مورجان، محلل أسترالي، قال لرويترز إن "الطلب ليس قوياً وأضعف نقاطه يأتي من جانب توربينات الرياح المولدة للطاقة. ولو أنك تمتلك 80% من سوق المعادن الأرضية النادرة، فأنت تمتلك عصا ذهبية للتحكم في السعر، فتجني الأرباح لكن في الوقت نفسه لا تشجع أي طرف آخر في بقية العالم على بناء القدرة على إنتاج تلك المعادن".
الخلاصة هنا هي أن الصين ربما تكون قد وضعت يدها أخيراً على السلاح الأكثر فتكاً في الحرب التجارية المشتعلة مع الولايات المتحدة، وهو المعادن العجيبة وبخاصة "الغاليوم"، فهل يكون هذا السلاح سبباً في إقناع واشنطن بالتعاون، أم تسير الأمور أكثر على طريق التصعيد؟