كانت الصين قد أوقفت العمل مع أمريكا بشأن جميع القضايا، ومنها ملف تغير المناخ، لكن يبدو أن صيف 2023 الحارق قد يكون سبباً في أن تنحّي واشنطن وبكين صراعهما مؤقتاً لإنقاذ الموقف، فهل تفعلان ذلك قبل فوات الأوان؟
فموجة الحرارة شديدة الارتفاع، والتي يشعر بها جميع سكان النصف الشمالي من الكرة الأرضية، لا تبدو لها نهاية قريبة، حيث حذرت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، وهي وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، من أن موجة الحر التي تؤثر على البحر الأبيض المتوسط ستشتد، الأربعاء 19 يوليو/تموز، كما أنه من المرجح أن تستمر درجات الحرارة المرتفعة للغاية حتى الشهر المقبل في بعض أجزاء من قارة أوروبا.
صيف 2023 يدق ناقوس الخطر بشدة
كانت درجات الحرارة المرتفعة بشكل ملحوظ، والتي تصاحب فصل الصيف سنوياً، قد بدأت قبل حتى أن يبدأ فصل الصيف رسمياً في 21 يونيو/حزيران من كل عام، إذ شهدت الأيام الأحد عشر الأولى من شهر يونيو/حزيران 2023 أعلى درجات حرارة مسجلة لهذا الوقت من العام بهامش كبير، وفقاً لتحليل صدر يوم الخميس 15 يونيو/حزيران من قِبل خدمة كوبرنيكوس لتغير المناخ التابعة للاتحاد الأوروبي، كما وجد العلماء أن هذه هي المرة الأولى التي تتجاوز فيها درجات حرارة الهواء المرتفعة خلال شهر يونيو/حزيران مستويات ما قبل الصناعة بأكثر من 1.5 درجة مئوية.
كما حُطِّمَت أيضاً العديد من سجلات درجات الحرارة على الإطلاق في شهر يونيو/حزيران في سيبيريا، حيث ارتفعت درجات الحرارة فوق 100 درجة فهرنهايت (37.7 درجة مئوية)، وواجهت أجزاء من أمريكا الوسطى، وكذلك تكساس ولويزيانا، درجات حرارة شديدة. وشهدت بورتوريكو حرارة شديدة تجاوزت 120 درجة فهرنهايت (48.8 درجة مئوية)، وفقاً لخدمة الطقس الوطنية.
وكانت مناطق جنوب شرقي آسيا قد شهدت "أقسى موجة حرارة مسجلة"، بينما تسببت درجات الحرارة القياسية بالصين في نفوق الحيوانات والمحاصيل، وأثارت مخاوف بشأن الأمن الغذائي.
كما تشهد بلاد شمال إفريقيا حالياً درجات حرارة عالية، وسجلت الصين "مؤقتاً" أعلى درجة حرارة لها على الإطلاق يوم الأحد 16 يوليو/تموز، وهي 52.2 درجة مئوية في شينج يانغ، وفقاً لمكتب الأرصاد الجوية البريطاني.
وفي الوقت نفسه، يشهد عشرات الملايين من الناس في جنوب غرب الولايات المتحدة أيضاً حرارة شديدة، حيث لاحظ الخبراء طول موجة الحر وكذلك شدتها، كما تم تسجيل درجات حرارة عالية في مناطق شمال الكرة الأرضية، حيث يحذر مسؤولون من مخاطر البقاء في الظروف الحارة، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
هذه البيانات وغيرها تعكس أمراً واقعاً يشعر به الناس جميعاً من الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط إلى الصين والهند وباقي دول آسيا، وفي أمريكا الشمالية وأوروبا، وصولاً إلى سيبريا في أقصى الشمال، وهو ما يدق ناقوس الخطر بشدة بشأن المناخ وتغيراته المرعبة.
بريان ماكنولدي، الباحث الأول المساعد في كلية علوم البحار والغلاف الجوي والأرض بجامعة ميامي، كان قد وصف ارتفاع درجات حرارة المحيطات والجو "بالجنون التام". وأضاف: "الناس الذين يطلعون على هذه الأمور باستمرار لا يمكنهم تصديق أعينهم. هناك شيء غريب للغاية يحدث"، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
تغير المناخ حقيقة مفزعة، والسبب معروف!
على مدى عقود طويلة، ظل نشطاء البيئة وخبراء المناخ يحذرون من الخطر الداهم الذي يمثله الاحتباس الحراري وتغير المناخ بشكل عام، دون أن تجد تلك التحذيرات صدى على المستوى السياسي. لكن خلال السنوات القليلة الماضية، تغير الموقف بعد أن أصبح الطقس المتطرف وظواهره أمراً واقعاً يعاني منه الجميع، فقراء وأغنياء.
ومصطلح التغير المناخي معنيّ بوصف التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية للأرض. وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مسبّبةً فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في الأماكن نفسها؛ ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة أضرار ضخمة وخسائر على جميع المستويات.
ومن المهم هنا التأكيد على أن قضية التغير المناخي الناجم عن الاحتباس الحراري ترجع إلى أكثر من قرن على الأقل، إلا أنها ظلت، حتى بضع سنوات مضت، ملفاً ينشغل به نشطاء البيئة وخبراء المناخ دون أن يمثل هاجساً للسياسيين والمسؤولين، ولا حتى للرأي العام حول العالم.
فخلال تلك الفترة لم يكن هناك تأثير لقضية الاحتباس الحراري على الأمن والسلم الدوليين، ومن ثَمّ لم تكن قضية المناخ تمثل أي تهديد لمبدأ السيادة الوطنية للدول من الأساس. لكن هذا الوضع بدأ يختلف بصورة تدريجية منذ مطلع القرن الجاري، مع ظهور تداعيات التغير المناخي، وانعكاسها على الطقس حول العالم.
والسبب الرئيس وراء تغير المناخ هو الانبعاثات الكربونية التي تنتج عن الأنشطة الصناعية وتتسبب في رفع درجة حرارة الكوكب بصورة متسارعة، لذلك شهدت قمة المناخ في باريس 2015 اتفاقاً كان يعد تاريخياً بين الدول الكبرى على خفض الانبعاثات الكربونية، والهدف عدم زيادة درجة حرارة الكوكب عن 1.5 درجة مئوية بحلول عام 2023.
لكن الاتفاقيات شيء والتنفيذ شيء آخر، فالمصالح أعلى من صوت العقل والخلافات الجيوسياسية بين القوى العظمى، إضافة إلى سطوة الشركات العملاقة، كلها أمور جعلت من التحول إلى الطاقة النظيفة والحد من استخدام الوقود الأحفوري بأنواعه أبطأ كثيراً مما يفترض ومما تم الاتفاق عليه.
وإذا ذكرت الانبعاثات الكربونية، ذكرت الصين وأمريكا على الفور، فكلاهما مسؤول عن 40% من إجمالي تلك الانبعاثات، وبالتالي فإن عليهما مسؤولية مباشرة في تنحية خلافاتهما وصراعهما من أجل السيطرة على العالم جانباً والعمل معاً لإنقاذ الكوكب، فما مدى واقعية هذه الفرضية؟
كان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قد وصف 2021 بأنه يمثل "جرس إنذار" للبشرية قبل أن يفوت أوان إنقاذ الكوكب من تداعيات التغير المناخي، وشهدت قمة المناخ في ذلك العام بالفعل اتفاقاً مفاجئاً بين الصين وأمريكا في آخر لحظة، جاء بمثابة مفاجأة سارة أشاد بها الجميع.
فقد توصلت الصين والولايات المتحدة يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، إلى "إعلان مشترك حول تعزيز التحرك حيال المناخ"، وذلك على هامش أعمال قمة المناخ في اسكتلندا، والتي وُصفت بـ"قمة الأمل الأخير" لكوكب الأرض. وأعلن الموفد الصيني في القمة عن توصل بلاده والولايات المتحدة إلى "إعلان مشترك حول تعزيز التحرك حيال المناخ"، يقر فيه الطرفان بالفارق الموجود بين الجهود الحالية وأهداف اتفاق باريس 2015.
وقال المسؤول الصيني إن الإعلان المشترك يؤكد على أن الاتفاق "يثبت أن التعاون هو السبيل الوحيد للصين والولايات المتحدة"، فيما أعرب الموفد الأمريكي لقمة المناخ جون كيري، في تصريحات أدلى بها بعد نظيره الصيني، عن ارتياحه لـ"خارطة الطريق"، الرامية إلى تحديد "الطريقة التي سنعتمدها للحد من الاحتباس الحراري، والعمل معاً لتحقيق الطموحات على صعيد المناخ".
هل تنحّي الصين وأمريكا خلافاتهما جانباً؟
لكن بعد نحو 9 أشهر من ذلك الاتفاق المفاجئ، قامت نانسي بيلوسي، الرئيسة السابقة لمجلس النواب الأمريكي، بزيارة إلى تايوان، فاستشاطت الصين غضباً وأوقفت جميع أوجه التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، فتايوان تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الصين، وأي تحرك أمريكي يشير إلى احتمال انفصال تايوان يعتبر خطاً أحمر لبكين.
وهكذا توقف التواصل وبالتبعية التعاون بين واشنطن وبكين في جميع الملفات، ومنها وأخطرها ملف التغير المناخي، وأعلنت الصين تمسكها بتصنيفها الأممي "كدولة نامية"، رافضة المشاركة في تمويل "صندوق الأضرار وتعويض الخسائر" للدول النامية عن أضرار المناخ التي تتسبب فيها الدول الغنية.
لكن يبدو أن حرارة صيف 2023 القائظة قد تكون سبباً رئيسياً في إقناع "المذنبين الرئيسيين" بحتمية العمل معاً قبل فوات الأوان. فقد أعادت الصين فتح باب التواصل مع أمريكا، فزار وزير الخارجية أنتوني بلينكن بكين، ثم زارتها أيضاً وزيرة الخزانة جانيت يلين، وأخيراً وصل جون كيري مسؤول ملف المناخ، فهل ستكون القوتان العُظميان الأكبر في العالم، والأكثر تلويثاً له، قادرتين على تبديد التوترات الدبلوماسية للتركيز على الأهداف المناخية الرئيسية؟
وصل كيري، الأحد 16 يوليو/تموز، إلى بكين والتقي نظيره الصيني شيه تشن هوا ومسؤولين آخرين خلال رحلته التي تستغرق 4 أيام، بحسب تقرير لبي بي سي، والهدف هو "زيادة الطموحات والتنفيذ" في مجال العمل المناخي، وضمان نجاح كوب 28، وهو مؤتمر الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ المقرر عقده نهاية العام الجاري.
لكن لم يكن متوقعاً أن تسفر زيارة كيري عن أية قرارات ملموسة، إذ ينظر إليها كمجرد بداية للمحادثات، التي شهدت نقاشات حول التحديات المشتركة في مجال تسريع تحولهم إلى الطاقة النظيفة وتقليل انبعاثات الكربون. ويعد البلدان أكبر مستثمرين في الطاقة المتجددة، وتقدم الصين وحدها أكثر من نصف إجمالي الاستثمار في الطاقة المتجددة في العالم، وفقاً لأحد التقييمات.
دان كامين، أستاذ الطاقة في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، أشار إلى أن الصين وأمريكا هما أيضاً أكبر مصدرين لانبعاثات الكربون في العالم، وقال لبي بي سي: "كلاهما يتخذان خطوات كبيرة، بيد أن أياً منهما لم يُظهر انخفاضاً في الانبعاثات حتى الآن".
لكن الواضح هنا هو أن كلتا الحكومتين لا تزالان تكافحان لتحقيق التوازن بين مطالب النمو الاقتصادي وخفض الانبعاثات، ما يؤدي إلى تحركات متناقضة أثارت انتقادات من دعاة حماية البيئة.
فالصراع الجيوسياسي المحتدم بين القوتين الأعظم جعل الصين تعطي الأولوية لأمن الطاقة لديها، وهذا يعني العودة إلى طاقة الفحم، لأنها أكثر موثوقية عند مقارنتها بتقطع طاقة الرياح والطاقة الشمسية، ففي العام الماضي، وافقت الصين على زيادة كبيرة في إنتاج الطاقة من الفحم، وهو ما يعادل الموافقة على محطتين كبيرتين لتوليد الطاقة بالفحم في الأسبوع، وفقاً لأحد التحليلات الغربية. ووجد تحليل آخر أنه في حين أن الطاقة المتجددة تشكل الآن حصة أكبر من إنتاج الطاقة في الصين، فإن الطاقة التي تعمل بالفحم لا تزال ترتفع من حيث القيمة المطلقة بسبب الطلب الهائل.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقد أقرت مؤخراً تشريعين من شأنهما ضخ مليارات الدولارات في الطاقة النظيفة. لكنها وافقت أيضاً على أحد أكبر مشاريع التنقيب عن النفط والغاز في السنوات الأخيرة في ألاسكا.
كما زادت انبعاثات الكربون في الولايات المتحدة في عام 2022؛ حيث استهلكت البلاد المزيد من الغاز الطبيعي خلال الطقس القاسي في ذلك العام، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية.
ويقول البروفيسور كامين: "الولايات المتحدة ليست أفضل حالاً… لذلك كل واحد أمامه طريق طويل ليقطعه، وكل واحد يحتاج إلى تحفيز الآخر، والأهم من ذلك أن البلاد جميعها تراقب إلى أي درجة تكون الولايات المتحدة والصين جادتين تماماً بشأن المناخ".