يشعر جميع سكان الأرض بارتفاع درجة حرارة صيف 2023 بصورة قياسية، فما علاقة أسطول الطائرات الخاصة البالغ أكثر من 23 ألفاً، بملف تغير المناخ واحترار الكوكب؟
وفي الوقت الذي يتناقش فيه مبعوثو المناخ من أكبر دولتين مُسبِّبتين لانبعاثات الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري حول سبل السيطرة على الكارثة، تخطت درجات الحرارة الأرقام القياسية المسجلة في شهر يونيو/حزيران بالعاصمة الصينية بكين، بينما اجتاحت موجات حر شديدةٌ الولايات المتحدة.
وفي الوقت نفسه، أفادت دراسة ألمانية بأن تأثيرات التغير المناخي على كوكب الأرض ستتضاعف ثلاث مرات بحلول عام 2050، بسبب زيادة السفر الجوي وارتفاع انبعاثات عوادم الطائرات.
كم عدد الطائرات الخاصة في العالم؟
لكن الشق الآخر من الارتباط بين عوادم الطائرات والتغير المناخي يتعلق بالطائرات الخاصة، التي تشير الدراسات إلى أنها تتسبب في انبعاثات مُسببة للاحتباس الحراري بنسبة تزيد على 10 أضعاف، مقارنة بالسفر عبر الطائرات التجارية لكل مسافر، بحسب تقرير لموقع يورونيوز عنوانه "تلوث الطيران الخاص يتضاعف في أوروبا".
وكشفت الدراسة الألمانية، التي نُشرت بمجلة الكيمياء والفيزياء الجوية، أن النفثات التي تنبعث عن محركات الطائرات عموماً (عوادم الطائرات) تحاصر الحرارة التي تشع من سطح الأرض.
وفي ظل تطور تكنولوجيا الطيران، التي يتوقع أن تمكن الطائرات الحديثة من التحليق لارتفاعات أعلى، ستكون نفثات الطائرات بشكل أكثر كثافة، وهو ما سيزيد من تأثير العوادم بشكل أكبر.
وقالت أولريكا بوركهارت، التي شاركت في إعداد الدراسة، إن التوقعات تشير إلى أن زيادة حركة الملاحة الجوية ستؤدي إلى زيادة تأثير انبعاث عوادم الطائرات على التغير المناخي بشكل يفوق تأثير ثاني أكسيد الكربون.
وأضافت ليورونيوز: "وهكذا سيكون للطيران تأثير كبير على المناخ، يتجاوز مساهمة ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات الدفيئة في التسبب بالاحتباس الحراري".
وتتبخر بعض نفثات الطائرات سريعاً إلا أن النوع الآخر منها قد يظل في السماء لأكثر من عشر دقائق، لتنتشر وتشكل غيوماً تشبه السحب، وهو النوع الذي يساهم بشكل أكبر في زيادة الاحتباس الحراري.
وبحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية، تضاعف عدد الطائرات الخاصة في العالم خلال العقدين الماضيين ليزيد على 23 ألف طائرة خاصة، وشهد عاما 2021 و2022 ارتفاعات قياسية في شراء أثرياء العالم للطائرات الخاصة، كما أن صناعة الطائرات الخاصة تشهد نمواً صاروخياً.
وأظهر تقرير للمعهد الأمريكي للدراسات السياسية، أن انبعاثات الطائرات الخاصة تزيد بعشر أضعاف عن نظيرتها من الطائرات التجارية، وهو ما يسهم في نسبة التلوث الناتجة عن السفر جواً بشكل عام، ويطرح مطالبات عديدة بحظر الطائرات الخاصة.
وكشف تقرير آخر صادر عن منظمة السلام الأخضر المهتمة بالبيئة Greenpeace، أن الانبعاثات الضارة بالمناخ والناتجة عن السفر جواً بالطائرات الخاصة تحديداً قد تضاعفت عدة مرات في أوروبا مؤخرا، حيث رصد التقرير أن 5.3 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون قد أطلقتها الطائرات الخاصة في الجو خلال السنوات الثلاث الأخيرة، كما ارتفع بشكل لافت عدد الرحلات بالطائرات الخاصة من 119 ألف رحلة عام 2020 إلى 573 ألفاً في عام 2022.
وهذه الكمية من ثاني أكسيد الكربون تتخطى ما ينبعث من الغاز نفسه من دولة إفريقية يسكنها 46 مليون نسمة خلال عام كامل، وهذه الدولة هي أوغندا.
الصيف الأكثر ارتفاعاً في درجة حرارة الأرض
مصطلح التغير المناخي معنيّ بوصف التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية للأرض. وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مسبّبة فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في الأماكن نفسها، ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة أضرار ضخمة وخسائر على جميع المستويات.
وعلى الرغم من أن العديد من العوامل تُساهم في حدوث الفيضانات على سبيل المثال، فإن ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي نتيجة تغير المناخ يجعل هطول الأمطار الغزيرة أكثر احتمالاً. وارتفعت درجة حرارة العالم بالفعل بنحو 1.2 درجة مئوية منذ بدء عصر الصناعة، وستستمر درجات الحرارة في الارتفاع ما لم تُحدث الحكومات بجميع أنحاء العالم تخفيضات حادة في الانبعاثات الكربونية.
وفي هذا السياق، بدأت الحكومات حول العالم تنتبه إلى مدى خطورة التغير المناخي وتسارعت قمم المناخ لتصبح سنوية، وذلك بعد أن اتفق العالم في مؤتمر باريس عام 2015 على إجراءات تهدف إلى منع زيادة درجة حرارة الكوكب بأكثر من 1.5 درجة مئوية بحلول عام 2030.
لكن الآن يقول خبراء المناخ إنّ هدف الإبقاء على ارتفاع درجات الحرارة العالمية على المدى الطويل في حدود 1.5 درجة مئوية صار بعيد المنال مع فشل الدول في وضع أهداف أكثر طموحاً، على الرغم من ارتفاع درجات الحرارة على اليابسة والبحار لمستويات قياسية منذ شهور.
وكان مبعوثون قد اجتمعوا في بون، أوائل يونيو/حزيران؛ للتحضير لمحادثات المناخ السنوية لهذا العام في نوفمبر/تشرين الثاني، في الوقت الذي تجاوز فيه متوسط درجات حرارة الهواء على سطح الأرض لأيام 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، حسبما ذكرت خدمة كوبرنيكوس المعنية بتغير المناخ والممولة من الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من أن متوسط درجات الحرارة قد ارتفع من قبل لفترات وجيزة فوق مستوى 1.5 درجة مئوية، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يتجاوز فيها هذه العتبة في نصف الكرة الشمالي خلال الصيف الذي بدأ في الأول من يونيو/حزيران، كما تجاوزت درجة حرارة البحر هذا الشهر المستويات المسجلة في أبريل/نيسان ومايو/أيار.
وقالت سارة بيركنز كيركباتريك عالمة المناخ في جامعة نيو ساوث ويلز الأسترالية "لم يعد لدينا مزيد من الوقت، لأن التغيير يستغرق وقتاً"، بحسب رويترز.
وتجاوزت درجات الحرارة في مناطق من أمريكا الشمالية المتوسط الموسمي للشهر الجاري، بعشر درجات مئوية. وغطى الدخان الناتج عن حرائق الغابات كندا والساحل الشرقي للولايات المتحدة بضباب خطير. وبلغت تقديرات الانبعاثات الكربونية مستوى قياسياً عند 160 مليون طن متري.
وسجلت الهند، وهي واحدة من أكثر المناطق تأثراً بتغير المناخ، زيادة في عدد الوفيات بسبب استمرار ارتفاع درجات الحرارة، كما سجلت إسبانيا وإيران وفيتنام ارتفاعاً شديداً في درجات الحرارة، مما أثار مخاوف من أن يصبح صيف العام الماضي، الذي أسقط وفيات، أمراً معتاداً.
ارتفاع حرارة سطح البحر
الخلاصة هنا هي أن الحرارة الخانقة التي يعاني منها العالم خلال صيف 2023 قد لا تكون الأكثر ارتفاعاً في تاريخ الكوكب، لكن بسبب تداعيات التغير المناخي، الذي تساهم فيه الطائرات الخاصة بنسبة لافتة، فهذه الحرارة القياسية قد تكون الأمر الواقع الجديد.
ولا يتوقف الأمر على حرارة الأرض، إذ بلغ المتوسط العالمي لدرجات حرارة سطح البحر 21 درجة مئوية في أواخر مارس/آذار الماضي، وظل عند مستويات قياسية طوال شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار.
بيرس فورستر، أستاذ فيزياء المناخ في جامعة ليدز، قال إن ارتفاع درجة حرارة الأرض هو العامل الرئيسي، لكن الأسباب تضمنت أيضاً ظاهرة النينو وتراجع الغبار الصحراوي الذي يهب فوق المحيط واستخدام وقود منخفض الكبريت للسفن، وأضاف فورستر لـ"رويترز": "لذلك في المجمل، تتعرض المحيطات لضربة رباعية… هذا مؤشر على أشياء قادمة".
وقالت أناليسا براكو عالمة المناخ في معهد جورجيا للتكنولوجيا، إن ارتفاع درجة حرارة البحار قد يعني أيضاً تراجعاً في هبوب الرياح وهطول الأمطار، مما يخلق حلقة مفرغة تؤدي إلى مزيد من الحرارة.
وأضافت أنه على الرغم من أن درجات حرارة البحر المرتفعة هذا العام ناتجة عن "مزيج مثالي" من الظروف، فإن التأثير البيئي ربما يستمر، وأوضحت أن "استجابة المحيطات ستكون بطيئة جداً ،إذ إنها ستراكم (الحرارة) ببطء، لكنها ستحافظ عليها أيضاً لفترة طويلة جداً".
ويقول خبراء المناخ إن نطاق وتواتر الطقس المتطرف آخذان في الازدياد، وشهد هذا العام أيضاً حالات جفاف في أنحاء العالم، فضلاً عن إعصار نادر أودى بحياة المئات في إفريقيا.
ومؤخراً أصبحت المعلومات والحقائق الخاصة بالتغير المناخي ومسبباته متاحة للجميع وليست محل جدال، فالدول الغنية، بمصانعها ومشاريعها الضخمة، تتحمل الجانب الأكبر من المسؤولية عن تغير المناخ، بينما يدفع الفقراء حول العالم الثمن.
تعتبر الصين الدولةَ الأولى عالمياً من حيث الانبعاثات الكربونية المسؤولة عن ظاهرة الاحتباس الحراري، تليها الولايات المتحدة في المرتبة الثانية. ويمثل البلدانِ معاً نحو 40% من إجمالي التلوث بالكربون الذي يؤدي إلى التغير المناخي وتوابعه الكارثية على الطقس حول العالم، ويليهما الاتحاد الأوروبي ثم الهند وروسيا.
ورغم الوعود المتكررة من جانب بكين وواشنطن، وغيرهما من الدول الكبرى، بالعمل على تخفيض تلك الانبعاثات الكربونية وغيرها مثل غاز الميثان، فإن تلك الدول الصناعية لا تلتزم بتطبيق تلك الوعود في نهاية المطاف، لأسباب متنوعة، أبرزها التنافس الاقتصادي والاعتماد على الوقود الأحفوري من نفط وغاز وفحم أيضاً، إلى جانب التعقيدات السياسية التي يخشاها قادة تلك الدول، وأبرزها الصدام مع الشركات الكبرى.