وجدت أحزاب اليمين المتطرف في الأحداث التي اجتاحت فرنسا بعد مقتل الفتى "نائل" برصاص شرطي فرصة "سانحة" لتكثيف حملاتها المعادية للهجرة، فإلى أين تتجه الدعوات للتخلص من المهاجرين جميعاً؟
كان "نائل"، الذي يبلغ من العمر 17 عاماً فقط وله أصول جزائرية، قد تعرّض للقتل، يوم 27 يونيو/حزيران 2023، برصاص عنصر شرطة بمدينة نانتير (بالضاحية الغربية لباريس) على خلفية عدم امتثال الضحية لتعليمات دورية مرورية بالتوقف.
وتسببت الجريمة في اندلاع احتجاجات غاضبة عمّت أنحاء فرنسا واتخذت الحكومة الفرنسية عدداً من القرارات للتعامل مع الأزمة، التي أجبرت الرئيس إيمانويل ماكرون على قطع زيارته لبروكسل لحضور قمة الاتحاد الأوروبي تأجيل زيارة له كانت مقررة إلى ألمانيا، وذلك لمتابعة الموقف الملتهب.
اليمين المتطرف وأحداث فرنسا
على الرغم من أن العنصرية هي المتهم الأول في جريمة مقتل "نائل"، فإن قادة اليمين الشعبوي، ليس فقط في فرنسا ولكن في أوروبا ككل، ركزت اهتمامها على أحداث العنف التي صاحبت الاحتجاجات اعتراضاً على مقتل الفتى "نائل"، معتبرة أن الحل الوحيد هو منع الهجرة وترحيل المهاجرين من البلدان الأوروبية.
زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، اتهمت الحكومة الفرنسية بتحويل البلاد إلى "جحيم" كانت قد توقعته، وذلك في أول خطاب لها في البرلمان مع انحسار الاحتجاجات في البلاد.
وقالت لوبان أمام البرلمان: "الحقيقة أنكم لم ترغبوا في سماع أي من التحذيرات". ويشكل نواب حزبها وعددهم 89، أكبر حزب معارض في البرلمان منذ انتخابات العام الماضي، وأضافت: "توقعنا ما يحدث على الرغم من الصعوبات الشديدة.. للأسف كنا على حق".
ويعكس هذا الحديث ما تحذر منه لوبان حالياً، ووالدها جان ماري منذ سبعينات القرن الماضي، مما يصفانه بأنه "زوال فرنسا" واندلاع "حرب أهلية"، والسبب هو وجود أجانب في فرنسا.
وكررت مارين لوبان الحل الوحيد من وجهة نظرها: "أولاً وقبل كل شيء، نحتاج إلى وقف الهجرة الفوضوية".
فلوبان وغيرها من قيادات اليمين المتطرف يلقون باللوم في الاحتجاجات الواسعة والاشتباكات العنيفة، على الفرنسيين من أصول مهاجرة، معظمها من مستعمرات فرنسية سابقة في إفريقيا، استقرت في ضواحي بلدات ومدن منذ الستينيات.
وبالرغم من اشتعال أعمال الشغب على خلفية اتهامات بممارسة الشرطة القسوة والعنصرية إثر مقتل "نائل"، وهو من أصول جزائرية في باريس، يشعر العديد من المحللين بأن وعد اليمين المتطرف بقمع حازم للجريمة والهجرة، يمكن أن يجذب مزيداً من الأتباع، بحسب تقرير لموقع فرانس24.
وقال أوليفييه بابو، المؤسس المشارك لمعهد سابينز للدراسات الذي يميل إلى اليمين، لوكالة الأنباء الفرنسية: "أعتقد أننا سنرى زيادة بعدة نقاط لحزب التجمع الوطني في امتداد للمكاسب اللافتة التي حققها في السنوات القليلة الماضية"، وأضاف: "من دون أن يفعلوا أو يقولوا أي شيء، تساعدهم الأحداث في إقناع جزء من الشعب".
لكن تكرار أحداث العنف والشغب والاحتجاجات العارمة في فرنسا، كما حدث في 2005 وقبلها أيضاً في أكثر من مناسبة، له أسباب كثيرة لا ذنب للمهاجرين أنفسهم بها، بحسب أغلب المراقبين داخل وخارج فرنسا.
صحيفة "دي فولكس كرانت" الهولندية تناولت في تقرير لها أسباب الاضطرابات في فرنسا، وكتبت: "لا يمكن بسهولة تغيير وضع التركيز الشديد للفقر والأقليات العرقية في عدد محدود من الضواحي. ومع ذلك، يمكن اتهام الرئيس ماكرون بتخليه وبسرعة عن الاهتمام بمشاكل هذه الأحياء. ففي وقت مبكر من عام 2018، وضع جانباً تقريراً يتضمن مقترحات طموحة لمحاولة حل هذه المعضلة. غير أن الضواحي تذكر بنفسها دائماً، فهي غير قابلة للنسيان، كما أظهرت الأسابيع القليلة الماضية.
وأضافت الصحيفة: "تعشق فرنسا دوماً التذكير بنموذجها الجمهوري: كل الفرنسيين متساوون، بغض النظر عن لون البشرة أو الدين أو الأصل. لكن الفجوة بين هذا الطموح من جهة وممارسة الحرمان والتمييز والعنصرية من جهة أخرى، هي بالضبط ما يجعل الانقسامات الاجتماعية في فرنسا أكثر مرارة. يشعر الشباب في الضواحي بالرفض والاحتقار من قِبل جمهورية لا تستطيع أن ترقى إلى مستوى مُثلها العليا".
صعود اليمين في أوروبا
لكن هذا العداء تجاه المهاجرين ليس قاصراً على فرنسا بطبيعة الحال، بل هو ظاهرة تجتاح أوروبا ككل ونتج عنها صعود صاروخي لأحزاب اليمين، التي باتت تحكم كثير من دول القارة العجوز بالفعل.
وفي هذا السياق، تابع الإعلام الأوروبي أحداث فرنسا، التي أعادت قضية الهجرة إلى قمة أجندة السياسة الأوروبية، في وقت تزداد فيه قوة اليمين الشعبوي في أوروبا عموماً وفق عدد من المعلقين، بحسب تقرير لشبكة DW الألمانية.
إذ وجد اليمين المتطرف في عدد من البلدان الأوروبية في أعمال العنف التي رافقت مقتل "نائل" مناسبة لتأكيد قناعتها بفشل نموذج المجتمع المتعدد الثقافات في أوروبا. وفي هذا السياق، قال القيادي في حزب "البديل من أجل ألمانيا" ديرك نوكيمان: "إنها مسألة وقت فقط"، حتى يحدث (في ألمانيا) انفجار مماثل (لما حدث في فرنسا) بسبب الإحباط والكراهية والعنف وبالتالي "زعزعة بلدنا"، بينما قال ألكسندر فولف، زميله في الحزب، "حقيقة أن هذا يهددنا في ألمانيا".
وفي هذا السياق كتبت صحيفة "ترود" البلغارية (الخامس من يونيو) "ليست فرنسا وحدها هي التي تحترق، ولكن أيضاً سياسة التعددية الثقافية التي تم فرضها لسنوات عديدة والتي أدت إلى هذا التطور رغم الجهود العبثية لإدماج المهاجرين. وكذلك جهود إدماج الجيلين الثاني والثالث بنجاح في الثقافة الوطنية. يحاول الرئيس إيمانويل ماكرون مرة أخرى دفن رأسه في الرمال في انتظار مرور العاصفة".
كان ماكرون قد وعد بتقديم "حلول جوهرية"، قائلاً في اجتماع له في الرابع من يوليو/تموز مع 241 من رؤساء بلديات المدن المتضررة من الاضطرابات التي شلت البلاد، إنه لم يعد هناك مجال لتكرار ممارسات تكرست منذ عقود.
وأكد الرئيس الفرنسي أن الأولوية هي "إعادة النظام والهدوء والوفاق، ومن ثم العمل على معالجة الأسباب الجذرية" لهذه الاحتجاجات العنيفة، غير أن ماكرون لم يقدم أي تصور شامل لحل هذه المعضلة من جذورها.
وكانت صحيفة "دي بريسه" النمساوية الناطقة بالألمانية قد رصدت جذور المشكلة في تقرير لها، جاء فيه: "هذه الاحتجاجات لا يمكن اختزالها في الطابع العرقي أو الأيديولوجي. إنها تعبيرات عن الغضب، والإحباط، والعزلة، والفوضى والطاقة الإجرامية. وهي تقوي الكثير من الفرنسيين في تحيزاتهم ومخاوفهم التي تستفيد منها الأحزاب المتطرفة (..) ومثل كل أسلافه، من الواضح أنه ليس لدى ماكرون حل لإنهاء العنف في الشوارع. في الوقت الحالي يحاول (ماكرون) إعطاء الانطباع بأنه لم يفقد السيطرة. لهذا ينزلق إلى دور القائد الصارم. ولكن إذا تجاوز الحدود الديمقراطية، على سبيل المثال من خلال فرض الحظر على الإنترنت، فإنه يغامر بدخول منطقة خطرة: فهو سيضفي الشرعية على الأساليب الاستبدادية للأحزاب المتطرفة".
إلى أين تتجه الأمور إذاً؟
حقيقة الأمر هنا هي أن الأمور على الأرجح تسير من سيئ إلى أسوأ، والسبب بالأساس هو غياب الإرادة السياسية للتعامل مع جذور المشكلة وأسبابها الحقيقية، فمقتل "نائل" برصاص الشرطة أثار موجة من ردود الفعل في فرنسا وأوروبا، عبر طرح جملة من الأسئلة القديمة الجديدة المرتبطة بعجز الدولة الفرنسية عن إصلاح هذه المؤسسة الخارجة تقريباً عن الرقابة والمرتبطة بنقابات قوية.
ففرنسا بلد يتعرض بشكل دوري لإعصار الاحتجاجات ترافقها عادة دعوات قوية لقمعها، في ظل تنامي التيار اليميني الشعبوي. وتواجه مؤسسة الشرطة سلسلة من الاتهامات بتفشي العنصرية في صفوفها واتباع نهج تمييزي قائم على التصنيف العرقي سواء في عقيدتها أو أساليب التجنيد والتدريب.
وفي السياق ذاته، حذرت أصوات من غض القوى السياسية الطرف عن معالجة هذه المعضلة، داعية إلى أخذ العبرة من الولايات المتحدة وبريطانيا التي شهدت فيها أجهزة الشرطة لإصلاحات متتالية بعد تجاوزات مماثلة. وبعد أزمة "السترات الصفراء" التي شهدت بدورها احتجاجات عنيفة وقمعاً كبيراً من الشرطة، تجددت الانتقادات لعقيدة الشرطة الفرنسية.
كما يُعزى ارتفاع عمليات إطلاق النار المميتة برصاص الشرطة في السنوات الأخيرة إلى إصلاح قانون عام 2017، والذي وسع الظروف التي يمكن فيها للشرطي استخدام سلاحه الناري. ومقتل "نائل" يعد ثالث حالة قتل على يد الشرطة خلال العام الجاري في حوادث توقيف مروري، بينما شهد عام 2022 حوالي 13 حالة قتل من هذا النوع، ومعظم ضحايا هذه الحوادث كانوا من أصول عربية أو سوداء.
وكتبت صحيفة "إن.إير.سي" الهولندية تحليلاً، جاء فيه: "إن حقيقة أن الأشخاص ذوي البشرة الداكنة في الأحياء الهامشية يواجهون عمليات تفتيش تعسفية ووحشية في كثير من الأحيان من قِبل الشرطة وبشكل متكرر أكثر من أي مكان آخر، ويشعرون أيضاً بالتهميش بسبب أشكال أخرى من التمييز يجعل الوضع لا يطاق بالنسبة للكثيرين".
لكن الشرطة الفرنسية قوتها من النقابات التي تتمتع بنفوذ واسع تجعل رجال الشرطة يدينون لها بالولاء من أجل الترقية الوظيفية، كما أن الحكومات المتعاقبة تحسب لها ألف حساب، ما يزيد من مخاوف انفلات هذا الجهاز من المراقبة وبالتالي فقدان السيطرة عليه.
جميع وزراء الداخلية الذين حاولوا إصلاح جهاز الشرطة دفعوا ثمن محاولتهم غالياً، وآخرهم كان كريستوف كاستانير الذي قدم مشروع إصلاح يمنع استعمال الخنق أثناء اعتقال الأشخاص وكذلك إصلاح هيئة مراقبة الشرطة "إي.جي.بي.إن" والتي يُعتقد على نطاق واسع أنها لا تتمتع بالاستقلالية الكافية وأن تحقيقاتها تطبعها المحاباة تجاه الشرطة. مشروع كاستانير وُوجه برفض نقابات الشرطة وبعدها تم تعيين الوزير الحالي جيرالد دارمانان خلفاً له.
الخلاصة هنا هي أنه في فرنسا لا يبدو أن ثمة تغييرات ذات معنى يمكن أن يحدث، رغم وعود ماكرون، بينما في أنحاء أوروبا يستغل اليمين المتطرف الفرصة للتأكيد على أن أوروبا للأوروبيين فقط ولا مكان فيها للمهاجرين أو للثقافات المختلفة.