تَطوّر نفوذ الهند وتأثيرها في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة بشكل لافت، فكيف حدث هذا؟ ولماذا لا تمانع أمريكا هذا التمدد، عكس الموقف من الصين وروسيا؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية تناولت هذه القضية في تحليل عنوانه "الهند تصبح قوة شرق أوسطية"، أعده ستيفن كوك، زميل أول لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، الذي يعتبر أبرز المعاهد البحثية ذات التأثير في رسم السياسة الخارجية لواشنطن.
وتاريخياً كانت منطقة الشرق الأوسط ملعباً أمريكياً خالصاً، لكن قوى كبرى أبرزها الصين وروسيا قد أصبحت ذات حضور طاغٍ في شؤون المنطقة خلال السنوات الأخيرة، وانعكس ذلك جلياً في الوساطة الصينية الناجحة بين السعودية وإيران مؤخراً.
علاقات الهند وإسرائيل
وألقى تحليل كوك الضوء على التغير اللافت الذي طرأ على نظرة الهند نفسها إلى الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة، رغم أنه بطبيعة الحال كانت الهند وبلدان الشرق الأوسط متشابكة بالفعل من نواحٍ عدة.
إذ كانت هنالك علاقات عسكرية وسياسية ناشئة بين الهند وإسرائيل، كما لم يكن بإمكان المرء أن يسافر إلى منطقة الخليج دون أن يلحظ العمال الوافدين من ولاية كيرلا الهندية، الذين وفَّروا الأيدي العاملة التي تنتشر في كثير من بلدان الخليج.
وكانت الهند أيضاً تستورد الكثير من النفط من الشرق الأوسط، لكن كوك يرى أنه قبل 10 سنوات، بدا أن المسؤولين والجنرالات وحتى المحللين الهنود لم يكونوا يريدون الاضطلاع بدور أكبر في منطقة الشرق الأوسط.
لكنَّ الأمور تغيَّرت خلال السنوات العشر الأخيرة، وفي حين أنَّ المسؤولين والمحللين الأمريكيين مهووسون بكل خطوة دبلوماسية تقوم بها بكين، وينظرون إلى الاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط بارتياب، تتجاهل واشنطن أحد التطورات الجيوسياسية الأكثر إثارة للاهتمام في المنطقة منذ سنوات، وهي: بروز الهند باعتبارها فاعلاً كبيراً في الشرق الأوسط.
ولعل العلاقات بين الهند وإسرائيل هي أكثر علاقات نيودلهي تطوراً في المنطقة. ومع أنَّ الهند اعترفت بإسرائيل عام 1950، لم تُقِم الدولتان علاقات دبلوماسية طبيعية حتى عام 1992. وقد عمَّقتا علاقتهما منذ ذلك الحين، خصوصاً في السنوات الأخيرة، وفي عام 2017 كان رئيس الوزراء ناريندرا مودي أول زعيم هندي يزور إسرائيل. وزار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الهند في العام التالي.
وبالإضافة إلى الأبهة التي اتسمت بهما هاتان الزيارتان، تطوَّرت العلاقات الهندية الإسرائيلية بسرعة في مجموعة من المجالات، لاسيما التكنولوجيا الفائقة والدفاع. فوفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، كانت إسرائيل بين أكبر 3 موردين للسلاح إلى الهند في عام 2021، وتشير تقارير إخبارية هندية مؤخراً إلى أنَّ البلدين يبحثان الإنتاج المشترك لمنظومات أسلحة.
كان مجتمع الأعمال الهندي في الماضي يتجنَّب أيضاً الاستثمار في إسرائيل، بالنظر إلى صغر حجم السوق الإسرائيلي وسياساتها المثيرة للجدل (بالنسبة لكثيرين في الهند)، لكنَّ ذلك أيضاً ربما يكون في خضم التغيُّر.
ففي عام 2022، فازت مجموعة Adani "أداني" وشريك إسرائيلي بمناقصة للاستحواذ على ميناء حيفا، مقابل 1.2 مليار دولار. وهنالك أيضاً مفاوضات جارية لإبرام اتفاقية تجارة حرة بين الهند وإسرائيل. وبطبيعة الحال، فإنَّ العلاقة الهندية الإسرائيلية معقدة، إذ تبقى الهند راسخة في دعمها للفلسطينيين، ولديها علاقات ودية مع إيران، التي تشتري منها نيودلهي كميات كبيرة من النفط، وتميل النخب الهندية إلى النظر لإسرائيل عبر منظور تجربة بلدهم الاستعمارية.
حضور هندي لافت في دول الخليج ومصر
أما فيما يتعلَّق بالخليج فتبحث الإمارات والسعودية بقوة عن سبل لتوسيع العلاقات مع الهند. ويُعَد هذا تغيُّراً كبيراً، لأنَّ كليهما، لاسيما السعودية، لطالما تحالفت مع باكستان. ينبع التحول نحو الهند جزئياً من مصلحة مشتركة في احتواء ما يراه الجانبان "تطرفاً" لدى بعض الجماعات المسلحة، لكنَّ الدافع الأكبر اقتصادي.
إذ يرى الإماراتيون والسعوديون فرصاً في بلد يبلغ تعداده 1.4 مليار نسمة، ويقع على بُعد أقل من 4 ساعات بالطائرة، كانت النتائج إيجابية حتى الآن، فخلال الـ11 شهراً الأولى من اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين الهند والإمارات، والتي دخلت حيز التنفيذ في مايو/أيار 2022، بلغت التجارة غير النفطية بين البلدين 45 مليار دولار، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 7% تقريباً مقارنةً بالعام السابق.
ويُطوِّر الهنود والإماراتيون علاقاتيهما أيضاً من خلال ما تدعوه واشنطن مجموعة "I2U2"- مجموعة تضم إسرائيل والهند والإمارات والولايات المتحدة- التي تسعى للاستفادة من المعرفة التكنولوجية المشتركة، ورأس المال الخاص للتعامل مع الطاقة البديلة والزراعة والتجارة والبنية التحتية والتنمية وغيرها.
من جانبها، تريد السعودية، وهي ثاني أكبر مُورِّد للنفط والغاز إلى الهند، تنمية علاقة الطاقة أكثر من خلال إضافة الطاقات المتجددة إلى مزيج الطاقة. ففي أبريل/نيسان 2023، أفاد موقع Siasat.com الإخباري الهندي بأنَّ الرياض ونيودلهي تناقشان خطة لربط شبكة الطاقة الهندية بالمملكة (والإمارات) عبر كابلات تحت سطح البحر.
ليس واضحاً ما إن كان هذا المشروع الطموح سيرى النور أبداً، لكنَّ تلك المحادثات تشير إلى أنَّ الحكومتين الهندية والسعودية تبحثان عن سبل لزيادة مستوى التجارة الحالي البالغ 43 مليار دولار بين البلدين.
وأخيراً، هنالك مصر، حيث اختتم مودي مؤخراً زيارة إلى القاهرة استمرت يومين. كانت تلك الزيارة، بكل المقاييس، حلقة ضمن مهرجان الحب المصري الهندي المستمر، وجاءت بعد ستة أشهر من حلول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ضيف شرف في احتفال الهند بيوم الجمهورية الرابع والسبعين، في ثالث زيارة له إلى نيودلهي منذ توليه السلطة.
لماذا لا يُغضب الحضور الهندي المتزايد واشنطن؟
على عكس الحال مع إسرائيل والإمارات والسعودية، فإنَّ مستوى التجارة بين الهند ومصر متواضع نسبياً، ويبلغ نحو 6 مليارات دولار. وتسعى السلطات المصرية، التي أدَّت سوء إدارتها الاقتصادية إلى خلق أزمة ديون متفاقمة وخانقة، ومعدل تضخم يبلغ 30%، للحصول على مساعدة الهند.
في هذا السياق، أفادت وكالة رويترز بأنَّ نيودلهي تفكر في إمداد مصر بخط ائتمان، على أن تسدد مصر دينها في صورة أسمدة وغاز طبيعي. وهنالك أيضاً حديث عن التجارة بالروبية، بسبب نقص الدولار في مصر. وكما هو الحال مع الصينيين، يعتبر الهنود مصر بوابة لإرسال بضائعهم إلى إفريقيا وأوروبا عبرها.
من المغري بالنسبة لصانعي السياسة والمحللين الأمريكيين النظر إلى الدور المتنامي للهند في المنطقة، عبر منظور تنافس القوى الكبرى مع الصين. إذ يبدو اللعب بـ"ورقة الهند" خطوة "حكيمة" من وجهة نظر واشنطن في اللعبة الكبيرة الجديدة.
ولدى الحكومتين الهندية والصينية تاريخ من العداء، والنزاعات الحدودية، بل وحتى الصراع المسلح. ومن شأن إضافة ثقل موازن إضافي لبكين في الشرق الأوسط أن يكون مساعداً في ظل تحول إدارة بايدن من تقليص التركيز على المنطقة إلى اعتبارها منطقة فرصة لاحتواء الصين. وكانت زيارة مودي إلى واشنطن، في أواخر يونيو/حزيران، هي الأخرى مهرجان حب.
وبالرغم من كل المشاعر الإيجابية في العلاقات الأمريكية الهندية، يبدو من غير المرجح أنَّ نيودلهي ترغب في أن تكون الشريك الاستراتيجي الذي تتصوَّره واشنطن. فالعلاقة التي يبدو أنَّها تراود أذهان البعض في واشنطن ليست مكاناً طبيعياً بالنسبة للهند، التي لطالما كانت حذرة من ربط نفسها بالولايات المتحدة، وآخرها في الحرب الروسية في أوكرانيا.
وحين يتعلَّق الأمر بالشرق الأوسط، تختلف الهند بشدة عن الولايات المتحدة (وإسرائيل) بخصوص إيران، ومن ثم يرى ستيفن كوك أنه على واشنطن أن تخفض من سقف توقعاتها بشأن ما يعنيه توسع علاقات الهند الأمنية والاقتصادية بالشرق الأوسط. ومن المستبعد أن تصطف الهند إلى جانب الولايات المتحدة، لكن من المستبعد أيضاً أن تُقوِّض نيودلهي واشنطن على نحو ما فعلت كلٌّ من بكين وموسكو.
يعكس تطور مكانة الهند في الشرق الأوسط تغيُّر النظام الدولي، واستعداد- بل وربما حتى حماس- البلدان في المنطقة للاستفادة من التعددية القطبية الجديدة. ولا يوجد الكثير مما يمكن للولايات المتحدة عمله بشأن هذا التطور، بل وربما تستفيد منه بطريقة تنطوي على مفارقة.
فإذا ما كان شركاء الولايات المتحدة الشرق أوسطيون يتطلَّعون لبديل لواشنطن، فمن الأفضل أن تكون نيودلهي بين الخيارات. وربما لا تكون الولايات المتحدة القوة الكبرى التي لا تُنازَع في المنطقة بعد الآن، لكن ما دامت الهند تُوسِّع حضورها في الشرق الأوسط، فلا روسيا ولا الصين يمكنهما تولي ذلك الدور.