قاد ناريندرا مودي جلسة يوغا في الأمم المتحدة، بدا خلالها كزعيم روحاني يدعو للسلام والتسامح، فكيف يسعى رئيس الوزراء اليميني إلى تبييض صورة الهند رغم قمع الأقليات وخاصة المسلمين؟
كان مودي قد وصل، الثلاثاء 21 يونيو/حزيران، إلى الولايات المتحدة في زيارة دولة، وتوقف أولاً في نيويورك، حيث مقر الأمم المتحدة، وقاد جلسة لرياضة اليوغا مدتها ساعة شارك فيها أكثر من ألفين من الدبلوماسيين والمسؤولين في المنظمة الأممية.
ثم توجه رئيس الوزراء الهندي إلى البيت الأبيض، الأربعاء، وألقى خطاباً أمام الكونغرس، الخميس، وعقد محادثات مع مضيفه بايدن، في أجواء احتفالية غير مسبوقة، أثارت كثيراً من التساؤلات والشكوك بشأن دوافع "شهر العسل" بين مودي وجو بايدن.
ما قصة اليوم العالمي لرياضة اليوغا؟
اليوغا رياضة روحية تقوم على مبدأ أو فكرة أن جميع البشر مترابطون، وأنهم يجب أن يعيشوا في وئام وتعاون فيما بينهم طوال الوقت بغض النظر عن العِرق أو الدين أو أي شكل آخر من أشكال الاختلاف بين البشر. وترجع جذور هذه الرياضة إلى الشعوب الآسيوية في الأزمان القديمة.
لكن منذ وصول ناريندرا مودي إلى رأس السلطة في الهند عام 2014، بذل جهوداً مكثفة ليتم توصيف اليوغا على أنها "ممارسة هندية قديمة" وسمَّاها "هدية الهند إلى العالم من أجل الصحة والرخاء والسلام".
وفي العام نفسه الذي أصبح رئيساً للوزراء، قدمت حكومة مودي مشروع قرار للأمم المتحدة يقترح تحديد يوم عالمي لليوغا، وحظي مشروع القانون بدعم 175 دولة، ليتم الاحتفال كل عام يوم 21 يونيو/حزيران باليوم العالمي لليوغا وكانت البداية منذ عام 2015.
وجاءت الاحتفالية هذا العام تحت شعار "العالم بأسره عائلة واحدة" للتأكيد على الوجود الصحي لكل إنسان من خلال الممارسة المنتظمة لليوغا، بغض النظر عن أي تمييز، وقاد رئيس الوزراء الهندي الاحتفال العالمي من مقر الأمم المتحدة في نيويورك، بينما قاد نائب الرئيس، جاغديب دانخار، الاحتفالات في الهند من غابالبور، وأقام وزير الاتحاد، أيوش سارباناندا سونوال، مؤتمراً صحفياً في نيودلهي.
وبحسب تقرير لصحيفة Times of India، فإن احتفالات هذا العام، التي يقودها مودي في الأمم المتحدة، هدفها التأكيد على "ملكية الهند الثقافية لممارسة اليوغا حول العالم".
لكن هذا الطرح الذي يصر عليه مودي، بأن اليوغا ممارسة هندوسية وهندية بشكل حصري، يراه كثير من الباحثين والمتخصصين مغالطة تاريخية فادحة تهدف إلى طمس مساهمات عدد من الجماعات الدينية والمجتمعات الأصلية في شبه القارة الآسيوية.
وهذا ما عبرت عنه شينا سود، الأكاديمية ومدربة اليوغا، بقولها لموقع ميدل إيست آي البريطاني إن "هذا الزعم كلام إشكالي؛ لأنه يضع الهند في فخ. فهذا يعني أن الهند كانت في الماضي مكانا مركزيا وأن اليوغا نفسها ممارسة قديمة ولدت في أحضان توجهات أحادية القومية والتفكير"، وهو ما يتناقض تعاليم وأفكار اليوغا نفسها.
وأضافت الأكاديمية الهندية: "مثل هذه المزاعم تلغي التنوع الثقافي والعرقي والروحاني والممارسات الدينية داخل وخارج شبه القارة الهندية (أو جنوب آسيا بشكل عام)، وجميعها تلك العوامل ساهمت في تطور اليوغا على مستوى أوسع".
كيف يستغل مودي الرياضة الروحية؟
ما الذي يريد مودي تحقيقه من هذا الإصرار على جعل اليوغا "ممارسة هندوسية خالصة"؟ لتكون إجابة السؤال واضحة ومبنية على حقائق وليست تحليلات، من المهم إلقاء الضوء على شخصية رئيس الوزراء نفسه وعلى الهند تحت قيادته. فمودي ظهر في الأمم المتحدة، في اليوم العالمي لليوغا، زعيماً روحانياً وداعية سلام ينبذ التمييز بين البشر على أساس عرقي أو ديني أو غيره، فماذا عن سياساته منذ تولى المسؤولية؟
منذ وصول مودي إلى السلطة في الهند عام 2014، بدأت جماعات هندوسية يمينية في شن هجمات لا تتوقف على الأقليات بدعوى أنها تحاول منع التحول الديني، وأقرت عدة ولايات هندية، وتعمل أخرى على دراسة، قوانين مناهضة لحق حرية الاعتقاد الذي يحميه الدستور.
كما أقرت حكومة مودي قانوناً يخص الجنسية قال معارضون له إنه تقويض لدستور الهند العلماني بإقصاء المسلمين المهاجرين من دول مجاورة. والقانون من شأنه منح الجنسية الهندية للبوذيين والمسيحيين والهندوس والجاينيين والبارسيين والسيخ الذين فروا من أفغانستان وبنغلاديش وباكستان قبل 2015.
ويتبنى مودي وحزبه الهندوسي الحاكم، بهاراتيا جاناتا، سياسات قومية هندوسية تزيد الاستقطاب الديني، وبعد وقت قصير من إعادة انتخابه رئيساً للوزراء في 2019، ألغت حكومة مودي الوضع الخاص لإقليم كشمير في مسعى لدمج المنطقة ذات الأغلبية المسلمة بشكل كامل مع بقية أجزاء البلاد.
وللسيطرة على الاحتجاجات الهادرة اعتراضاً على القرار، اعتقلت الإدارة الكثير من القيادات السياسية في كشمير وأرسلت مجموعات شبه عسكرية كثيرة أخرى من الشرطة والجنود إلى الإقليم الواقع بمنطقة جبال الهيمالايا، والذي تطالب باكستان أيضاً بالسيادة عليه. وحظر حزب بهاراتيا جاناتا الذي ينتمي له مودي ارتداء الحجاب في الفصول الدراسية بولاية كارناتاكا. وطالبت جماعات هندوسية متشددة فيما بعد بمثل هذه القيود في ولايات هندية أخرى.
بل إن الأمور وصلت إلى حد دعوات علنية أطلقها مسؤولون ينتمون لحزب مودي بإبادة المسلمين في الهند، ووقتها نشرت صحيفة New York Times الأمريكية تقريراً بعنوان "صمتٌ من قادة الهند إزاء دعوات متطرِّفين هندوس لقتل المسلمين"، رصد قيام المئات من النشطاء والرهبان الهندوس اليمينيين في مؤتمرٍ عُقِدَ الأسبوع الأخير من عام 2021 ليقسموا على أن يحوِّلوا الهند، الجمهورية العلمانية دستورياً، إلى أمةٍ هندوسية، حتى لو تطلَّب ذلك الموت والقتل.
قبلها كانت البشاعة والوحشية، التي أظهرها مقطع فيديو انتشر لقتل شاب مسلم في ولاية آسام والقفز على جثته، قد سلطت مزيداً من الضوء على ما تقوم به حكومة مودي الهندوسية بحق الأقلية المسلمة في البلاد، والتي يزيد عددها عن 200 مليون نسمة يمثلون نحو 15% من عدد سكان الهند.
مودي وتحويل الهند إلى قوة عظمى "هندوسية"
التناقض إذاً صارخ بين الصورة التي يرغب مودي في تصديرها للعالم من خلال "اليوغا" وبين واقع الهند تحت قيادته، وكان هذا التناقض موضوعاً لتحليل نشرته صحيفة The New York Times الأمريكية بعنوان "ملامح الهند الجديدة"، رصد كيف يستند مودي في مواقفه وفي علاقته ببقية الدول إلى كون الهند أكبر ديمقراطية في العالم.
إلا أن دبلوماسيين وخبراء وناشطين يقولون إن حكومة مودي منكبَّة على مشروع لإعادة صياغة الديمقراطية في الهند على هيئة تخالف جميع نماذجها التي سادت البلاد على مدار 75 عاماً من استقلالها، فهي ديمقراطية تتضمن قمع المعارضة، وإضعاف المؤسسات المدنية، وتحويل الأقليات إلى مواطنين من الدرجة الثانية.
وإذا كان زعماء الهند السابقون استغلوا التناحر الديني واستخدموا مؤسسات الدولة سلاحاً في وجه معارضيهم وأداة للبقاء في السلطة، فإن مشروع مودي أشد إحكاماً من ذلك: فهو يعمل على تجميع منهجي لأدوات السلطة بين يديه، ولا يستخدم لذلك وسائل الاستيلاء التقليدية على السلطة، وإنما يعمد إلى وسائل أحكم وأدوم يبتغي بها وسم البلاد بطابع الأيديولوجية الهندوسية وفرضِه على الديمقراطية العلمانية المنصوص عليها في دستور الهند.
في سبيل تلك الغاية، أخضع مودي لإرادته المحاكم ووسائل الإعلام والسلطة التشريعية ومنظمات المجتمع المدني، أي مؤسسات "التحكيم والفصل بين السلطات" التي كانت تحرس ديمقراطية الهند في منطقة تعج بحكومات الانقلاب العسكري، وأنظمة الاستبداد الراسخة.
وفي أثناء قيامه بذلك، فإن الحاجة الماسة إلى بلاده في كثير من قضايا العالم الكبرى، والمصاعب التي تواجه الديمقراطية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، جعلت رد حلفائه الغربيين على ما يفعله بالبلاد رداً ضعيفاً هين الشأن.
وكان هذا واضحاً بشكل جلي من خلال الاستقبال الفخم الذي قابل به الرئيس الأمريكي مودي خلال زيارة الأخير لواشنطن، وهي الزيارة الأولى لرئيس وزراء هندي منذ عام 2009، إذ تسعى أمريكا الآن لاستمالة الهند في صفها بعيداً عن روسيا والصين بأي ثمن.
وبالتالي ليس من الصعب تصور أسباب تلاقي المصالح بين إدارة بايدن، التي أثبتت المواقف الفعلية أن حقوق الإنسان والديمقراطية لم تكن سوى شعارات بالنسبة لها، وبين مودي، الذي يرى في اليوغا الغطاء النموذجي للتستر على السياسات القمعية والعنصرية التي تتبعها حكومته في الداخل.
لكن توظيف اليوغا، تلك الرياضة الروحية التي يمارسها الكثيرون حول العالم، لأغراض سياسية بحتة كان أكثر وضوحاً هذا العام، في ظل التناقض الصارخ بين شعار اليوم العالمي لليوغا "العالم أسرة واحدة"، وبين إقصاء حكومة مودي الهندوسية لجميع الأقليات الأخرى، وبخاصة المسلمون.